مواضيع ذات صلة صلاح سالم ثمة ملاحظة طالما أثبتها التاريخ الثقافي للقرن العشرين، وهي أن الكتابات الكبيرة، الخالدة والمؤثرة، حول الإسلام ونبيه الكريم وصحابته صدرت ليس عن كتاب إسلاميين أو «متأسلمين»، بل عن أقلام مفكرين مسلمين ليبراليين كالدكتور محمد حسين هيكل في سيرتيه عن الرسول الكريم والصديق أبي بكر، والعقاد صاحب سلسلة العبقريات الأكثر كشفاً لجواهر الإسلام العظيمة، واستجلاء لروحانية أبطاله الرواد والمؤسسين. بل إن من كانوا في بدء حياتهم ميالين للإبداع أو قريبين منه، سرعان ما هجروه بمجرد انتمائهم للظاهرة الإسلامية، كسيد قطب، مثلاً. نحن هنا أمام ملاحظة لافتة وتساؤل إشكالي حول مفهوم الكتابة والإبداع، وعلاقتهما بروحانية الإيمان والاعتقاد، وهنا محاولة للتفسير. ينهض الإبداع على ركنين أساسيين: أولهما الموهبة الفطرية والتي تعبر عن نفسها ب «تلقائية»، في صور من الإلهام أو الحكمة أو البيان ولو لم يمارس صاحبها الكتابة، فليس غريباً أن نجد رجلاً أمياً يتسم ب «حكمة فطرية» وإن لم تصل إلى حد التعبير الإبداعي المُنظم. وثانيهما الصنعة التي تكتسب من تعليم مُنظَم، ومهارات تُنمّى بالاجتهاد والدرس. غير أن الركن الأول يحتل الأولوية الكبرى، فالموهوب دون درس واجتهاد قد يصير مبدعاً وإن قل إبداعه، أما المجتهد دون موهبة فقد يكون باحثاً مجيداً في تخصصه، أو حتى معلماً أكاديمياً يخرج من تحت يديه مبدعون كثراً، ولكنه لن يكون أبداً مبدعاً. وهكذا يتأسس المبدع على خلطة سحرية من الموهبة التلقائية، والصنعة المنظمة، تتفاوت نسبتها حسب كل مجال إبداعي، ما ينعكس على العمر الذي ينضج فيه، وهو أمر يشي به علم نفس الإبداع، كما تشي به الملاحظة التجريبية. وهنا نتوقف عند العقاد كنموذج اتخذ من مفهوم «البطولة» مدخلاً لفهم التكوين النفسي لعظماء التاريخ الإسلامي، ممسكاً بالذائقة المتفردة التي صنعت شخصياتهم، وحفزت تضحياتهم الكبيرة في سبيل الإسلام. والسؤال هنا لماذا كان العقاد الأقدر على كشف تلك الملامح البطولية المتفردة قياساً إلى أولئك الكتاب الإسلاميين الذين تربوا على فكر إسلامي خالص، أو انتموا إلى جماعات دينية منظمة، كالإخوان المسلمين؟. لا أتردد في القول إن الكشف عن جوانب التفرد الإنساني في الآخرين يحتاج إلى تحرر وجداني من الاعتقادات الشعبية، وتحرر عقلاني من المسلمات السائدة، وروحانية شفافة تهيم على شتى جوانب الحقيقة الإنسانية، استجلاء لأعماقها، وتلك غاية المبدع. فهو لا يخلق حقائق بل يقدم إضاءات جديدة للوقائع المألوفة، وينفخ الروح في الكلمات المعروفة، الملقاة على قارعة الطريق، ليصوغ منها القصائد والقصص والفلسفات. فالجديد في ما يقدمه المبدع لا ينبع إلا من ذاته ووجدانه ورؤاه الخاصة. لقد تمكن العقاد من الكشف عن جوانب تفرد أبطال الإسلام الكبار لأنه كان أصلاً يمتلك ذلك الوجدان المتفرد، والشخصية المتمردة، التي انعكست عليها جوانب تفرد وتمرد هؤلاء الأبطال، ما يعني أن الإنسان لا يكون قادراً على كشف أبعاد لا يوجد ما يضاهيها لديه. فالإبداع الحقيقي صورة للمبدع، ولن تجد إنساناً غير متمرد يبحث في صور البطولة وأنماط التفرد، على منوال العقاد الذي عرف عنه التمرد العميق والتحرر الفائق حتى أنه لم يتورع عن سب الذات الملكية دفاعاً عن حق رآه، ما أودى به إلى السجن الذي لم يفقده لا شجاعة الروح ولا أصالة التمرد. فخرج من سجنه أشرس في الدفاع عن الحرية. ولم يكن ذلك غريباً على العقاد بل امتداداً لما كان في شخصيته من جوانب اعتداد بالذات، واعتزاز بالرأي، وقدرة شديدة على الاستغناء عن الآخرين، ولم يكن في ذلك نوع من الغرور بل نوع عميق من الشعور بالثقة والجدارة، لا يمكن له أن يكون من دون إيمان عميق بالله، ولكنه ذلك النوع الرهيف والعميق من الإيمان، الأقرب إلى روحانية الحدس الصوفي، الموصول بالله مباشرة، مدركاً المعنى الحقيقي لعقيدة التوحيد: «لا إله إلا الله»، حيث تثبت الوحدانية الحقة لله، الحرية الكاملة للإنسان، خصوصاً لو أدرك المغزى العميق للحديث القدسي المؤكد أن أهل السماء والأرض ولو اجتمعوا لا يستطيعون أن يضروه أو ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له أو عليه، إذ يدرك معه أن قدره لم يعد ملكاً لسواه، وأن أمره كله بين يدي خالقه، ولأن الله عادل ورحيم، يتحرر الإنسان من كل سطوة عدا ضميره، فيما لا يساوي حكام العالم عنده شيئاً. وفي المقابل، ولأن التربية العقلية لدى الجماعات الدينية، تغفل هذا الجانب العميق في الإيمان، بينما تحرص على استدعاء جوانب التقليد والتراث فيه، حيث ينمو دور الصنعة ويقل دور الموهبة لأنها جوانب اتباعية، تعلم الناس كيف يكونون حواريين وأتباعاً، لا متمردين وأحراراً، يستندون لا إلى فهمهم الوجداني الخاص للحقيقة الإلهية، بل إلى الفهم المنقول عن أساتذتهم وشيوخهم، فيتعلمون القدرة على التلقي والإتباع، وغيرها من مسالك تتناسب مع مطامح قادتهم لتقنين قواعد السمع والطاعة، وتشكيل عقلية القطيع، ليسهل على أولئك القادة تحريك الأتباع ودفعهم في الاتجاه الذي يريدون. ولذا كان أولئك أبعد الناس عن استكشاف جوانب التفرد والتمرد لدى الآخرين، لأنهم لا يملكون من تلك الجوانب ما يدفعهم للشعور بها وتقديرها. وحتى لو كان بعضهم يمتلك قدراً من ملكاتها فإن نمط التعليم الذي يتعرضون له يقتلها فيهم، عندما يحضهم على الذهاب إلى جوانب أخرى بعيدة هنا؟. وهنا تتبدى حقيقة كاشفة وهي أن الفهم العميق للإسلام يحتاج إلى وعي خلاق يعتقد بجوهر الإيمان لا طقوسه، ويميل إلى وصل نفسه بالحقيقة الإلهية، أكثر مما يميل إلى إتباع فهم الأسلاف لها، ويعول على حرية الضمير أكثر من التقليد. ومثل هذا الوعي يوجد على نحو طبيعي في فضاءات ليبرالية، تؤمن بالحرية، وتعتقد بقيمة الإنسان في ذاته، ولكن من الصعب أن يوجد ضمن جماعات سلفية، تقوم على تراتبية تنظيمية وتقاليد اتباعية، تستريح للموروث، وتناصر المألوف، وتنهض على قواعد السمع والطاعة.