عصام نعمان قُتل نظام لبنان السياسي، أو كاد، ثلاث مرات لكنه لم يمت . قُتل أولَ مرة في الحرب الأهلية 1975-،1990 وفي حرب "إسرائيل" العدوانية على لبنان سنة 1982 . "القتل"، بالمعنى السياسي، يعني فَقْد روح التوافق الوطني، وانهيار المؤسسات العامة، وسيادة قوى الأمر الواقع . لم يمت النظام في الحربين الأهلية و"الإسرائيلية"، لأن قيادات سياسية مستنيرة أمكنها التجاوب مع مساعٍ عربية ودولية لإنتاج اتفاق الطائف سنة 1989 الذي استعادت به روح التوافق إلى جسد النظام، وأعادت النظر في معادلة المحاصصة بين أركان شبكته السياسية الحاكمة . قُتل النظام ثاني مرة يومَ اغتيال الرئيس رفيق الحريري منتصفَ فبراير/شباط 2005 . فقد سارعت القوى المعادية للمقاومة ولسوريا، الأجنبية والمحلية، إلى استغلال الحدث الجلل على نحوٍ بالغ الشدة والتطرف أنتج ما اصطلح على تسميتها "ثورة الأرز" (قوى 14 آذار) . جريمة اغتيال الحريري وردود فعل قوى 14 آذار المنظمة أدت إلى قتل النظام من دون التسبّب في موته . فقد أفقدته مرتكز التوافق الوطني، وشلّت المؤسسات العامة، وأعادت قوى الأمر الواقع إلى النشاط . ذلك كله دفع دول الغرب الأطلسي إلى تشديد الضغط على سوريا لسحب قواتها من لبنان الأمر الذي تم أواخرَ إبريل/نيسان 2005 . ثم جرى دعم هذه الخطوة بإجراء انتخابات نيابية بعد نحو شهرين ما أدى إلى فوز قوى 14 آذار بأكثرية مريحة . بذلك أعيدت الروح إلى جسد النظام المترهل . قُتل النظام ثالث مرة في حرب "إسرائيل" العدوانية على لبنان سنة 2006 لكنه لم يمت . ذلك أن نجاح المقاومة في صدّ الجيش "الإسرائيلي" الغازي ودحره، حال دون تمكين العدو من اجتياح البلاد وإقامة ميزان قوى داخلي مائل لمصلحة القوى المحلية المعادية للمقاومة والقوى الوطنية المتحالفة معها . لكن أمكن إحياء النظام المترنّح في اجتماع الدوحة الذي شاركت فيه قوى 8 آذار المعارضة، آنذاك، وقوى 14 آذار، وأنتج تسوية قوامها: انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وتأليف حكومة وفاق وطني يكون لقوى 8 آذار فيها ثلث ضامن أو معطّل، واعتماد قانون الانتخاب للعام 1960 أساساً لانتخابات العام 2009 . منذ تسوية الدوحة والنظام يتعرّض لمحاولات قتل متدرجة: اعتداءات "إسرائيل"، ونزاعات قوى 14 و8 آذار داخل الحكومة الوفاقية وخارجها، وتفاقم الدين العام الذي تجاوز ال 60 مليار دولار، وإسقاط حكومة سعد الحريري الائتلافية مطلعَ ،2012 وقيام حكومة نجيب ميقاتي بمعزل عن قوى 14 آذار، واندلاع الحراكات الشعبية في سوريا وتحوّلها ثورةً مسلحة نجم عنها نزوح عشرات آلاف السوريين إلى الدول المجاورة وخصوصاً لبنان . غير أن التحدي الأخطر الذي يتهدد النظام بالقتل المميت هذه المرة هو عجز قوى 8 و14 آذار عن عقد حوار وطني للتوافق على قانون ديمقراطي للانتخابات يحل محل قانون العام 1960 الذي رفضته جميع القوى الموالية والمعارضة والمستقلة . ذلك أن عدم التوافق على قانون انتخابات بديل سيؤدي إلى عدم إجراء الانتخابات في موعدها، وبالتالي وقوع أحد الاحتمالات الآتية: * استقالة حكومة نجيب ميقاتي وتعذّر تأليف حكومة بديلة قبل موعد إجراء الانتخابات . * انسحاب كتلة الوسط (وليد جنبلاط) من الحكومة احتجاجاً على عدم إجراء الانتخابات في ظل قانون الانتخاب النافذ (1960)، ما يؤدي إلى انفراط ميزان القوى الحاكمة حالياً واحتمال قيام ميزان قوى جديد نتيجةَ تحالف جنبلاط مع قوى 14 آذار . * تأليف حكومة جديدة نتيجة تحالف قوى 14 آذار مع جنبلاط وسط معارضة شديدة من قوى 8 آذار والقوى الوطنية الأخرى المعارضة لقوى 14 آذار ولقانون الانتخاب للعام 1960 . * انفجار الوضع سياسياً وأمنياً نتيجة انفتاح حكومة 14 آذار على المعارضة السورية المسلحة وانتقال الصراع المسلح إلى لبنان وربما ضد المقاومة تحديداً . * انهيار النظام نتيجةَ الأزمة السياسية المتفجرة والتطورات الخطرة آنفة الذكر، ما يؤدي إلى قتله . "قتلُ" النظام، هذه المرة، سيؤدي إلى موته، بمعنى تعذّر إحيائه، كما في الماضي، بإعادة النظر في معادلة المحاصصة القائمة بين أركان شبكته الحاكمة . فقد استشرت الطائفية والمذهبية والمحسوبية والفساد، وتعمّقت العصبيات، وتشرذمت الفئات السياسية والاجتماعية، وانهارت هيبة قوى الأمن، وتعمّم الفلتان الأمني، وشاع الفقر حتى بات يمسّ أكثر من نصف اللبنانيين، وانعدمت الثقة بالمسؤولين على نحوٍ غير مسبوق، واتسع نطاق التعامل مع العدو الصهيوني والقوى الأجنبية . وضع لبنان بعد انهيار النظام وموته لن يسمح، على الأرجح، بقيام نظام بديل معدّل من معدنه وعلى شاكلته . النظام البديل سيكون أشبه بكونفدرالية كيانات (كانتونات) مذهبية يدور بعضها في فلك "إسرائيل" وبعضها الآخر في فلك سوريا إذا تمكّنت القوى الوطنية فيها من المحافظة على وحدة البلاد وعروبتها ومركزية دولتها . حيال هذه التحديات والأخطار الماثلة، يجدر بالقوى الوطنية الحية في الشعب وفي الحكم أن تتحمّل مسوؤلياتها الوطنية بغية إخراج البلاد من أزمتها الخانقة على نحوٍ مغاير لِما كان معتمداً في الماضي . فلا سبيل ولا جدوى من انتظار القوى الإقليمية والدولية لتتوصل في ما بينها إلى معادلة لتوزّع المصالح ومناطق النفوذ، لتقوم بفرضها لاحقاً على اللاعبين الصغار من بلدان المنطقة . بالعكس، يجب أن تتوافق القوى الحية، مواطنين ومسوؤلين، على برنامج متكامل للإنقاذ الوطني وإعادة تأسيس لبنان دولةً ووطناً، وتنفيذه من خلال حكومة وطنية جامعة . البرنامج المنشود هو اتفاق الطائف نفسه بما هو التسوية التاريخية التي ارتضاها اللبنانيون في مرحلة الانتقال الإقليمي والعالمي من نظام كوني إلى نظام آخر . يمكن الاضطلاع بمسؤولية تنفيذ هذا البرنامج بالخطوات الآتية: * أولاً، يأخذ رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة المبادرة لإجراء مشاورات مع القوى السياسية الممثلة في مجلس النواب، كما الناشطة في الحقل العام لتأليف حكومة وطنية جامعة، بصلاحيات استثنائية، تمثل لبنان بشتى أطيافه . ثانياً، تتعهد الحكومة بوضع التشريعات الآتية وتطلب صلاحيات تشريعية استثنائية لتنفيذها: (أ) تأجيل الانتخابات النيابية لمدة سنة كاملة، وبالتالي تمديد ولاية مجلس النواب لمدة مماثلة . (ب) وضع قانون بإنشاء جمعية تأسيسية مؤلفة من 128 عضواً يُنتخب من قبل الهيئة الناخبة في لبنان كله كدائرة انتخابية واحدة، وعلى أساس التوزيع الطائفي والمذهبي المعمول به حالياً، على أن تكون ولايتها لمدة سنة كاملة من تاريخ انتخابها، ويفوز بعضوية الجمعية المرشحون الذين ينالون أعلى الأصوات في فئات المقاعد المخصصة لطوائفهم، على أن يتمّ التصويت وفق نظام التمثيل الأكثري على أساس قاعدة "لكل ناخب صوت واحد" . (ج) تختص الجمعية التأسيسية بوضع التشريعات اللازمة لتنفيذ أحكام المادة 22 من الدستور لاسيما لجهة انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، واستحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف، وتحديد صلاحياته في القضايا المصيرية والأساسية، وتعديل أحكام الدستور لتأتلف وتنسجم مع التشريعات المقرة لتنفيذ أحكام المادة 22 منه، وكذلك قانون انتخاب كلٍ من مجلسيّ النواب والشيوخ . (د) يجري إقرار التشريعات المتعلقة بتنفيذ أحكام المادة 22 من الدستور ومتفرعاتها بأغلبية أعضاء الجمعية، وتكون التشريعات دستورية وشرعية ونافذة من تاريخ نشرها في الجريدة الرسمية بتوقيع رئيس الجمهورية، وهي غير قابلة للطعن أو الاعتراض أو إعادة النظر من جانب أي مرجع سياسي أو قضائي . ثالثاً، خلال مهلة أقصاها شهران من تاريخ انتهاء ولاية كل من مجلسيّ النواب والشيوخ، تكون الحكومة الوطنية الجامعة ملزمة بإجراء انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ وفق أحكام قانون الانتخاب لكلٍ منهما اللذين تكون الجمعية التأسيسية قد أقرتها ووضعتهما موضع التنفيذ . رابعاً، تستقيل الحكومة الوطنية الجامعة فور انتهاء انتخابات مجلسيّ النواب والشيوخ، ويصار إلى تأليف حكومة جديدة وفق أحكام الدستور المرعية الإجراء . خامساً، تصبح التعديلات الدستورية التي شرّعتها الجمعية التأسيسية جزءاً لا يتجزأ من الدستور اللبناني النافذ . بهذه المبادرة الدستورية الثورية يتمكّن اللبنانيون لأول مرة في التاريخ من تقرير مصيرهم بإعادة تأسيس دولة وبناء وطن يضمنان لهم العيش المشترك وحكم القانون في دولة مدنية ديمقراطية بعيداً من تدخلات قوى الخارج . هل يضحي أهل السلطة، فيمنحوا الناس، كل الناس، بلا تفرقة وتسلط واحتكار، حرية الاختيار وحق تقرير المصير؟