فجأة وقبل نهاية عام ،2012 شهدت الأزمة السورية تطورات متلاحقة على الصعد كافة، حيث بدت كل الأطراف في سباق مع الزمن، كلٌ ليحقق هدفاً معيناً أو ليفرض على الأطراف الأخرى واقعاً جديداً يغير معطيات الأزمة في العام الجديد . لكن القاسم المشترك في تلك التطورات المتلاحقة، هو ما يمكن تسميته "عودة الإبراهيمي"، حيث كثف المبعوث العربي الأممي نشاطه وتحركاته ليتصدر المشهد السوري اتصالات ومباحثات يجريها الإبراهيمي مع مختلف الأطراف بهدف واحد، هو تطويق الانفلات الأمني الميداني الذي وصلت إليه الأزمة وأصبح يهدد بانهيار الدولة السورية . فأصبحت مهمة الإبراهيمي الملحة هي إنقاذ سوريا، الأمر الذي لايزال يجابه بعقدة مصير الأسد بما يمثله من مصالح وارتباطات وجماعات، سيكون تجاهلها أو قهرها كفيلاً بتقويض الحل المأمول . دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة شعارها "البحث عن مخرج"، حيث يسعى كل طرف إلى إيجاد مخرج له من الأزمة بعد أن بلغت من التأزم مبلغاً يصعب معه البحث عن خيارات مثالية أو العودة إلى مراحل سابقة، لذا شهدت الأزمة في الأيام القليلة الماضية تحركات محمومة في جميع الاتجاهات ومن جانب كل الأطراف، حيث بدا واضحاً أن الجميع يدرك ضرورة، بل حتمية، الخروج من الوضع الحالي بعد أن أصبح يمثل مأزقاً جماعياً لا يستثني أحداً . بيد أن المعضلة القائمة أن المخرج المطلوب ليس واحداً، بل إن ما يمثل مخرجاً ملائماً لطرف هو بذاته مكمن خطر داهم على طرف أو أطراف أخرى . وتفكيك هذا التعارض هو محور النقاشات والاتصالات الجارية منذ أسبوعين بين أطراف الأزمة الرئيسة والأخرى المعنية بها . تغيير الحسابات منذ شهور وصلت الأوضاع في سوريا إلى حالة من التردي لم يعد وارداً معها الحديث عن العودة إلى الوراء، أو ترميم ما تم تدميره دون تغييرات كبيرة وجذرية، وهو ما أقر به النظام في دمشق بعد ما يزيد على عام ونصف العام من اندلاع الثورة ومواجهتها بعنف مفرط . بيد أن الرهان الرسمي في دمشق كان على الخروج من المأزق الحاصل ولو بخسائر كبيرة، على أن تتم استعادة السلطة والسيطرة على الأمور تدريجياً والقيام بإصلاحات، وتغيير آليات الحكم وطريقة إدارة الدولة، بحيث يتم تجنب هكذا أزمات كبيرة مستقبلاً . ولا يتعارض هذا المنطق مع القناعات الأساسية التي لم تتغير لدى النظام السوري، بأن ما جرى ويجرى في سوريا مؤامرة كبرى، إن لم تكن بدايتها من الخارج، فعلى الأقل تم توظيفها وتبنيها خارجياً . فتحول الأمر من تظاهرات تلقائية قوبلت باستهانة وعُوملت بأداة أمنية غشيمة، إلى تضافر وتنسيق متعدد المستويات والأشكال بين مرارة داخلية وإدارة خارجية . هذا هو تقييم النظام السوري لمجريات الأزمة من بدايتها وحتى الآن . وهو ما يتضح بجلاء من السلوك والمواقف المعلنة الرسمية الصادرة من دمشق، والتي شهدت تحولات مهمة في الآونة الأخيرة كشفت إدراكاً متأخراً لسوء تقدير عمق الأزمة والأسلوب الأمثل لمعالجتها من البداية . من هنا تغيرت المفاهيم والمهام المتعلقة بمحاولات إنهاء الأزمة أو تسويتها . فحسابات دمشق والمعارضة السورية اختلفت كثيراً عما كانت عليه قبل أسابيع قليلة، ما انعكس بدوره على تعريف الأطراف الأخرى للأزمة وطبيعتها في مرحلتها الحالية . فعلى الجانب السوري الرسمي، ومن ورائه موسكو وطهران، لم يعد الهدف المطلوب كسر المعارضة أو القضاء على (التمرد والمؤامرة)، وإنما الخروج من الأزمة بأقل الخسائر تكتيكياً وإستراتيجياً، بغض النظر عما إذا كان ذلك يعني خروجاً فعلياً لبشار الأسد من السلطة أو غير ذلك . بينما على جانب المعارضة السورية، لم تعد القضية تشكيل حكومة وطنية شاملة أو تحديد موعد لانتخابات مبكرة أو تفويض الصلاحيات الرئاسية لمسؤول آخر . فبعد توحيد المعارضة تحت لواء الائتلاف الوطني، واعتراف عدد كبير من الدول به ممثلاً شرعياً للشعب السوري، ارتفع سقف المطالب إلى حد إنهاء نظام الحكم الحالي وخروج بشار من السلطة ومن سوريا كحد أدنى لأي حل سياسي . وذلك على الرغم من أن الوضع على الأرض قد لا يعني بالضرورة أن هزيمة الأسد وشيكة أو حتى مؤكدة، فمحاولات المعارضة انتزاع السيطرة على حلب من قوات النظام قد فشلت حتى الآن، وفتح جبهة دمشق حقق بالفعل بعض المكاسب للمعارضة، لكنه أيضاً تطلب تكلفة عالية جاءت على حساب جبهات أخرى، بينما لم تتم خلخلة السيطرة الرسمية على دمشق . وفي المقابل فإن قوات النظام أصبحت تفتقد القدرة على تعويض ما تحققه المعارضة من انتصارات أو استعادة ما تستولي عليه من مواقع، خصوصاً مع تزايد معدل الانشقاقات في الجيش السوري وارتفاع مستواها إلى قيادات مهمة، سواء في الاستخبارات أو في الأفرع الأخرى، كان آخرها قائد الشرطة العسكرية في دمشق . على خلفية ذلك التباين في المواقف والتحول في الحسابات والتطورات الميدانية، يسعى بعض المواقف، خصوصاً الجامعة العربية والأمم المتحدة ممثلين في المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي، إلى إنهاء الموقف المتدهور في سوريا بأقل الخسائر الإنسانية والسياسية، بحيث يمكن الحفاظ على الدولة السورية ومنع انزلاقها إلى حالة من التفتت الشامل وليس فقط التقسيم . وإلى حد كبير يمكن العثور على مساحة تقاطع حول هذا الموقف بين عدة أطراف بينها بعض الدول الغربية فضلاً عن روسيا، حيث يمثل انهيار الدولة السورية مصدر قلق بالغ ليس لوجود مخاطر محددة محتملة ستنجم عنه، وإنما لغموض تلك النتائج وما قد تحمله معها من مخاطر غير محدودة ولا محددة على مصالح إقليمية ودولية . لذا تحولت وجهة التعامل الدولي مع الأزمة في الأسابيع الماضية من تعارض واضح في تقييم الموقف، وبالتالي اختلاف حول طريقة إنهاء الأزمة حسب إدراك كل طرف لمصالحه المرتبطة بالحل المطلوب، إلى التوافق الضمني على ضرورة الحل بشكل إرادي يتم التخطيط له وترتيبه بدلاً من ترك مفاعيل الأزمة تتحرك تلقائياً، ثم يصعب السيطرة عليها لاحقاً وتحجيم تداعياتها التي قد تطال أي طرف حينئذ . على هذه الخلفية جاء التحول الواضح في طريقة إدارة الأزمة من جانب الدول الكبرى خصوصاً الولاياتالمتحدةوروسيا في الأسبوعين الماضيين . وهو ما انعكس مباشرة على النشاط المفاجئ لدور وتحركات الأخضر الإبراهيمي المبعوث الأممي العربي . وكذلك في بوصلة تحركاته والأرضية التي ينطلق منها في جولاته المكوكية التي قام بها . عودة الإبراهيمي قبل شهرين تقريباً، تحديداً في عيد الأضحى، كان الأخضر الإبراهيمي قد حاول التوصل إلى تهدئة بين قوات النظام السوري والمعارضة . وبعد محاولات مضنية ومفاوضات شاقة تم التوصل إلى تهدئة بلا ضمانات وبلا أي مقومات حقيقية على الأرض تدفع أياً من الجانبين إلى الالتزام بها . لذا لم يكن مستغرباً وقتئذ أن تنهار التهدئة في يومها الأول، بل بعد ساعات فقط من موعد سريانها . وكان فشل هذه الخطوة الجزئية إيذاناً بأن مهمة المبعوث العربي الأممي برمتها لم تحقق نجاحاً يذكر، بعد أن أخفق قبلها في التوصل إلى تسوية شاملة، أو حتى آلية للتفاوض والخروج من الأزمة بشكل سياسي . وجرت مياه كثيرة في نهر الأزمة المتدفق بالتفاعلات والتطورات التي سبقت الإشارة إليها، ما دفع الإبراهيمي إلى الظهور على الساحة مجدداً، لكن بمهمة جديدة وبمنطلقات جديدة تستجيب للواقع الجديد الذي تبلور خلال هذين الشهرين . تنطلق مهمة الإبراهيمي الجديدة من فكرة أن استمرار الوضع القائم في سوريا سيفضي في النهاية وربما بشكل عاجل ليس فقط إلى انهيار الدولة السورية، بل أيضاً إلى حالة من الفوضى الشاملة ستلقي بتبعاتها وظلالها الخطيرة على المنطقة كلها، فضلاً عن الواقع الإنساني المرير الذي يزداد سوءاً بمرور الوقت، والذي تتحمل أعباءه أطراف إقليمية ودولية قد تعجز عن الاستمرار في الاضطلاع بمواجهتها ما لم يتم تطويق الأزمة وتحجيم التداعيات الإنسانية المتفاقمة الناجمة عنها . مفاد هذه المنطلقات أن التعامل مع الأزمة بشكل سياسي عاجل، أصبح مصلحة لعدة أطراف، بغض النظر عن الحسابات الضيقة الخاصة بالمصلحة المباشرة لكل طرف في صياغة حل معين أو في عدم الحل أصلاً على الأقل حالياً . من هنا جاء توصيف الإبراهيمي للوضع الراهن مطلع هذا الأسبوع بأن الأزمة السورية بين احتمالين: حل سياسي أو جحيم . هذا التوصيف بذاته يشي، ضمناً، بأن الإبراهيمي غير متأكد من فرص الحل السياسي، وأن ثمة احتمالاً قوياً لحدوث سيناريو "الجحيم" لا يقل عن احتمال الحل . وإلا لأعلن الإبراهيمي ذلك بشكل واضح ولأبدى تفاؤلاً بقرب الحل والتسوية، أياً كانت ملامحها . لكن في المقابل فإن المعروف عن الرجل أنه يفضل التكتم وعدم استباق الأمور حتى تنضج . خاصة أن السوابق لا تدعو إلى التفاؤل السريع أو الاطمئنان إلى ثبات المواقف أو الإشارات الإيجابية التي قد يتلقاها وبالتالي التوافقات التي قد يتم التوصل إليها . الأسد أم الدولة؟ بالتوازي مع المتطلب المبدئي المتمثل في تحرك أكثر فعالية من الأطراف المعنية بالأزمة بالضغط على طرفيها الأصليين، يبدو أن الإبراهيمي حدد أسساً للحل السياسي وإن لم يعلن ذلك صراحة . فقد كشف أن صيغة اتفاق جنيف هي الأكثر صلاحية للبناء عليها والتوافق حولها كمدخل لحل سياسي عملي . وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الطرح روسي بالأساس وتتمسك به موسكو منذ عدة أشهر، تحديداً منذ إبرام هذا الاتفاق في 30 يونيو/ حزيران 2012 . وملامح هذا الاتفاق تتلخص في تشكيل حكومة انتقالية تتمتع بصلاحيات كاملة إلى حين إجراء انتخابات جديدة، وهو ما رفضه الأسد وقتها ولم يلتزم به . الجديد اليوم أن دمشق لا تمانع في هذا، وهو ما أكدته مختلف الاتصالات والمشاورات التي جرت في الأيام الأخيرة، سواء بشكل مباشر مع النظام أو من خلال وسطاء، خصوصاً موسكو . ثم تم إعلانه رسمياً من جانب رئيس الوزراء السوري وائل الحلقي، الاثنين الماضي (قبل ثلاثة أيام)، عندما ذكر أن حكومته تتجاوب مع أي مبادرة إقليمية أو دولية لحل الأزمة بالحوار والطرق السلمية . وذلك في استجابة مباشرة وسريعة (في اليوم التالي مباشرة) لإعلان الإبراهيمي أن لديه مقترحاً للحل قد يحظى بموافقة الجميع . وكان لافتاً أن رئيس الوزراء السوري كشف عن موقف دمشق في خطاب ألقاه في مجلس الشعب السوري ونقله التلفزيون الرسمي . فيما يمكن اعتباره خطوة تمهيدية من جانب دمشق لتحول جذري في الموقف من الحلول السياسية بشكل عام، ومن الحل القائم على توافق جنيف بصفة خاصة . في التفاصيل هناك جوانب قد تستغرق بعض الوقت في تحديدها والتوافق عليها، من بينها طبيعة النظام السياسي الذي سيتم اعتماده بعد تشكيل حكومة، إذا كان رئاسياً أم برلمانياً، بما يعنيه ذلك من إجراء انتخابات تشريعية أم رئاسية مباشرة . وهو ما يفتح الباب مجدداً أمام وضعية الرئيس السوري الحالي ومصيره في ظل هذا الحل المرشح للقبول من مختلف الأطراف . وهذه هي المعضلة الكبرى التي لم يتم التوصل إلى حل بشأنها، ولاتزال تمثل عقبة حقيقية أمام الانتهاء سريعاً من الحل قبل أن تنهار الدولة السورية . وجوهر المعضلة أن المرونة التي أبدتها دمشق مؤخراً تحت وطأة الانكسارات العسكرية والضغوط الخارجية خصوصاً بعد التحول في الموقف الروسي، لم تصل بعد على حد قبول الخروج من السلطة بشكل كامل، أو ربما بشكل مباشر وسريع، وذلك نتيجة الامتدادات والتعقيدات المشار إليها الخاصة بأن المسألة ليست في شخص بشار، وإنما فيما يمثله من مصالح وتكوينات اجتماعية ومؤسسية واقتصادية . تلك هي المعضلة الحقيقية التي تواجه الإبراهيمي في مهمته الجديدة، فإذا كانت مهمته هي إنقاذ سوريا الدولة والمجتمع والشعب من الانهيار الكامل والتحول إلى صومال أخرى، كما ذكر صراحة لدى وجوده في الجامعة العربية الأحد الماضي . فإن تلك المهمة التي قاربت على النجاح في التفاصيل الإجرائية المتعلقة بالحكومة والتشارك في السلطة وإنهاء القتال، لاتزال حائرة أمام عقبة وجود أو رحيل "الأسد"، ليس فقط الشخص، لكن ما ومن يمثله الأسد سواء في الداخل أو في الخارج . [email protected]