محافظ البيضاء يتفقد سير العمل بمشروع تركيب منظومة الطاقة الشمسية بمؤسسة المياه    صحيفة عبرية: التطبيع مع السعودية يعتمد على التغيير السياسي بإسرائيل    القواعد الإماراتية في اليمن    هزة أرضية بقوة 4.2 درجة قبالة شواطئ اللاذقية    مواجهة المنتخبات العربية في دور ال16 لكأس إفريقيا 2025    عقول الحمير والتحليلات الإعلامية: سياسي عماني يفضح المزاعم حول المؤامرة الإسرائيلية في الجنوب    الترب:أحداث حضرموت كشفت زيف ما يسمى بالشرعية    السعودية والإمارات سيناريوهات الانفجار الكبير    الجنوب ساحة تصفية حسابات لا وطن    وفاة المهندس هزام الرضامي أثناء قيامه بإصلاح دبابة جنوبية بالخشعة بوادي حضرموت    الحلف يدعم خطوات المجلس الانتقالي ويؤكد على شراكة حقيقية لحفظ الأمن الإقليمي    مباريات ثمن نهائي كأس الأمم الأفريقية    رئيس مجلس القيادة يطالب بموقف دولي موحد تجاه التصعيد الأخير للانتقالي    صنعاء.. جمعية الصرافين تعمم بإعادة وإيقاف التعامل مع شركات صرافة    الخارجية العمانية تصدر بيانا بشأن الوضع شرق اليمن    مجلس الوزراء السعودي يناقش الوضع في اليمن والصومال ويوجه دعوة للامارات    اتحاد حضرموت يتأهل رسميًا إلى دوري الدرجة الأولى وفتح ذمار يخسر أمام خنفر أبين    الافراج عن دفعة ثانية من السجناء بالحديدة    الدفاع الإماراتية تصدر بيانا بشأن إنهاء تواجدها العسكري في اليمن    ضبط متهمين بقتل شخص وإصابة اثنين قرب قاعة الوشاح    اللقاء الأسبوعي السادس بين الحكومة والقطاع الخاص يؤكد الشراكة في دعم الاقتصاد الوطني    وزارة الاقتصاد والصناعة تحيي ذكرى جمعة رجب بفعالية خطابية وثقافية    خلال 8 أشهر.. تسجيل أكثر من 7300 حالة إصابة بالكوليرا في القاعدة جنوب إب    الأرصاد يحذر من تشكّل الصقيع ويدعو المزارعين لحماية محاصيلهم    توجه حكومي لحماية الصناعة المحلية: تسجيل 100 مشروع جديد وفريق فني لحل إشكالات الضرائب    المعادن النفيسة تسترد عافيتها: الذهب يصعد 1% والفضة تقفز 3%    تأهل 14 منتخبا إلى ثمن نهائي أمم أفريقيا.. ووداع 6    نائب وزير الثقافة يزور الفنان محمد مقبل والمنشد محمد الحلبي    الصحة: العدوان استهدف 542 منشأة صحية وحرم 20 مليون يمني من الرعاية الطبية    الصحفي والأكاديمي القدير الدكتور عبد الملك الدناني    سفر الروح    بيان صادر عن الشبكة المدنية حول التقارير والادعاءات المتعلقة بالأوضاع في محافظتي حضرموت والمهرة    صنعاء.. الحكومة تدرس مشروع برنامج استبدال سيارات المحروقات بالسيارات الكهربائية    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل والخدمة المدنية والتأمينات    فريق السد مأرب يفلت من شبح الهبوط وأهلي تعز يزاحم على صدارة تجمع أبين    النفط يرتفع في التعاملات المبكرة وبرنت يسجل 61.21 دولار للبرميل    لملس يناقش أوضاع المياه والصرف الصحي ويطّلع على سير العمل في المشروع الاستراتيجي لخزان الضخ    أذربيجان تؤكد دعمها لوحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه    لوحات طلابية تجسد فلسطين واليمن في المعرض التشكيلي الرابع    الصين تدعو إلى التمسك بسيادة اليمن ووحدة وسلامة أراضيه    إدارة أمن عدن تكشف حقيقة قضية الفتاة أبرار رضوان وتفند شائعات الاختطاف    صنعاء.. المالية والخدمة المدنية تصدران بيانًا مشتركًا بشأن المرتبات    قراءة تحليلية لنص "من بوحي لهيفاء" ل"أحمد سيف حاشد"    بسبب جنى الأرباح.. هبوط جماعي لأسعار المعادن    تكريم البروفيسور محمد الشرجبي في ختام المؤتمر العالمي الرابع عشر لجراحة التجميل بموسكو    مرض الفشل الكلوي (34)    حين يكون الإيمان هوية يكون اليمن نموذجا    الهوية والوعي في مواجهة الاستكبار    فلسطين الوطن البشارة    المكلا حضرموت ينفرد بصدارة المجموعة الثالثة بدوري الدرجة الثانية لكرة القدم    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحزاب المغرب تجدّد نفسها
نشر في الجنوب ميديا يوم 03 - 01 - 2013

لن يمر انتخاب إدريس لشكر على رأس الاتحاد الاشتراكي مرور الكرام، وما ينبغي له، فالحدث ليس بسيطاً، كل البساطة، حتى إن كان متوقعاً على أكثر من صعيد، بالنسبة لمن يعرف عن قرب طبيعة اشتغال الآلة الاتحادية العتيدة، التي تعمل في لحظات الحسم بقوة جبارة تأتي على الأخضر واليابس ولا توفر الصديق من العدو .
لكن الأكيد هو أن لشكر، الوجه القيادي البارز، والصقر الذي كان يتصدر معارك الحزب ويصنع "ملاحمه" في الصحافة وفي الحياة التنظيمية ومع الخصوم، هو رجل محنك، وتجربته وتدرجه في حزب الوردة، لم يكن مساراً سهلاً في وقت كان فيه الاتحاد يفرز حزمة من القيادات من الصف الثاني، كلها تتوثب من أجل القفز إلى المقدمة .
بعض هذه القيادات اعتورها مسار الطريق وزاغت بها السبل، والبعض الآخر منها انشق وهاجر إلى أرض الله الواسعة، وآخرون، وهم كثر، من العائلة الاتحادية انتهوا إلى زوايا النسيان، أو اختاروها عن طواعية، بعدما رأوا أن "القيم" الكبرى التي تأسس عليها الحزب، أصبحت رقماً في بورصة السباق نحو السلطة والتوزير .
وقليلة هي القيادات الشابة في فترة السبعينات، التي استطاعت أن تمضي بثبات، شاقة طريقها، رقم الظروف المريرة التي عرفها الحزب، الذي تعرض لضربات موجعة وقاصمة سواء وهو في المعارضة أو وهو في السلطة . . ومن هؤلاء "الشباب" الذين انسلخوا عن الشبيبة مبكرا الكاتب الأول الجديد للحزب إدريس لشكر .
يجب ألا يغيب عن الأذهان أن لشكر، كان بصدد إنجاز أكبر تحالف في الحياة السياسية المغربية قبيل الانتخابات التشريعية بفترة وجيزة، وعلى مرمى حجر من الربيع المغربي، مع معادلة حزبية أخرى، وهي حزب العدالة والتنمية، كان ينظر إليها على أنها معادلة مستحيلة في مناخ سياسي مغربي غالباً ما كان يجري تنزيل خرائطه السياسية من فوق .
وبدا التنسيق الذي يقوده لشكر في ذلك الوقت، مع العدالة والتنمية، وهو في موقع المسؤولية الحكومية في حكومة عباس الفاسي، وكأنه نوع من "الترفيه السياسي" لا غير، حتى أن الاتحاديين نظروا إلى هذه المبادرة على أنها قفزة في الهواء لن يكتب لها النجاح .
لكن الأحداث جرت سريعاً تحت جسر السياسة، وجاء "الربيع المغربي" وحمل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، لذلك كان أول شيء فعله عبدالإله بنكيران وهو بصدد إجراء مشاوراته مع الأحزاب السياسية، هو تقديمه لعرض مغر للاتحاد، لكن الصراع السياسي داخل حزب الوردة كان قد استبق رغبة بنكيران، حيث أعلنت القيادة الاتحادية موقفها الرسمي بعدم المشاركة في حكومة بنكيران، لتخرج إلى حلبة المعارضة .
لو كان لشكر على رأس الحزب في تلك الفترة، ربما لدفع بقوة في اتجاه تحقيق حلمه، وهو العمل جنبا إلى جنب مع حزب العدالة والتنمية، هذا العمل الذي ترجم قبلا في التنسيقيات المشتركة بين الحزبين في المجالس البلدية وعموديات بعض المدن، كما حدث في عمودية الرباط .
لشكر "حيوان سياسي"، يقول دائماً إن عدو رجل السياسة هو الانفعال، وهو اليوم ينظر إلى غضبات زملائه في الحزب على أنها رد فعل متوقع، ففي نهاية كل مؤتمر وطني لحزب عبدالرحيم بوعبيد يخرج غاضبون، يجمدون أنفسهم لفترة أو يستحلون التجميد فلا يخرجون أبدا من الثلاجة، وآخرون يتذكرون العمل القاعدي ويعودون إلى تأسيس جمعيات ومنتديات ضماناً للرفاهية السياسية و"لتقاعد مريح" لا يعصف بالرصيد، وهناك من يظهر ويختفي مثل "ثعلب زفزاف"، بحسب ضرورات المرحلة وموازين القوى .
وفي كل ذلك عرف إدريس لشكر كيف يستفيد من انفعال المنفعلين وغضب الغاضبين وثلاجة المجمدين، إن كل ذلك يصب في مصلحة السياسي المحنك، رجل السياسية اليومي، الذي إذا لم يجد شيئاً يفعله قشر البرتقالة في انتظار تقشير البصل .
تلاسن "سياسي"
عاد التلاسن الكلامي يهيمن على ما عداه في الحقل السياسي المغربي، فمع العام الجديد، يبدو أن الفاعلين في هذا الحقل عقدوا العزم على اختتامها بعنوان عريض يكون سمة النهاية ومؤشراً على البداية .
خروج قوي من قبيل ما صرح به إدريس لشكر الكاتب الأول الجديد للاتحاد الاشتراكي، الذي قال في برنامج "ملف للنقاش" على قناة "ميدي آن تيفي" إنه بصدد فتح أو تأسيس جبهة عريضة مع سائر من يتقاسم معه المرجعيات والتصورات لمواجهة الرجعية في البلاد، التي تمثلها "القوى المحافظة" .
من جهته، وجه القيادي في الأصالة والمعاصرة إلياس العماري في كلمة له أمام أعضاء الحزب في مراكش، اتهامات إلى عبدالإله بنكيران رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية بالسعي إلى إقامة "إمارة إسلامية"، في المغرب، وهذا يعني أن بنكيران يحضر لانقلاب على المشروعية في البلاد والعمل على الحلول محلها، والجميع يتفرج .
وفي الأسبوع نفسه، تمكن حزب العدالة والتنمية من الفوز بمقعدين في الانتخابات الجزئية في كل من أنزكان وشيشاوة، راداً "بطريقته الخاصة" على منافسيه وخصومه من خلال الاحتكام إلى الصندوق، وهو في اللحظة الراهنة على الأقل، ملك خاص للعدالة والتنمية، فالناخبون المغاربة صوتوا لهم وهم خارج الحكومة، وما زالوا يصوتون لهم وهم في العمل الحكومي، بل وفي "منطقة الشك الذي يجب أن يقطع باليقين" حول نجاحهم من عدمه في إدارة الشأن العام، وإنزال الشعارات التي رفعوها خلال مدة المعارضة ومدة الحملات الانتخابية والمدة التي قضوها إلى حدود الآن في تقلد تدبير الشأن العام الوطني .
وأياً كان توقيت طرح مثل هذه "التصورات" لمحيط السياسة في المغرب ولنسيجه الاجتماعي، هل هو بداية العام أو نهايته، فإن التوصيفات التي تطلق من قبل العاملين في مهنة السياسة في هذه البلاد، يجب أن ترسن قليلاً، وأن تلجم، حتى لا تصبح قراءتها من قبل الخارج الذي يتابعنا ويتابع عمل الإسلاميين في الحكومة وبرانية الحكومة، هو التبشير ب "قيامة القيامات" وكأن المشكل الحقيقي في المغرب هو الصراع على المشروعية، في حين، وكما يعلم الجميع، وفي ظل مقتضيات الدستور الجديد، الأمر محسوم ولا غبار عليه، ولا يمكن لا للعدالة والتنمية ولا لغيرها أن يجرؤ حتى على مجرد التفكير في الأمر . . فالمغاربة اليوم ليسوا سلعة جاهزة يمكن شراؤها من أقرب متجر للتخفيضات بمناسبة وبغيرها .
لقد جرب الفاعل السياسي هذه المخاطرة قبل أكثر من 40 سنة، شيوعيون واشتراكيون وإسلاميون، ومن الحق المشروع التساؤل إلى أين "الانقلابيون"، وأين هم، وماذا كانت التكلفة، وحتى الذين كانوا يلعبون بالشعارات على نواصي المقاهي ردمهم الواقع وسحقتهم دورة التاريخ أو فندوا تفنيداً .
التاريخ له سكة واحدة يحرث بها، وهي سكة الحقيقة، وهي دائما موجودة، وليس غائبا عن الأذهان حمام الجزائر الدموي المشؤوم الذي هيمن على العشرية الأخيرة من القرن الماضي، في ظل التنافس المسعور على السلطة، وفي سياق الإمعان المخدوم في الدفع بمؤامرة تقسيم المجتمع إلى محافظين وحداثيين، غالباً ما كانت نتيجتها الفعلية هي "حمام الدم"، الذي حول الجميع إلى محافظين وظلاميين لا يؤمنون بفضيلة الحوار لتكون النتيجة الغلبة للأقوى الذي يستطيع فرض "النظام"، سواء بالعمامة وبسروال طالبان، أو بالميكروجيب .
ولذلك حتى يبقى هذا الكلام في إطار الانفعال السياسي، يصدر بنية حسنة مفادها ومؤداها تحريك "الراكد" السياسي وخلق مزاج ودينامية شبيهة بما تعيشه بلدان ربيع عربي من حراك، فإنه يتوجب مع ذلك على "اللاعبين" التيقظ لمخاطر اللعبة، فسقطة الحمار كما يقول المغاربة تكسر الظهر، أما سقطة الحصان فيمكن أن تنجو منها . العلو مهم، والارتفاع في السياسة يجنب الكدمات والحمامات، وعندما يصفي المغرب حساباته مع البطالة والفقر يمكن آنذاك أن يتحاور ببطون شبعانة ورضية حول من هو الرجعي ومن هو التقدمي حقاً .
إضاءة حول الشيخ ياسين
تسابق جماعة العدل والإحسان نفسها من أجل إحلال زعيم جديد لها محل شيخها ومرشدها الراحل عبد السلام ياسين، الذي وسم مرحلة مهمة من تاريخ الجماعة ومن الحياة السياسية في المغرب . فرحيل الشيخ عبدالسلام ياسين، ليس رحيل رجل عادي، بل هو على مستوى تقييم الموت، إذا جاز التعبير، رحيل جلل، وله ما بعده على جماعة العدل والإحسان، التي ارتبطت به وارتبط بها .
كانت الجماعة مداً جارفاً، بل أكاد أقول إنها كانت "موضة" الشباب في تلك الفترة، وأقصد تحديداً فترة أواسط الثمانينات وبداية التسعينات . وفي نوع من الاستقطاب الذكي والعصري، عملت الجماعة التي كانت تتبنى خطاباً معارضاً للدولة، على اكتساح فضاء المؤسسات الثانوية والفضاء الجامعي، كان الوقت في تلك الفترة وقت عنفوان اليسار المغربي بكل توجهاته وحيرته في الآن نفسه، عندما بدأ يكتسح أوساط الشباب، وتبني أطروحاتها الفكرية والنظرية على مقولات تبدو لأول وهلة "ساذجة"، لكن مع الزمن ستتحول إلى مقولات فتاكة، وقد كانت أسوار الجامعة تتيح ممارسة هذا النوع من الترف الفكري ومن النضال الثقافي ومن السجال الاستعراضي بين مكونات الحركة الطلابية المغربية .
كتب الشيخ عبدالسلام ياسين كانت تستنسخ مثل منشورات سرية، وتسلم باليد، وكانت "رسالة الطوفان" رسالة مبهرة للشباب المغربي الحائر، ففيها جسارة وخطاب غير مألوف في زمن سنوات الرصاص وامتداداتها، وفي سياق مغربي يعيش على العديد من النكسات والارتكاسات، كان الجو السياسي العام مشحوناً ومجرد إعلان الانتماء إلى هذه الجهة أو تلك بطولة في حد ذاته .
ثم جاء كتابه الذي فصل فيه مشروعه النظري والسياسي، كتاب "منهاج النبوة" أو "المنهاج" كما يسميه اختصاراً أتباع الجماعة، ليكون التصور الذي يؤطر عمل "العدل والإحسان" من حيث ربط اللحظة الراهنة بالسلف الصالح .
كان الكتاب ورشة أفكار، أهم ما يبهر فيه هو رصانته اللغوية وقوته البلاغية ومستوى التأليف العالي لصاحبه، فهو من حيث هذا المنظور، وطرداً بكتبه التي تلت، يعتبر "الشيخ" على هذا المستوى، مؤلفاً وكاتباً من عيار ثقيل، جمع فنون صناعة الكلام وجوامعه، وكان أعرف بمداخل اللغة العربية ومخارجها، وبحديثها وسنتها وبشعرها ونثرها، وله في هذا كلام بديع ودرر عالية المقام، ونثر جميل وشعر موزون مقفى، حتى وإن كان يرسله إرسالاً، وقد جمع شعره في عملين، الأول بعنوان "شذرات"، والثاني بعنوان "قطوف"، وربما هذه الخفقة الروحية الوثابة وهذه الحساسية المفرطة، هي التي جعلته يعيش ذلك التحول الكبير والجذري في حياته، وهو نفسه يحكي عن ذلك في كتابه "الإحسان" حين يقول "كنتُ قد شارفت الأربعين عندما تداركني الرؤوف الرحيم بالمؤمنين بهَبة ويقظة، فهام الفؤاد، وغلب التفكير في المبدإ والمعَاد، فوجدتني محمولاً على الطلب مدفوعاً إليه . كيف السبيل إليك يا رب؟ وعَكفت على كتب القوم، فما منهم إلا من صرفني للبحث عن الرفيق قبل الطريق . بِمن أَستنجد يا رب غيرك؟ وشككت وترددت أهو شرك مع الله؟ لكنني بَعد أن استغرقْت في العبادة والذكر والمجاهدة والتلاوة زماناً تبيّنتُ أن طلب ما عند الله هو غير طلب وجه الله . الأعمال الصالحة إن كان فيها الإخلاص وقبلها الحنان المنان تنيل الجنان . لكن أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وَفسحات العرفان . واشتد بي الأسى، وعِفْتُ نفسي، وتضرعت وبكيت عليه، هو الملك الوهاب . وأتحفتني ألطافُهُ بلقاء عارف بالله رباني صحبته أعواماً رحمه الله . وفَهمت منذئذ ما معنى كون الطريق مسدوداً، ولم هذه السدود، وكيف اختراقها، وأين، ومتى، وأيَّانَ! لله الحمد والمنة، ولأهل الله الناصحين خلق الله، لا يخافون في النصيحة غير الله، ولا يرجون إلا الله، الشكر الخالص . لا إله إلا الله محمد رسول الله" .
لحظة التحول في سن الأربعين تكتسي أكثر من دلالة، إنه عمر النبوة وإدراك الحكمة، وربما لو أردنا أن نقف على لوامع الكلم عند الشيخ، لتوقفنا عند الكثير من اللفتات المبهرة التي تذكر بأمهر صناع التأليف العرب، وهذا ما جعل الكثير من أصدقائه في مدرسة المعلمين وفي سلك التفتيش بعده يستغربون تحول الرجل، الذي لم يكن قط منغلقاً، بل كان متعدد الثقافة، وفرنسيته كانت من مستوى عال تضاهي سلاسة وبلاغة أبناء لغة موليير .
هذه التحولات التي مست حياته الشخصية ومعتقده الفكري، سيوضحها تباعاً في كتبه اللاحقة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.