ضم كتاب الأعمال الكاملة للشاعرة الهنوف محمد ثلاث مجموعات شعرية، منها اثنتان سبق أن صدرتا هما "جدران"و"سماوات«، إضافة إلى مجموعتها "ريح يوسف"التي تصدر للمرة الأولى ضمن هذا الإصدار، والتي ضمت بدورها ثمانية وثلاثين نصاً، كتبتها الشاعرة في أوقات سابقة، وعناوين هذه النصوص هي: جوزاء ذاتية متعبة أزمان لأول مرة عطش اعتقاد رغد استعداد العصابة علي صلاة الغائب خوف رائحة المانجو إناء نسوة مجرَّد طفل المتحولون مدينة قصائد يوسف ماذا لو؟ اقتراف سفر لأنه ولأنني خادمة تيه حينما تبكي الأرض أقدام صعاليك سطوة تجلي في الأخبار ريح يوسف احتفالية يتبعهم الغاوون المصيدة صباح فراغ . كما يلاحظ، فإن ستة وعشرين نصاً منها جاء العنوان فيها مؤلفاً من مفردة واحدة، وأحد عشر نصاً منها جاء في مفردتين، بينما جاء نص واحد وهو "حينما تبكي الأرض"في ثلاث مفردات، ولهذا كما هو واضح دلالاته، حيث تعمد الشاعرة، في ظل اختصار العناوين، إلى التكثيف، وهو ما يتجلى في النصوص ذاتها، حيث إنها تبقى أميل إلى التكثيف . أجلس خلف الباب أرقب الثقب وكأنني أرى العالم من منظور ضيِّق أتخيَّل ما لا أراه أعلق عباءتي المطرَّزة بشتى أنواع الأنوثة أسهر لأسترجع سماواتي وأنتظر رجلاً قد لا يأتي وقد لا يطرق الباب ولا يفتحه (نص "جوزاء") إن أية قراءة في نص "جوزاء"أعلاه، تبين أن الذات هي الأكثر حضوراً، منذ بدايته، وحتى نهايته، كي تتجلى بين نقطتي البداية والنهاية، هاتين، تجليات هذه الذات، وتفاصيلها، حيث ثمة أبعاد كثيرة، تظهر من خلال ثقب الباب الذي تسترق من خلاله الشاعرة النظر إلى ما حولها: العالم الأنثى السماوات الرجل . . إلخ، وهي تدرك أن الثقب الذي تنظر من خلاله لا يسمح لها أن تنظر بحرية إلى الأشياء، فهو منظور ضيق، لتفوت عليها النظرة البانورامية بعض أوجه العالم، إلا أن ما تستطيع أن تستبطن أدق أجزائه، من المفردات المتناولة، هي ذاتها نفسها، حيث تدرك أن عباءتها موشاة بشتى أنواع الأنوثة، وأنها افتقدت الكثير من هذه الذات التي لا تكتمل إلا باستعادة السماوات التي افتقدتها في وقت سابق . وفي نص "ذاتية"كما هو حال نصوص المجموعة، كاملة، تواصل الذات حضورها، بالدرجة نفسها، سواء أكان من خلال الضمير المستتر المقدر وجوباً، أو الضمير المتصل، كي تكون محور عالمها، منه تنطلق، وإليه تعود، وهي تكتب سونيتات روحها، مظهرة خلالها حلمها وانكساراتها وأفراحها، من دون أن تنسى المفارقة التي تمسُّ هذه الذات بجوانب منها، على امتداد مساحة النص: جئتني فلم أجدني تركت حذائي خلف الباب فلم أجد سوى خطوات أقدام قد لا تكون لي تركت قلادتي على النافذة فظلَّ قلبي يخفق خارج قفصي الصدري بحثت عني ثانية فوجدت الأحزان ممدودة ذراعاها كالأشرعة التي لا ميناء لها جئت أبحث عن نفسي ثالثة فوجدت الآخرين يشغلون جميع الأماكن فلا مكان لي عندي الآخرون هم الجحيم لكن أخروني هم يحملون الشموع والقناديل في داخلي وحينما يحين دوري تكون الشموع كلها ذابت والقناديل جف زيتها لأكون أنا الشمعة التي لا يجب أن تذوب والقنديل الذي لا يجب أن يجفَّ زيته أبداً إن وضع هذا النص تحديداً تحت مجهر النقد، يقدم صورة عن رؤية الهنوف للعلاقة بين الذات الشاعرة والعالم، هذه العلاقة المبنية على أن هذه الذات لاتفتأ تقدم لمن حولها، بكل ما لديها، بيد أنها تصطدم بالإحباط تلو الآخر، إلى تلك الدرجة التي راحت تكرر ما قاله سارتر، في لحظة وجودية جريحة "الآخرون هم الجحيم«، في الوقت الذي تواصل فيه دورها "شمعة لا تذوب"و"قنديلاً لا يجف زيته"كي يضيء العالم للآخرين، أنفسهم، حتى وإن غالوا في تأجيح لحظة الناصة باللهب الجحيمي، وما تتبعه من مفردات الألم والمعاناة، تقول في نص "متعبة«: متعبة من الاخضرار الدائم من إضفاء السعادة على الآخرين من البحث عن الآخر الذي لا وجود له عندما تبدأ حياتك بالمطر تجد الأفواه المفخخة بالموت تتهاوى خلفك كسرب ذباب متهالك بمبيدات الحياة يصلح هذا النص، في حقيقته، ليقدم المفارقة العظمى، بين ما تقدمه الشاعرة للآخرين، وما يواجهونها به، من فتح بوابات السعير التي تلظي لحظتها وتتبعها، غير أنها لا تتردد البتة، عن مواصلة اخضرارها، من أجل الآخرين أنفسهم، هؤلاء المفخخة أفواههم باملوت، والمتهاوون خلفها كسرب ذباب متهالك بمبيدات الحياة، كل نلمس هنا أعلى درجات المفارقة المشار إليها، لأن البون شاسع بين من يصنع الحياة والسعادة للآخرين، ومن يصنع لهم الموت . لعل كتابة الشعراء والشاعرات عن فلذات أكبادهم، أبناء وبنات كثيرة، حيث ثمة من يهديهم قصيدة، أو مجموعة شعرية، أو من يكتب قصيدة عنهم، بيد أن الكتابة عن الأمومة، أمومة الشاعرة، تكاد تكون جد نادرة، وذلك من خلال المنظور الذي تتناول فيه أطفالها، باعتبارهم نتاج ترجمة عظمى لحلم ولهفة لصيقين بروحها وقلبها، وهي إحدى العلامات الفارقة التي تميز الهنوف محمد، وسبق أن أشرنا إلى ذلك، في معرض تناولنا لتجربتها الشعرية، تقول: إلى ابني حسين أن أكون أنا أم الحسين أتدرون من هو الحسين؟ هو العطش بكل ماهيته هو عطشي أنا عندما تعطش الطبيعة وتبخل السماء بمائها حينها تتذكره تتذكر الحسين وهي لا ترى في أفراد شجرة روحها الأسرية مجرد أبناء وبنات فحسب، إنما هم امتداد حياتها وحلمها وفرحها، وتشكل الزمان في طيف الماضي، وثقة الحاضر، تقول في قصيدة "رغد«: رغد هي مرآتي الصغيرة هي كل الحكايات التي روتها أمي عني هي شقاوتي وطفولتي هي غنجي وكبريائي الغجر أحبوها هاموا في عينيها سحرتهم غمازتاها سواد عينيها رغد هي قصائدي المكتملة تبلغ الأمومة لدى الهنوف أقصى درجات المطابقة بين الحلم والحياة، كي يكون أطفالها في ما بعد محاور شعريتها، ومعادلي ديمومتها وسيرورتها، وسروها الأقصى، تقول في نص "العصابة«: جاء ماجد وتبعه علي احتفلوا بحسين وكانت شمعتهم رغد والآن عدنان وسلطان اجتمع الجميع فاحتفلوا بشيء رائع يسمى الحياة ولعلَّ فرحة الناصة، بهذه الأسرة، سطت على لحظتها، ما جعلها تكف عن إعادة كتابة النص، كي تجرده وهو المكثف عما بقي من حشو وزوائد، كان سيبدو أكثر جمالية دونها، فعبارة اجتمع الجميع كان من الممكن أن تتجرد من مفردة الجميع، وذلك من خلال الحاق ضمير الجميع بالفعل اجتمع، ليعوض دلالياً عن المفردة المكررة التي جاءت فاقعة، وهو ما يمكن الوقوع على غيره، في مواضع أخرى من المجموعة الشعرية التي استغرقت وقتاً طويلاً، قبل أن تكون بين يدي المتلقي . بيد أن مثل هذه الملاحظات الطفيفة، لا تقلل قط، من القيمة الإبداعية للمجموعة، فها هي الشاعرة وهي تكتب عن نصها الروحي علي، امتداد قصيدتها الحياتية الأبهى، بالكثير من الكشف الجواني، اعتماداً على القواسم المشتركة بينهما، تقول في نص "علي«: سرق غمازتي الأخرى وهرب عندما ألتقي به أضع خدي على خده حتى يكتمل وجهانا وجهان لصورة واحدة هو يذكرني بجمال خدي وأنا أذكره بلعبة الفرح استعادة يوسف تأتي العتبة الرئيسة "ريح يوسف"عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للهنوف، في إطار استحضار الرمز القرآني الكريم، من خلال قصة النبي يوسف عليه السلام، حيث تقوم بإسقاطها على اللحظة الحاضرة، على اعتبار أن القصة لما تزل تستنسخ، بطبعات شتى، على مدى الأزمان، مادام أن هناك ثنائيتي الخير والشر، وما ينتج عن آلة الشر من ضغينة وغل وحسد، حيث إن معالجة الشاعر للأمر تأتي من خلال انحيازها لروح يوسف المستنسخة، وهي التي تنتصر في نهاية المطاف، تقول: (1) هكذا دوماً شأن يوسف يخونه إخوته ويبكي أبوه من الحزن فهو كظيم (2) عندما تحاول البحث عن قلبك ليكون أو أيقونة تتبرك بها حينها تكتشف بأن لا قلب لك وبأن الحلم لاذع في ذاكرتك والمسافة بين القلب والذاكرة كبعد سنين يوسف أو عذاب يوسف يبدأ النص باسم الإشارة "هكذا"بينما يمضي المتلقي مع الشاعرة في غمار استذكار يوسف، وذلك بعد تهيئتين أولاهما العتبة الكبرى "عنوان المجموعة"و"ريح يوسف"والثانية العتبة الصغرى عنوان النص "قصائد يوسف«، وإن كنا لا نجد هنا سوى مقطعين فحسب، رقمتهما الناصة ب (1) و(2)، من دون أن يتبعا بالرقم (3) ليصح جمعها، وكأن المقطع الثالث أول الجمع إنما يتوالد، خارج الترقيم، مادامت الأسباب التي أدت إلى المؤامرة على يوسف، مستمرة، ودليل ذلك أن الكلمة الثانية بعد اسم الإشارة، والكلمة الثانية في النص، هي "دائماً«، حيث قطعت الشاعرة الشك باليقين، لتؤكد استمرارية فعل التآمر على روح يوسف، ويوسف هنا الشقيق الرمز الذي لا بد وأن ينتصر في نهاية المطاف، كما في متن القصة الأصل، التي يتناص معها النص اللاحق، وهو نص الشاعرة هنا . لا تفتأ الشاعرة تورد مفردة الخيانة بحق "يوسف"الرمز المتجدد، من دون أن تنسى ما يتعرض له الأب نفسه، وهو يبكي مدارياً حزنه الكظيم، بما يتواشج مع أرومة النص المقدس نفسه، ودون الخروج عن مناخاته، ما دام أن الضحية واحد، وصانعو المؤامرة هم أنفسهم، حتى وإن اختلفت أزمانهم وأشكالهم ومواطنهم وأدوات حقدهم ومسوغات مؤامرتهم، هذه المسوغات التي لا تتعدى انتماءها لجذور الشر المتأبلسة، أبداً، وإن كان يوسف في كل مرة يواجه إخوته بالظفر وروح الحب السامي والنبيل .