يمكن القول مع كثير من التأكيد أن الجهد المتميز لكتابة القصيدة الغنائية بمزايا الدراما وحضور الرمز واستجلاب الموروث بما ينظمه من عناصر أسطورية وتاريخية وشعبية في بناء شعري متكامل - لا تبدو فيه هذه العناصر نابية أو قلقة قد استوفى أساليبه النصية ومعاييره الفنية في قصيدة (رحلة السند باد الأخيرة) التي كشفت جانب الإبداع الشعري المتميز في نتاج محمد الشرفي فالقصيدة بناء درامي متكامل بآلياته وصوره ولغته ,وفي استقوائها لاشتراطات النزوع الدرامي والتأسيس الرمزي للقصيدة الحديثة, وهي ترقى لأن تكون علامة شعرية مائزة لا قياساً بتجربته وحسب بل على نطاق المشهد الشعري اليمني الذي ظل نقاده ومن جاراهم ينظرون للشاعر من ثقب واحد, ومن زاوية بعينها لينحصر إبداعه في المرأة والحجاب والشر شف دونما إدراك للقيمة الشعرية والجمالية التي وصلت إليها نصوصه ,خاصة هذه القصيدة التي يعدّها الباحث من عيون الشعر العربي الحديث. السندباد من أهم الشخصيات التراثية حضوراً في الشعر العربي,إذ وجد الشعراء في هذا الرمز ضالتهم المنشودة ومبتغاهم الفني بتصييره معادلاً لإسقاطاتهم الرمزية, وحضوره المتجذر في الذاكرة الشعبية محملاً برصيد نفسي وإيحائي لاشك أن بعثه شعرياً يدفع هذه الإيحائية للارتقاء بأسلوب القصيدة إلى مستوي من الترميز المشحون بهالة من الدلالات التي يفجرها الرمز داخل سياقه الشعري فالسندباد "شخصية رمزية من الطراز الأول يجتمع فيها أكثر من مستوى من الدلالة والمغزى" وتبعاً لذلك فقد استهوت الشاعر العربي المعاصر، فكان توظيفه لها يعدّ " مسلكاً إلى تجاوز الواقع العربي المهزوم، واستشرافاً إلى عوالم أكثر رحابة تمكنه من تحقيق ذاته الفردية والجماعية، لأن دلالة السندباد من الناحية الرمزية ذات بعدين، بعد فردي يجلي من خلاله فرادته الشخصية، وبعد جماعي تتفرع قيمته في حقل التجربة الإنسانية التي تتمثل في رحابة حضورها عبر الزمان والمكان"، وهذا ما دفع بالدكتور (عز الدين إسماعيل) إلى تأكيد هذه الثنائية، فهذه الشخصية في نظره"عادية على المستوى الجمعي للإنسان، لأن قصة الإنسانية إجمالاً هي قصة المغامرة في سبيل كشف المجهول، وهي غير عادية على المستوى الفردي، لأننا ألفنا الفرد الذي تتلخص فيه التجربة الإنسانية نادراً"(5) وتأكيداً على ما سبق يرى الدكتور( كاملي بلحاج) أن أسطورة (السندباد) "تفجر لدى المتلقي حقولاً دلالية متعددة وتجليات لا نهائية، وما جعل الشاعر العربي المعاصر يتماهى بها إبداعياً، متخذاً منها رمزاً لتجسيد رؤيته والتعبير عن جوانب تجربته ". ويجدر بنا قبل الولوج إلى القصيدة أن نشير إلى التعالق الماثل بينها وبين قصيدتي (وجوه السندباد) و(السندباد في رحلته الثامنة) للشاعر اللبناني(خليل حاوي),والقصيدة في مضمونها ترصد موقف الشاعر إزاء الواقع العربي ,كما أنها تستعير بعض إشاراتها من حدث انتحار الشاعر اللبناني(خليل حاوي),ومن الحدث الجلل الذي ألم بالأمة العربية وحالة الانكسار التي عصفت بها إبان الاجتياح الإسرائيلي ل(لبنان),ولا شك أن الرمز(السندباد) يذهب للتلبس في شخص الشاعر (خليل حاوي) فالسندباد هو في الأساس مرموزه وقد التقاه في نصوصه وتجربته التي كان (السندباد) فيها رمزاً للإنسان العربي الصاعد وتجسيداً ل"طموحه اللامتناهي إلى الحرية والانسلاخ من القيود، والرغبة في الكشف عن المجهول والغامض بالمغامرة وركوب الخطر وتخطى الصعاب، وتجاوز المكرور السائد",وقد حرص الشاعر على أن لا يفِّوت على القارئ فرصة الإمساك ببعض شفرات القصيدة,وذلك بالمساهمة في فك رموزها وفتح بعض مغاليقها,مثلما هو منوه في استهلالية القصيدة التي كرست عناصر القص بآلية السرد واعتماد التشخيص التاريخي,وتسميات الشخصيات, وفي تعيينات المكان والزمان على النحو الآتي: "انتحر سقراط مرغماً في أثينا، وأثينا اليوم تنتحر في بيروت والشاعر خليل حاوي ينتحر ما بين بيروتوأثينا ،وبين الانتحار والانتحار رحلة قام بها السندباد المغامر .. وكانت رحلته الأخيرة، فهل بدأت الرحلة من الجزر حول أثيناوبيروت؟ أم أن الجزر وحدها هي التي أبحرت في ظمأ الصحراء وزبد الشواطئ؟". وبمثل ما انتهي الشرفي في استهلالاته النثرية بطرح التساؤل الناقد للوضع العربي الراهن ووضع علامة الاستفهام سعياً إلى إشراك المتلقي في تحصيل الإجابة وإدراك أبعاد الرؤيا؛فإن نص القصيدة يطرح ذات التساؤل منذ الإشارات الشعرية الأولى للقصيدة ما للبحار ترجلت للسندباد؟ ما للشواطئ أبحرت في جرحه وتحلّقت حول الضماد؟ ما للسنين توقّفت عند الدواة وكابدت وَجَعَ المداد؟ هل كان بحاراً يجيد الغوصَ في الأعماق والأشواق.. والحلم المراد؟ أم سيفهُ المصقول في نار الجهاد؟ أم أنه مهر العناد؟ أرخى أعنته الجريحة للنهاية واستراح.. وأطفأ القنديل في ((نهر الرماد))؟ يشكل المقطع السابق واحداً من أهم النماذج w التطبيقية لما طرحته الدراسة في تنظيراتها وتصوراتها النقدية التي تدعيها في مجال النزوع الدرامي وفي طبيعة النهج الذي ينبغي على القصيدة أن تتماشى معه,خاصة والمثال هنا حينما تكون التجربة درامية,أي حال مرور الذات الشاعرة بتجربة شعورية ونفسية لاشك أنها نتاج لوعي الذات بالآخر,أو في انتقال هذه الذات من موقعها الغنائي البسيط إلى موقع آخر شأنه أنه مفتوح باتجاه الخارج على محور التحولات التاريخية,أو في انطلاقة الشاعر من موقع الرائي,الذي يتفاعل مع العالم من زاوية رؤية لا بصرية شأنها هي الأخرى أن تنفذ إلى تحليل الواقع الخارجي لا عن طريق الوصف بل على سبيل المواجهة والتصادم معه وهذا النزوع الدرامي يعززه عدة أمور يأتي في طليعتها تعقد الحياة ,وتشابك سبلها وتعدد مساربها,زد على ذلك توتر العلاقة بين المبدع وعالمه ,الأمر الذي جعل هذه التجربة"تجربة كيانية تجسد ((درامية)) الوجود من جهة,و((تصدع))((أنا)) الموجود إزاء ذلك الوجود من جهة ثانية" وبإزاء ذلك فقد جاء التعبير عن تجربة (السندباد) بشكل رمزي ودرامي في آن والنهاية التي خلصت إليها هذه التجربة جاءت معقدة ودرامية,وهذه الجدلية بين الذات والآخر؛الرمز والمرموز جاءت على نحو شائك كما هي على نحو مفارق,والمفارقة "هي الخاصية الأولى للدراما" ولأن "مغزى أي درامة هو مغزى جدلي كذلك .شأن مغزى الحياة نفسها .فليكن المغزى إذن متضمناً في التجربة". والنص يتوفر على عدد من الوسائل الدرامية كالحوار والحركة والموضوعية والرمز,ورغم أن بعض المفردات تستوحي بعض الإشارات الأسطورية الملازمة للسندباد ,كالبحر والشواطئ,إلا أنها في سياقها الشعري اتخذت أبعاداً مختلفة لا تؤكد حرفيتها الأسطورية قدر ما تتحيز للتجربة والواقع والقضية,ولكي نضع القارئ في ضوء هذا النزوع الدرامي نتلبث عند طبيعة الخطاب الشعري وفحواه ودلالته فنلاحظ أنه قائم على أسلوب حواري يعتمد صيغ الاستفهام (ما هل أم المعادلة)والمقطع صورة شعرية درامية ينهض بناؤها على "تجسيد الجمادات والتقابل بين المواقف والعواطف والأفكار فالبحار تترجل ,والشواطئ تُبحِر وتتحلق, والسنين تكابد" وإذا كان السندباد رمزاً للمغامرة في أسفاره وترحاله ,فإنه وفي إطار السياق الشعري فقد هذه الدلالات,فالبحار تترجل له,والشواطئ تبحر دونه,وأكثر من ذلك أن الشاعر يشكك في أسطورته (هل كان بحاراً يجيد الغوصَ في الأعماق/ والأشواق ..والحلم المراد؟)ويلحقه بعض الصفات التي ليست ضمن دائرته الأسطورية مثل ملفوظ الخطاب (أم سيفهُ المصقول في نار الجهاد) فهذه الإشارة قطعاً ألصق بالرمز الإسلامي أو المقاوم العربي,حيث إن مفردة الجهاد لها دلالات موصولة بالدين الإسلامي كما أنها تجافي الفكر الأسطوري والخرافي ولا تنتمي إلى زمن الأسطورة,إن هذه الإشارات الشعرية تكريس للواقع الرمزي الذي نستوحي منه حدث الانتحار وهذا ما ألفيناه في قول الشاعر( أرخى أعنته الجريحة للنهاية واستراح) وكل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن السندباد ما هو إلا (خليل حاوي) الذي عاش للقضية وناضل في سبيلها ثم آثر الانتحار ليكون لغزاً محيراً يستعصي على التفسير, الأمر الذي دفع الشاعر للتوجه إلى المتلقي بكثير من الصيغ الاستفهامية التي تستدعي الدهشة والتعجب,ويتلقانا في ملفوظ الشاعر قوله:(وأطفأ القنديل في ((نهر الرماد)),فالقنديل رمز ل" نور العلم وسراج الإيمان" أما(نهر الرماد) فهو ذو دلاتين: الأولى قريبة تذهب ناحية الإشارة والتدليل على المجموعة الشعرية للشاعر(خليل حاوي) التي نشرت سنة 1957م(18),أما الدلالة البعيدة فهي رمزية تقوم بنيتها على أساس التضاد والتقابل ف" النهر رمز الحياة والرماد رمز الموت". :::::::: المراجع • من مجامر الأحزان, محمد الشرفي , دار المسيرة بيروت ,ط1, 1983م. • ينظر: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية,ط3 دار الفكر,ص202.وينظر: مبحث القناع. • أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة,قراءة في المكونات والأصول,د. كاملي بلحاج, منشورات اتحاد الكتاب العرب,دمشق,2004. • الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية . • أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة. • ينظر: مذاهب الأدب معالم وانعكاسات الجزء الثاني الرمزية. • أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة. • من مجامر الأحزان. • ينظر: الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية , ينظر: الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية , ,د.عبد الواسع الحميري ,المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ,ط1, 1999م . • ينظر:المرآة والنافذة, المرآة والنافذة دراسة في شعر سعدي يوسف,د.سمير خوراني,دار الفارابي,بيروت, ط1, 2007م. • الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية . • جدلية اللغة والحدث في الدراما الشعرية د. وليد منير ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1997م. • الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية,ط3 دار الفكر. • ظواهر أسلوبية في الشعر الحديث في اليمن, د.أحمد قاسم الزمر ,مركز عبادي ,ط1 1996م. • نظرية المصطلح النقدي , د .عزت محمد جاد ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 , 2002م. • ينظر: مذاهب الأدب معالم وانعكاسات ج 2الرمزية,د.ياسين الأيوبي,المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ,ط 1, 1982م. • أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة,ويشير الباحث أن خليل حاوي، كما يوحي بذلك عنوان هذا الديوان يعاني من الازدواجية والانفصام بين الواقع والمثال، الصورة والمادة، الوجه والقناع. • من مجامر الأحزان. • مدرس بكلية التربية جامعة ذمار - ماجستير في الأدب الحديث والنقد.