لا يحتاج محمود درويش إلى مرافعة دفاع في مواجهة الهجوم عليه من حين إلى آخر وإطلاق سلسلة مزاعم، آخرها استناده إلى النصوص التوراتية "إلى درجة الاستلاب"، و"استلاله من غيره" وإساءته إلى القضية الفلسطينية واعتماد بعض قصائده على "تراث الأعداء"، لكن الراحل الكبير يستحق استحضاراً دائماً لسيرته الثقافية والأدبية لاسيما في ظل غيابه . ثلاثة شعراء من الذين عرفوه عن قرب وخبروا أصله تحدثوا ل"الخليج الثقافي" وفق وقفات ومراجعات هذه خلاصتها: يقول الشاعر يوسف عبد العزيز: لا يوجد مبرر للهجوم وما تم الاستناد إليه هش، ولا يستدعي كل هذا الصراخ والغبار، وكنت أتمنى فتح المعركة في حياة الراحل درويش الذي لا يحتاج إلى دفاع فتجربته معروفة ومهمة ومؤسسة على الصعيدين العربي والعالمي . من خلال معرفتي به اتضح لي متابعته كل شيء ينشر في الصحف، وحرصه على قراءة الزوايا الثقافية ورغبته الدائمة في تلخيص التجربة الشعرية الحديثة من خلال ما يكتب، ومن المعروف أن مصادر درويش الشعرية كثيرة ومتعددة ابتداء من التراث الشعري العربي مروراً بالمعاصر وانتهاء بنظيره العالمي، فضلاً عن رفد شعره بمصادر أخرى من الفلسفة التي تذوب في نتاجه . إن القصيدة التي يكتبها الشاعر عموماً لا تولد من العدم، أو الفراغ وكأن بتجربة الشعراء عبر التاريخ البشري أنهم عبر سفرهم الطويل في الشعر يكتبون نصّاً طويلاً مشتركاً كل شاعر يتكئ على كتف أسلافه ومحادثيه، ولكن الفيصل في مسألة الأخذ يتضح في طبيعته، فعندما يأخذ شاعر ويذوب ما يأخذه في النص الجديد وفق موقع في القصيدة، فإن ذلك يعد إنجازاً مغايراً، أما قضية السرقات الأدبية التي ناقشها الشعراء منذ العصور القديمة، فهي تتعلق بالسطو على جماليات الآخرين والإبقاء على ما يتم أخذه بارزاً في النص الجديد، والشاعر إذا تأثر بآخر وذهب إلى مناخ خاص لا يعد سارقاً . ويضيف يوسف عبدالعزيز: لقد استأت بشكل بالغ وكبير حيال ما تمت إثارته في الآونة الأخيرة حول تجربة درويش التي يعرف القاصي والداني أصالتها وقوة موهبته، وعلى الرغم من إسهام القضية الفلسطينية في تقديم هذا الشاعر الكبير إلى العالم . إلا أن موهبته الأصيلة والكبيرة التي انفتحت على شعريات متعددة كان لها نصيب الأسد في انتشاره . إنني أتذكر في هذا المقام ما جرى تداوله في جلسة حول مهرجان شعري شارك فيه درويش في فرنسا حيث حضر جمهور كبير داخل قاعة القراءة وخارجها، حتى إن المنظمين وضعوا شاشات كبيرة للمتابعة والاستماع، وحينها قال شاعر فرنسي في السبعينات من عمره صاحب تجربة طويلة عندما اكتشف أن حضوره لا يتجاوز عشرين شخصاً: "أنا مندهش لجمهور درويش الكبير، وإذا أردتم دعوتي للإلقاء مرة أخرى، أرجوكم ضعوني ضمن أمسيته" . لقد كان درويش متواضعا في أسلوب تعامله مع الآخرين ومحباً ودمث الخلق، وكنت قرأت حواراً مطولاً معه قبل سنوات أجراه حسن النجمي الذي كان مدير بيت الشعر المغربي أبدى خلاله الراحل الكبير ألمه لما وجّه إليه وشعره من كلام جارح، وتحديداً من بعض الأصوات الشعرية الفلسطينية، وأكد وقتها أنه يسمع ويقرأ ذلك ويمر عليه مرور الكرام من دون رغبته في فتح معارك هامشية تحيد عن أهداف وغايات مشروعه الثقافي الأهم . ويضيف عبد العزيز: كان من المفترض على المثقفين الفلسطينيين والعرب القيام بأعمال كثيرة تجاه هذا الشاعر الكبير الذي يعد كنزاً وذخيرة للأمة العربية على غرار لوركا لإسبانيا وشكسبير للإنجليز، وكان الأجدر تولي مؤسسة كبيرة تقديم شعره للقارئ عبر طبعات جديدة وترجمتها إلى اللغات الحيّة، إضافة إلى عقد ورشات قراءة لأعماله على مدار العام، ولكن ما حدث للأسف أن هناك من يسعى فلسطينياً إلى الهيمنة على إرثه، فقد أنشئت مؤسسة محمود درويش في رام الله وقامت بتخصيص جائزة تحمل اسم الشاعر، وهذا شيء جيّد، لكنها في المقابل لا تقوم بأمور أخرى أكثر تأثيرا وفاعلية، ومن هنا أدعو إلى إعادة هيكلتها بمشاركة مثقفين يتحملون مسؤولية ذلك . ويقول الشاعر زهير أبو شايب: هناك صغار يحركون هذه الاتهامات المغرضة بحيث يحاولون إيهامنا أنها معركة ضد درويش، وهي في النهاية "فقاعات" لا تستحق حتى الرد عليها . إن كل المحاولات التي تحوم حول تصوير درويش على انه يسرق من الآخرين "تافهة" و"متدنية"، ولا تستحق إهدار دقيقة واحدة للتوقف عندها، فلا يوجد شاعر لا يتأثر بغيره من الشعراء الكبار أما إذا كان صغار يعتقدون بأن درويش يسطو على ما يظنونها نتاجات مهمة، فليلتفتوا إليها وليبرزوا ما لديهم، ويثبتوا وجودهم عوضاً عن إثارة ما يجعلهم يتشبثون بالكبار وفق طرق ملتوية . وتساءل أبو شايب: ما المعضلة حيال الاتكاء أحياناً على نصوص في "التوراة" والتأثر بمضامينها؟ وهل يحق الاستفادة من الميثولوجيا اليونانية، ولا يجوز ذلك من كتاب ربّاني؟ ثم هل للأعداء تراث أساساً حتى يستند إليه؟ ويعقب: إن هذا الكلام يحاول النيل من حضور ثقافة المقاومة ويرجعها إلى الذين سلبوا حضارتنا وتراثنا وتاريخنا، وبالتالي يدعم العدو والمحتل، وهذا أمر معيب وخطير . إن هذه المرافعة وسواها في هذا الشأن لا حاجة لها أمام اتهامات صغيرة لا تنطوي على قيمة ثقافية، فالصغار لن يطالوا الكبار، وأمثالهم يجب أن يشتغلوا عن أنفسهم ولا يوجد شخص كبير أدبياً يردد أوهاماً حول سرقة شعره، ودرويش ليس صغيراً حتى يسطو على أشعار صغار . وحول ردة فعل درويش حيال مواقف مشابهة يقول أبو شايب: عندما كانت تثار حوله مشكلة مفتعلة يصاب بحزن شديد على إدارة معارك مؤداها التنافس على شهرته، وكان يتمنى تركيزها على مناقشة دور قصيدته في المقاومة والمعرفة والإسهام في تأثيرها إيجابياً، والآن بعد رحيله ونومه تحت التراب من المعيب والمخجل الحديث عنه سلباً في غيابه وليس إثارة الأمر في حضوره . وعن إن كان الهجوم يطال تاريخاً ثقافياً فلسطينياً يستند إلى المقاومة علق أبو شايب: شعر درويش، فاق نطاقه المحلي والعربي إلى العالمية وأعماله موجودة من أجل شعوب وثقت وآمنت بقضية المقاومة، ومن يرفض درويش فهذا شأنه لكنه لا يعبّر عن الفلسطينيين والمقاومة ودرويش بالنسبة لي شاعري المفضل والناطق الشعري باسم فلسطين والمقاومة . ويقول طاهر رياض: إن الهجوم على محمود درويش ليس جريئاً ولا نظيفاً ودوافعه محاولة "التسلق" على اسم كبير والانتقاص من موهبته، ومن يفعلون ذلك لا يستحقون التوقف عند ادعاءاتهم "الهزيلة" و"المتساقطة" لأن الحملة تكررت بعد غيابه . ويضيف: في حضور درويش لم يجرؤ أحدهم على قول شيء مما يزعمون، ومن الواضح أنهم يحاولون إظهار وجودهم عبره، لكن "هيهات" أن يطالوا قامته الأدبية، فهو أثبت نفسه عالميا أعجبهم أم لم يعجبهم، وأعداد محبيه في تزايد وتأثيره الجمالي وتألقه في اتساع . إن درويش ليس اسماً طارئاً كما غيره من الشعراء الذين انتهوا بموتهم، فهو لايزال يصعد في شعره وسنكتشف أشياء جديدة في رصيده المهم، وهو لم يكن شاعراً فلسطينياً فقط، وإنما ترك إرثاً عربياً ربما لا يضاهيه أحد، وقد أثبتت عشرات الدراسات العالمية إضافته كثيراً على جميع مستويات اللغة والجماليات والمضمون وغيرها . لقد كان درويش يسخر من بعض الهجمات عليه، ويحاول التواصل مع أصحاب أخرى حين يجدهم يثيرون أمراً يستحق المناقشة والبحث وطالما كرر: "اكتبوا وسأظل أكتب وليظهر الأفضل"، ويؤكد أنها ليست "حلبة ملاكمة" للتصارع والصراع، ويفضل الالتفات إلى قيمة وأهمية ما يطرحه وعموماً، فلا خوف من حملات صغيرة ضده يقودها صغار .