مارس نبي الله يوسف السياسة حين وضع الوعاء في رحل أخيه من أبيه وأمه بهدف إبقائه لديه ومعه وبعد أن عرف إخوته الآخرون وهم له منكرون. ومارس أخوة يوسف السياسة بعد انكشاف ما دبره وأراده يوسف حين قالوا "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل"، وكون يوسف "أسرها في نفسه" فتلك سياسة أو ذلك من السياسة. فالسياسة إن كانت فن الممكن أو "الغاية تبرر الوسيلة" موجودة كصراع حتى بين وفي إطار الإخوة "اقتلوه يخل لكم وجه أبيكم" وكاستعمال "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" وتمثلها المسافة من خيار وفعل الأمر "اقتلوه" إلى خيار "لا تثريب عليكم اليوم". بين ما تقدمه لنا سياق وأحداث القصص القرآني هو أن الخالق وحده يعلم ما في الصدور وهو في ذات الوقت يرشدنا إلى قدرات لدينا للتعمق في سلوك البشر ولمعرفة خاصيات وخصائص في الآخر كتعريض أدق ومعرفة أشمل وأعمق في إطار علاقات وصراعات الحياة البشرية. ففي إطار القيم الاجتماعية الحميدة فالابن يطلب من أبيه بعبارات الرجاء والعادي يطلب من الشيخ بما يصل إلى عبارات استجداء ولا يستعمل فعل الأمر، إلا إذا كان في إطار تعظيم الأب أو تضخيم الشيخ وليس في إطار الطلب أو المطلوب في إطار أي خلاف في أسرة أو قرية حتى ولو كانت أسبابه تافهة تسمع دعاء في العلاقة بالخالق من عيار "الله يصيبه، الله ينتقمه" ثم يتطور إلى فعل الأمر "اللهم دمره واقطع نصيبه واهلك ذريته" ففي إطار العلاقة بالخالق يلجأ العبد إليه كحاكم ليرجوه رفع الظلم أو تسخير أسباب العدل لينصف إذا كان مظلوماً فعلياً وحقيقيا وليس ادعائيا وصراعياً، فيما مطالبة الخالق بما يتجاوز رفع الظلم وإنصاف المظلوم فيها تجاوز وتطاول اللا وعي. إنه تجاوز فيه شيء من الظلم للخالق "والعياذ بالله" وهو يعبر عن ظلم وظلمات داخل الذات يقيدها فقط عجز القوة وعجز الفعل. إذا كانت الصراعات في الحياة هي حكمة الخالق منذ هابيل وقابيل إلى إخوة يوسف، وحتى التئام ووئام الأخوة في "المشترك" فإن الوعي بالصراعات هي ما تعني في إطار حياته وأداء دوره ورسالته في الحياة، فكون الخالق "يؤتي الحكمة من يشاء" فذلك تميز لميزة هي موجودة لكل البشر من يستعملها ويتعامل بها ومن لا يراها ولا يريدها ويتعامل بغيرها. الاستعمال الحكم هو بوضع يوسف الوعاء في رحل أخيه ربطاً بالماضي والآتي، بينما "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" استعمال تلقائي لحدث تلقائي يجسد ضغينة وبغضاً ورغبات دفينة لم يدفنها الجب ولا بديل مودة وحب. الصراعات حين تتكاتف أو تكثف كحروب الجمهوريين الملكيين أو دورات الدم في عدن وذروتها يناير 1986م فالضحايا من العامة البائسين، والبؤساء يصبح سقف مصالحهم وضع حد لهذه الصراعات وإنهاءها ولا مصالح لهم ولا يريدون. حتى حين الأخذ بالديمقراطية كان الصراع بمفهومين لها مفهوم شرقي "شيوعية الديمقراطية الاجتماعية" ومفهوم غربي "ديمقراطية أفراد المجتمع" وليس انتشارها لانتصارها، وإن أبرزها الانتصار، ولكنها انتصرت لانعدام الواقعية في الأخرى وتنتشر لعدم وجود بديل واقعي وواعي أفضل وبأي أخطاء لها ظهرت وقد تظهر. الديمقراطية ميزتها مرونات تستوعبها ثقافة وأوضاع وخيارات كل مجتمع، وهي بقدر ما تستوعب في أرضية الوعي تستوعب أرضية القيم والثقافة والمرجعيات، فيصبح أي مجتمع يعبر بها ذاته وليس هي من تعبر عنه كما المفهوم الشيوعي. إنها بالتالي تستوعب مرجعية الإسلام كمصدر أساسي للتشريع في الدستور أو التراجع لانتخابات القائمة النسبية إذا فرض ذلك الاشتراكي والمشترك، أو من مفترض أفضلية تقدر، والتراجع لا يمكن أن يكون أفضلية في تقديرنا. فالقائمة النسبية هي بين جديد الاستعمالات الآنية والتلقائية ليست واعية ولا من أرادها ولا وعي لأرضية حراكها وتحريكها. وعي الصراع وصل إلى مجون ومثل هذا الخيار لأية معارضه هو شيء من الجنون. المرحوم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وقبل عقد في إحدى اللقاءات الصحفية الأكثر إثارة معه قال "إن القبيلة فوق الديمقراطية" والصحيح الذي يؤكده الواقع والوقائع حتى الآن هو أن الصراعات – وليس القبيلة- فوق الديمقراطية. المشترك يفرض علاقة الصراع مع الحكم كعلاقة مع الديمقراطية ومسار النظام، وقدراته على تطوير المسارات ارتكزت على مفترض الصراع والمدى أبعد، والأفضلية هي في الافتراض أو المفروض. فكلا الطرفين مع ذات الخيار وإن اختلفا تكتيكياً ومناوراتٍ وفي تجريب تكتيكات أو ممارسة مناورات حصيلة حكم الاشتراكي قرابة ثلاثة عقود، أوضحت بديهياتها إدانة الاشتراكي بأسوأ فساد، وشراكة الاشتراكي مناصفة في الفترة الانتقالية أعطته أفضل أماكن وإمكانية مكافحة منع الفساد أو محاربته، ولكنه مارس الفساد واستعمله سياسياً في إطار الصراع، وها هو رئيس الحكومة- آنذاك- حيدر العطاس يتحدث عن قيادات نهبت أموال الحزب قبل وخلال حرب 1994م "مليارات". بمثل هذا الطرح لا نبرر للفساد ولا نبرئ الحكم أو النظام بل نؤكد وجود الفساد والحاجة إلى كشفه ومواجهته واجتثاثه أو تخفيفه واقعياً. إننا بحاجة قبل ذلك ثم من أجل ذلك لتشخيص الإشكالية السياسية وتفعيلها الصراعية لنواجه أية مشكلة في الواقع من أجل الواقع وليس للوقيعة وللمزيد من تدمير الواقع بصراعات اقترن بها أبشع وأشنع وأوسع دمار، وفاحت من براكينها الدماء أنهاراً. الغريب في فترة مضت وليست بعيدة أنه حين كانت صحيفة أو صحفي يكشف فساد وزير أو أكبر من مسؤولي الحكم، تنبري صحيفة معارضة ومن صنف المتشددين للدفاع عن هذا المسؤول، فما الذي يمنع صحفاً كهذه وصلت إلى الحاكم "الرئيس" بحملات استهداف إلى حد الإسفاف أن تكشف فساداً ليعالج؟!.. إذا كان مثل هذا الكشف والتعرية لا تؤثر على فساد وفاسد فالمشكلة الأهم والأكبر هي فقدان المعارضة للمصداقية إلى حد افتقاد التأثير. المعارضة إذاً تريد فساداً للاستعمال أو تريد استعمال الفساد عنواناً ولا تريد علاجاً أو معالجة على طريقة "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل".. هذه المعارضة هي أبشع من أدمى ودمر واقع اليمن، وحين العجز في مباشرة الدماء والدمار تدمر الواقع في تفاعله وتفاؤله وفي إرادته ووعيه، وهو دمار لواقع المحكومين وليس واقع الحكم، فقد طورت حتمية ماركس قومية وأسلمة وتأمل بلوغها وتحققها بعد انهزام الماركسية. إذاً المعارضة هي حاجية للديمقراطية فعليها أن تعي بديهية أن النظام حاجية للاستقرار وهي حاجية للوطن، ولدينا من التجارب ما يكفي ولا تحتاج تجريباً لتأكيد أهمية هذه الحاجية أو للإحساس بها. الصحيح أن المشترك فرض الصراعات على الديمقراطية وفوق الديمقراطية، وذلك يعبر عن حالة ضعف لازال الحكم فيه أو نقاط ضعف لازالت فيه أو في الواقع الذي يحكمه، بما يجعل الصراع عليه مفروضاً أو فيه فضلية حتى يعالج نقاط الضعف بالقوة أو يدمج بين الضعف والقهر في واقع الحكم أو الواقع الذي يحكمه. فمن صراع قابيل وهابيل وأخوة يوسف تطور العالم إلى صراعات كالحرب العالمية الأولى، ثم الثانية. الاتحاد السوفيتي حافظ على تقليد تكريم المحاربين القدامى "الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية" وبأوجه متعددة للتكريم.. كما بين أوجه التكريم أن هؤلاء المحاربين القدامى هم فوق نظام الطوابير التي عرفت للحصول على مواد غذائية واستهلاكية في المراكز والأسواق، فحامل بطاقة هذه الصفة "المحاربون القدامى" لا يأخذ ترتيبه في الطابور بل يقفز إلى ما بعد أوله ويأخذ ما يريد وبكرم إلى جانب التكريم. انتقالنا للديمقراطية كما وضع السوفيت بعد الحرب العالمية الثانية ولكن محاربينا أعلى كعبا وأغلى من أي مربع أو مكعب، ولا تقارن حروبهم بالحرب العالمية الثانية ولا يقارنون بالمحاربين القدامى السوفيت ويكرمون بالحليب ومشتقاته أو بأنواع من العصائر والمشروبات والفواكه والخضروات.. نحن نكرمهم بأعز ما نعتز وهي الديمقراطية فعزنا لهم والعزاء منهم، لا يكفي أنها ديمقراطية جاءت من رحم صراعات الحروب بل نسديها ونهديها إما تجنباً لشر يقدر أو ترويضاً لشراهة لا حدود لقدراتها. ليس من طرف في البلد بكل أطيافه وفي كل الواقع بما في ذلك الحكم أو البرلمان أو الحبيش أو الشعب أو أي بشر حتى بإجماع النسبة العربية الشهيرة 99.9% - ليس كل هؤلاء ولا طرف منهم – قادراً على تأجيل الانتخابات.. المحاربون القدامى "المشترك" هم فقط من يملك هذه القدرة وفرضها ولم يعارضها أو يعترض عليها أحد. ربما كنا نتصور أن المشترك انقضى أجله وانتهت صلاحيته فإذا هو من يفرض "التأجيل" ومن يلغي ويعطي صلاحية كل الباقين حكاماً ومعارضين ومحكومين. عرف عنتر ب"عبلته" وهتلر ب"نازيته" فهل المشترك يمثل سيف عنتر ام كتائب هتلر؟!.. هل مازلنا في صراع السيف أم التسويف؟!.. هل مازلنا في صراع "النازيات" أم النزوات؟!.