والد المجني عليه عفا عن القاتل بشرط أن يترك العمل على "العربية" ويعود إلى الدراسة هناك مقولة قديمة تقول: "إن الأب لا يحب أحداً أكثر من نفسه سوى ابنه"، لكن الكثير من الآباء لا تنطبق عليهم هذه المقولة إطلاقاً، وتجدهم في تعاملهم مع أبنائهم طغاة جبابرة لا يرحمون، فهذا أب أخرج طفله من مدرسة القرية وألقى به في شوارع المدينة وحمله مسؤولية إعالة إخوانه، فكانت النتيجة تحول "الطفل" إلى مجرم متهم بالقتل!!. "عمار" هو الابن البكر لأسرة مكونة من أب وأم وستة أبناء، ولد ونشأ سنوات طفولته الأولى وسط أسرته في إحدى القرى الجبلية، وعاش طفولته مثل بقية أطفال القرية، "لعب وضحك وبراءة"، وعندما بلغ السابعة من العمر ألحقه والده بالمدرسة التي لا تبعد كثيرا عن قريتهم، ووفر له جميع متطلبات التعليم، وحثه على أن يكون متفوقاً على جميع طلاب الفصل. لم يُخيِّب "عمار" ظن والده، فأكمل العام الدراسي الأول بدرجة "ممتاز"، لينتقل إلى الصف الثاني وينجح فيه بتفوق ثم التحق بالصف الثالث والرابع والخامس، حتى بلغ الصف الثاني إعدادي، وفي هذه المرحلة أطفأ "عمار" الشمعة الرابعة عشرة من عمره وكانت الأسرة قد رزقت بخمسة من البنين والبنات بعد "عمار" ليرتفع بذلك عدد أفرادها إلى ستة أبناء، إضافة إلى الوالدين. لم يكن لوالد "عمار" مصدر دخل ثابت كوظيفة حكومية أو محل تجاري خاص، وكانت حياته وحياة أسرته مرتكزة على "عربية" صغيرة يطوف بها شوارع المدينة لبيع الفواكه والخضروات، وفي كل مرة يتوفر لديه مبلغ من المال يعود إلى زوجته وأبنائه في القرية، فيمضي معهم بضعة أيام، ومن ثم يعاود السفر مجدداً للعمل في المدينة، أما الأم فكانت مهمتها تنحصر في تربية الأطفال وتدبير شؤون المنزل، وفي كل يوم يمر كان الأطفال يكبرون وتكبر معهم مشاكلهم ومتطلباتهم، حتى شعر الأب بأن عبء المعيشة يثقل كاهله. في أحد الأيام أخبر الأب أم أولاده برغبته في اصطحاب ابنه البكر "عمار" معه إلى المدينة للعمل على "العربية" ومساعدته في إعالة إخوانه، لكنها رفضت تلك الفترة، خشية على فلذة كبدها من المدينة وتعبها، خاصة وأنه لا يزال طفلا لا يستحمل العيش بعيداً عن أسرته، إضافة إلى أن الابن يرغب في مواصلة دراسته، فقال لها زوجها: "يكفي (عمار) ما ناله من العلم حتى الآن، ويجب عليه أن يعمل حتى يكون رجلاً يمكن الاعتماد عليه مستقبلاً". لم تستطع الأم إثناء الأب عن إخراج الابن من المدرسة وترحيله إلى المدينة، واكتفت بتوصيته بأن يحيطه بالرعاية والحنان، وألا يقسو عليه كثيراً، بينما لم يجد "عمار" مجالاً للنجاة من أوامر والده بترك الدراسة ومغادرة القرية، فحزم أمتعته وودع والدته وإخوانه وانطلق صوب المدينة لأول مرة يترك فيها المنزل ويغادر بعيداً عن أسرته. وصل "عمار" ووالده إلى المدينة وسكنا في "دكان" صغير استأجراه مع أشخاص آخرين، ومن اليوم التالي أخذه والده لتعلم العمل على "العربية" فكانا يملآنها بالفاكهة صباحا ويطوفان شوارع المدينة حتى حلول المساء، فيعودان إلى "الدكان" وينامان فيه حتى الصباح، ليستيقظ الطفل على رحلة عذاب جديدة تستمر أكثر من (12) ساعة بين شمس وبرد وأوساخ الشوارع، هكذا حتى تمرس على العمل وتعرف على الشوارع والأسواق، فكان والده يملأ له "العربية" بالبضاعة في الصباح الباكر ويساعده على دفعها إلى السوق، ثم يتركه يمارس العمل ويذهب هو للتجول أو يعود للنوم والراحة في "الدكان" حتى يعود الابن مساء حاملاً لوالده ما جناه من مال طوال اليوم. مع مرور الأيام أحب الأب الراحة، وتحمل الطفل عبء العمل وهموم الحياة رغم صغر سنه، حتى والده تناسى واجبه تجاه أبنائه في رعايتهم وتربيتهم وحمايتهم من جميع أشكال العنف والاضطهاد، ووأد بقسوته أحلام طفولة "عمار" وحمله ما لا يطيق، وذات صباح حزين، أخذ الطفل "العربية" المليئة بثمار "البلس المشوك" وانطلق بها يدفعها أمامه بكل قوة حتى وصل إلى جوار إحدى المدارس، وكان وقت انتهاء اليوم الدراسي وعودة التلاميذ إلى منازلهم، فتوقف "عمار" ينظر إلى الطلاب الذين في مثل سنه وهم يرتدون الزي المدرسي ويحملون الحقائب على ظهورهم يمرحون ويضحكون ويودعون بعضهم بعضا على أمل اللقاء في اليوم التالي. وقف "عمار" وتعلق نظره بمشهد التلاميذ، بينما أعادته ذاكرته إلى الوراء قليلا فتذكر مدرسته في القرية وأصدقاءه وزملاءه، وبينما هو سارح بخياله الحزين، انتبه لصوت أحد التلاميذ وهو يسأله عن سعر "البلس" فقام ببيعه بعضا منها، وفجأة وجد نفسه محاطا ببعض الطلاب المشاغبين، الذين يريدون أن يعطيهم مما يبيع، لكن دون نقود- "ببلاش"- فرفض، وأخذ السكين التي يستخدمها في قطع حبات "البلس" وهددهم بها إن حاول أحدهم الاقتراب من بضاعته أو إيذاءه. أثناء ذلك قام أحد هؤلاء التلاميذ برفع "العربية" وهزها حتى أطاح بجزء مما تحمله على الأرض، فيما كان الآخرون يضحكون، فتحمس "عمار" وهجم عليه والسكين في يده، ليغرسها بقوة في بطن هذا التلميذ المشاغب، الذي سقط مباشرة على الأرض والدم يسيل من مكان الطعنة، فصرخ جميع التلاميذ عندما شاهدوا الدماء تسيل من بطن زميلهم، وارتعشت أجسادهم ولم يعرفوا ماذا يفعلون سوى الصراخ بأن صاحب "العربية" طعن زميلهم، بينما ظل المجني عليه ملقىً على الأرض حتى تم إسعافه إلى المستشفى، ونظراً لكمية الدم الكبيرة التي فقدها قبل إسعافه، لم يستطع البقاء حياً ومات في نفس اليوم. حاول "عمار" الهرب، لكن زملاء المجني عليه أمسكوا به حتى حضرت الشرطة إلى مكان الحادث وألقت القبض عليه بتهمة القتل العمد، فاعترف بكل شيء أمام والد المجني عليه الذي أحس بالظلم الواقع على هذا الطفل المسكين، ظلم والده وقسوة الحياة، فقام بمسامحته وإعفائه من جريمة قتل ابنه، شرط أن يقوم والده بإعادته إلى القرية ليواصل تعليمه، فوافق والد "عمار" على ذلك الشرط، ولولا طيبة الرجل – "والد الطفل المقتول"- وتفهمه، لكان "عمار" خسر مستقبله وتحول إلى مجرم قاتل وهو ما زال طفلاً، والسبب في ذلك الأب الظالم!!. *صحيفة الحوادث اليمنية