كدارسة أدب وممارسة سياسة, تستوقفني حزمة التصريحات الرسمية العربية بشأن الصراع العربي الإسرائيلي, حسب تعبير الشارع العربي وحتي الإعلام العالمي المحايد, أو بشأن "القضية الفلسطينية" أو حتي "الأوضاع في المنطقة", حسب أشيع التسميات العربية الرسمية التي تخدم التنصل من تبعات كونها طرفا في الصراع بحصره في الفلسطينيين أو تعميمه علي الإقليم أو حتي تدويله ليضيع الدم العربي بين قبائل العالم. هذه التصريحات لاتزيد علي تكرارواحد من أربعة كليشيهات: الأول,أن ما يجري لا يخدم عملية السلام أو لا يخدم المفاوضات أو يعرقلها علي أقصي تقدير..والثاني, انه يهدد أمن واستقرار المنطقة ..والثالث, أن علي المجتمع الدولي -وأحيانا امريكا أو الرباعية- أن تتصدي لمسؤولياتها عما يجري..والرابع, أن علينا أو علي كل المذكورين أعلاه وصولا للمجتمع الدولي إياه, أن لا يضيعوا فرصة السلام المتاحة .. شيء أشبه بإعلانات التخفيضات الهائلة لفترة محدودة علي سلعة كاسدة أو فاسدة. ملاحظ ان الصيغ الثلاث الأولي تأتي في سياق التعليق علي مستجد يزيد الوضع سوءا, وهو مستجد تخرج به علينا إسرائيل في كل مرة, بدءا من إدارة ظهرها للعرب الذين يلهثون خلفها في طلب تكرمها بالجلوس معهم, وانتهاء بفعلة منكرة جديدة معلنة (الفعلات المنكرة غير المعلنة يجري التستر عليها عربيا حتي بعد ان تكشفها إسرائيل ذاتها بصلف وازدراء) تقوم بها إسرائيل بحقنا كعرب. ولكن درجة فداحة ما تقوم به إسرائيل لاتؤثر علي صيغة ذلك "التعليق" المتكرر, وليس "الرد" حتما. فالرد هو فعل لم ترقَ التصريحات العربية حتي لنسخته اللفظية, مما يجعل الحديث عن رد علي الفعل بفعل أو حتي التلويح بفعل أمرا غير مطروح للبحث.. بل علي العكس, الكليشيه الرابع في ردود العرب, المتعلق بضرورة عدم إضاعة فرصة السلام, يعني استمرار اللهاث خلف إسرائيل مهما فعلت.. احتلت واستوطنت ونهبت الأرض وماعليها وما حولها وهجّرت واعتقلت وعذبت وهودت المقدسات, بل و"أطالت اللسان" واستهترت بالأنظمة العربية قبل شعوبها ووصفتهم بكل النعوت الرجعية.. ومع ذلك الكل يخطب ودها. والتغيير الوحيد الذي طرأ علي هذا الكليشيه الرابع تحديدا يثبت كل ما قلناه أعلاه . فهو بدأ مع الإعداد لمؤتمر مدريد حديثا عن "فرصة سلام متاحة".. ثم ومع استعجال العرب واندفاعهم, بل وأحيانا تدافعهم وكأنهم مقبلون علي غنيمة, بدأ الحديث عن "الفرصة الأخيرة للسلام".. ولكن تراكم الفرص الأخيرة التي أعادت إسرائيل إلقاءها في وجوه العرب, استوجب حذف وصف "الأخيرة" هذه, وبديلتها الأكثر شيوعا حاليا هي "الفرصة التاريخية". وفي وقفة سريعة عند كل صيغة نجد أنها كلها أبعد ما تكون عن أي موقف أو فعل. والسياسة هي أحد هذين أو كلاهما معا, كون "الموقف" يؤدي لفعل بطريقة مباشرة أوغير مباشرة, "الفعل" يضع فاعله في "موقف" من نوع الفعل. الصيغة الأولي من تلك التصريحات تختار "النفي " بدلا من " التأكيد", وهي صيغة تنم عن ضعف وهروب من المواجهة. فالأولي في أي تعليق علي أي فعل أن نتحدث عما يسببه من ضرر أو فائدة. فلا يجوز لطبيب أن يقول عن إفراط تناول المريض للدهون, أن "هذا لا يخدم خفض الكولوليسترول" بدل أن يقول إن هذا سيتسبب لك بجلطة. أم أن حديث الطب حديث جاد لأنه يتعلق بشأن حياة او موت, والسياسة مجرد إنشاء لا علاقة لها بكل هذا الموت الجاري لعقود, وبنوعية حياة تجاوزت الفلسطينيين لغالبية العرب, باتت أسوأ من الموت ذاته ؟؟!! والصيغة الثانية التي تنصب كفزّاعة, القائلة بأن ما يجري "يهدد أمن واستقرار المنطقة", هي أيضا صيغة هروب أخري.ولكن إذا نظرنا لسياسات قائليها نكتشف – للأسف- أنها ليست دعوة لدول المنطقة والإقليم للتكاتف للتصدي للخطر المهدد لأمننا واستقرارنا جميعا. فما يسمي بدول الاعتدال تعادي دول الممانعة لأن الأخيرة تريد التصدي لهذه الأفعال الإسرائيلية التي "تهدد أمن واستقرار المنطقة". وبعض أشكال هذا العداء يصل حد فتح الأراضي والمياه والأجواء الإقليمية وخزائن الأموال (ناهيك عن فتح الملفات المخابراتية) لترسانات عسكرية غربية, آخر ما سمعناه أنها ستكون نووية .. أي أنها تجلب علينا ما يهدد أمن المنطقة بأضعاف مضاعفة !! وصيغة الكليشيه الثالثة,تلك التي تدعو أمريكا أو المجتمع الدولي للتصدي لمسؤولياته, تجعلنا نتساءل كيف نطالب الآخرين بالتصدي لمسؤولياتهم تجاه ما يحدث لنا في حين نحن لا نتصدي, ولو بمجرد وقف التعامل الودي الحميم, مع من يفعل بنا كل هذا ؟؟ أما الرابعة, تلك المتعلقة بالفرصة الأخيرة أو التاريخية, فهي الأصدق في نصها الحرفي دون ما يسوق من ظاهر كلامها. فمنذ أصبحت القضية الفلسطينية بابا لتسول المساعدات لبعض قادتهاوعدد من المنخرطين في مجرياتها, وما تلا هذا من تراكم إثراء هؤلاء باقتطاع أجزاء من تلك المساعدات لأنفسهم وصولا لتحويلها بكاملها لحساباتهم الشخصية بعد أن ثبت أن أمريكا وأوروبا تغضان الطرف عامدتين .. ثم ما تلا من استثمار تلك الثروات في صفقات أرباحها الفاحشة تتأتي مما يجري نحره سياسيا وليس مما يبني اقتصاديا.. أصبحت كل جولة لقاء مع الإسرائيليين "فرصة تاريخية" حقيقية لهؤلاء, وهم يخشون فعلا أن تكون "فرصة أخيرة" كونهم غير مطمئنين لبقائهم في مواقعهم, لا لجهة شعوبهم التي أتوا لمواقع السلطة بتزوير إرادتها, ولا لجهة أمريكا وإسرائيل التي لا تنفك تذكرهم بان بقاءهم بيدها إمعانا في تطويعهم ..علي هذه الخلفية البانورامية للفرص المقصودة, نتوقف عند خبر طازج يقول بأن إسرائيل تشترط لموافقتها علي تشغيل شبكة اتصالات خليوية جديدة في الأراضي المحتلة أن تتوقف السلطة عن معارضة توسيع المستوطنات..ومن قبل كانت تسربت أنباء تفيد بأن أبناء أبو مازن هم أكبرالمساهمين في تلك الشبكة !! في ضوء هذا يتضح لماذا استعمل أبو مازن صيغة أكثر انتكاسة لأحد الكليشيهات المذكورة أعلاه, في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة, لا أقل. فهو تحدث عن أن استمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات وإقامة الجدار"قد يجهض فرص إطلاق عملية السلام ". وانتبهوا ل "قد", ثم لكون ما قد يجهض ليس السلام الذي لا يراد له أن يقوم كي لا تنضب حنفيات المشاريع والمعونات والتعويضات, بل هو ثلاث معطوفات علي كلمة "السلام" تفيد إبعاده. وإذا نال مازن تصريح تشغيل الخليوي, قد يتحدث أبو مازن في لقاء الجمعية العمومية التالي عن أن اكتمال تهويد القدس ومنع المسلمين من الوصول للأقصي والشروع في الترانسفير للعرب من كامل الأرض الفلسطينية التي خلف الجدار, إجراءات "قد تجهض حلم وجود فرصة إطلاق إطار ... عملية السلام". هذا عن خطاب من يزعم انه الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين. أما الأردن الذي وضعه المتطرفون الصهاينة علي طاولتهم وبدأوا يصوتون علي مصيره .. فوزير خارجيته الذي رأس وفده للأمم المتحدة, كرر رزمة كليشيهات اقدم من هذه مما كنا نسمعه قبل كل التنازلات المفصلة في اتفاقية وادي عربة, تفيد بطلان كل ما قامت به إسرائيل منذ احتلال الضفة.. ولكن مع تساهل كبيروصيغة مطاطة تقفز عن الشرعية الأهم بالنسبة للأردن عند الحديث عن اللاجئين. والأدهي أنه, عندما أصر مندوب محطة الجزيرة علي تثبيت المعاني الطائرة في كليشيهات علي شكل أفعال ومواقف من مجمل ما يجري للقضية.. ماذا كان رد الوزير؟؟ وزيرنا رفض أن يكون له أي موقف من أي شأن, حتي تجاه المبادرة العربية التي سئل عنها تحديدا, وكان جوابه أن الأردن مع المبادرة التي "سيأتي" بها أوباما!! وزير خارجيتنا يكون بهذا قد استقال لصالح وزيرة خارجية أمريكا أكبر حليفة لإسرائيل .. أو لصالح أي من معاونيها أو موفديها, ولكن بعد أن وقع باسمنا شيكا علي بياض لحساب أوباما الذي وضعته إسرائيل في جيبها, مما يؤشر علي من التي سيحال الشيك إليها لتملأه ..وقد سبق لإسرائيل وملأت شيكات أمريكا نيابة عن أوباما ذاته ورغما عن كل ما تعهد به وأراده, وخضع أوباما مغلبا مصالحه الداخلية علي مصالحنا .. فلماذا نقدم أنفسنا ثمنا لخضوعه ذاك؟؟ ألم يبق ولو كليشيه واحد يسعف الوزير, أم أنه لم يكن معه عند عقد اللقاء أي ممن "يغششون" ساستنا بتمرير تلك الكليشيهات لهم, ليزعموا اجتيازهم امتحان التأهيل لتبوّؤ هكذا مناصب حساسة؟؟!!