لم تقدم حكومة العدو الصهيوني على شن عدوانها البغيض على قطاع غزة دون أن تستشر أو تستأذن، أو تبلغ وتعلم، أو تحذر وتنبه، فهي لا تستطيع أن تعلن حالة الحرب في الإقليم والجوار، دون أن تطمئن إلى مواقف الدول الكبرى والصديقة، والجارة القريبة والبعيدة، لئلا تسيئ هذه الدول فهم حربها، أو تذهب في تفسير أسبابه بعيداً، وتسيئ الظن فيها، وتتهمها بالتفرد وحيدة، وبالعبث في الإقليم بمفردها. إذ أن الكثير من الدول ستتأثر بالحرب، وستطالها نتائجها، وستنعكس الأحداث على شارعها وجمهورها، وستفرض نفسها على أجندة أعمال حكوماتها، الأمر الذي يحتم عليهم التشاور والتفاهم والتنسيق، فهم شركاء في المنطقة والإقليم، يتقاسمون الأدوار والوظائف، ويتبادلون المهام والواجبات. إنها بلا شك قد استشارت حكوماتٍ ورؤساء دول، وأخذت موافقتهم، وحصلت على البركة منهم، بعد أن أطلعتهم على خطتها، وكشفت لهم عن نواياها، فمن المؤكد أنها لم تفاجئ حلفائها، ولم تباغت أصدقاءها، وإنما أعلمتهم ليتهيأوا ويستعدوا، وليأخذوا حذرهم وحيطتهم، وليتأهبوا لمواجهة أي تطواراتٍ يفرضها الشارع، كالمظاهرات والاحتجاجات وجماعات الضغط الشعبي والديني والإعلامي. وحتى لا أذهب في رؤيتي بإتجاه المؤامرة فقط، وأحصر تفكيري في التنسيق المتآمر المشترك، والتخطيط الإجرامي الموحد، فإن حكومة الكيان الصهيوني قد تكون قد استشارت دولاً عربية وأقنعتها بضرورة شن حربٍ على قطاع غزة، لتطهيرها من فصائل المقاومة، والقوى الثورية التي باتت تملك أسلحةً رادعةً، وقدراتٍ عسكرية كبيرة، وصبرت عليها حتى حصلت على موافقتها، ونالت رضاها، لأنها تعلم أنها صاحبة دور، ومالكة قرار، وعندها القدرة على التدخل والتأثير، وهي مستفيدة من تفكيك قوى المقاومة في قطاع غزة، لأسبابٍ كثيرة وعديدة، أقلها لشبهة الأصل والإنتماء، واشتراك المنهج والاسم، والاشتباه في التدخل في الشأن الداخلي، والمشاركة في أعمال العنف والتخريب، والتوصيف القانوني لبعضها بأنها قوى إرهابية. وللأسف فإن العديد من المسؤولين الإسرائيليين، فضلاً عن مواقع إعلامية، وإعلاميين مختصين وخبراء، قد اعترفوا بأن الاستشارة قد تمت، والموافقة قد حصلت، والمباركة قد وقعت، ولعلنا نجد في سابقة تسيفني ليفني التي أعلنت من القاهرة عزم حكومتها شن عملياتٍ عسكرية ضد قطاع غزة، وهو ما حدث بعد ساعاتٍ قليلة من تصريحاتها، قرينةً لتأكيد هذه الفرضية. ولكن حكومة العدو قد تكون قد أبلغت حكوماتٍ عربية أخرى، بما فيها السلطة الفلسطينية في رام الله، بقرارها الذاتي، ونيتها الجادة بالقيام بعملياتٍ عسكرية في قطاع غزة لتأديب حركة حماس وقوى المقاومة الأخرى، وتجريدها من أسلحتها، وتخليص المدن الإسرائيلية من هاجس صواريخ المقاومة التي باتت تقض مضاجهم، وتهدد سلامتهم، وتعرض حياتهم للخطر، فضلاً عن حالة الارباك والاضطراب التي تصيب الحياة العامة بسبب الصواريخ، ولكن استشارة الحكومة الإسرائيلية لها لم تكن بقصد أخذ الإذن والموافقة، أو الحصول على القبول والسماح، بل فقط لأخذ علمٍ وخبر، وليكونوا على إطلاع، ليسهل عليهم أخذ احتياطاتهم، والتعامل مع نتائج ومجريات الأحداث. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لا تفتأ تؤيد الكيان الصهيوني، وتدافع عن حقه في صد العدوان، وترى أن من حق الإسرائيليين الدفاع عن أنفسهم، وضرب أي جهة قد تعرض حياة مواطنيهم للخطر، واستهداف أي عدو متوقع أو حقيقي. فإنها كانت وما زالت على علمٍ كاملٍ بكل ما تنوي الحكومة الإسرائيلية القيام به، وقد صرح بذلك سفيرها لدى الكيان، وعبر عن ذات الموقف أكثر من ناطقٍ باسم الرئاسة والخارجية الأمريكية، وعزز المواقف الأمريكية المؤيدة، الاتصالُ الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ورئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، وفيها أكد الرئيس الأمريكي على حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، والذي يعني تأييدها في حربها المعلنة على قطاع غزة. مسكينٌ شعبنا الفلسطيني، إنه الضحية والمعتدى عليه، والمقتول والمطرود، والمعتقل والمحاصر، والمستهدف والمعني، يريدون شطبه، ويسعون لقتله، وحرمانه من وطنه وحقه، على مرأى من العالم ومسمعٍ من قياداته، وبموافقةٍ منهم ومصادقة، وقبولٍ ومباركة، ولكن هذا الشعب الأبي يأبى الشطب، ويرفض الزوال، ويقاوم الموت والاستئصال، وستبقى إرادته قوية في مواجهة الظلم والتآمر، والخبث وتحالف الشر، وسيعتمد بعد الله على قوته وصلابة مقاومته، التي أثبتت أنها ظهره الذي لا ينكسر، وسنده الذي يبقى ولا يندثر. استهدفت طائرات العدو الصهيوني في اليوم السادس من عدوانها الغاشم على قطاع غزة، أكبر مخازن غذائية تابعة للأونروا، فحرقت ودمرت أكبر مستودعاتٍ للغذاء والدواء، كانت مخصصة لإغاثة ومساعدة أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني من سكان قطاع غزة، إلا أنها داستها بأقدامها بغير مسؤوليةٍ إنسانية، وبلا أخلاقٍ آدمية، كثورٍ هائجٍ، فاقدٍ لعقله، وفالتٍ من عقاله، لا ترده قوة، ولا يردعه قانونٌ أو نظام. إذ أغارت طائراتٌ حربية إسرائيلية، على مستودعات الوكالة الدولية، كما قصفتها بقذائف دباباتها المحتشدة على أطراف قطاع غزة الشرقية، الأمر الذي أدى إلى نشوب نارٍ عظيمة في المخازن والمستودعات، فأتت على أغلب محتوياتها، وأفسدت ما تبقى منها. ولم تتمكن فرق الدفاع المدني الفلسطيني من إطفاء النار المشتعلة، التي اتقدت بقوةٍ شديدة، حيث أن القذائف التي استخدمها العدو كانت من النوع الحارق، الذي يتسبب في حدوث نيران كبيرة، يصعب إطفاؤها أو السيطرة عليها، فضلاً عن عدم قدرة سيارات الدفاع المدني عن الوصول إلى مكان القصف، حيث توجد مستودعات الأونروا على الجانب الشرقي من حدود قطاع غزة، وهي أقرب نقطة إلى مكان تجمع الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي تحيط وتحاصر قطاع غزة، وتتأهب للقيام بعملية برية ضده. ربما لم تصمت الوكالة الدولية على استهداف مخازنها، ولم تسكت على انتهاك حرمتها، ولكن اعتراضها كان هادئاً وخجولاً، ولم يكن صوتها عالياً مدوياً معترضاً رافضاً، ولم تصدر بحقها بياناتِ إدانة واستنكار، بل اكتفى أحد مسؤوليها بعقد مؤتمرٍ صحفي، استعرض فيه جريمة الاعتداء، وبين حجم الخسائر والأضرار. هذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها جيش الكيان باستهداف مخازنَ ومواقعَ ومدارسَ ومؤسساتٍ تابعة للأونروا في قطاع غزة، فقد سبق له في عدوان 2008-2009 أن قصف وأحرق عامداً وقاصداً مخازن أخرى للوكالة، وأتلف آلاف الأطنان من المواد الغذائية المختلفة، التي كانت مرصودة للمواطن الفلسطيني الفقير والمحاصر في قطاع غزة، كما هاجم المدارس وقتل اللاجئين إليها، كما حدث مع مدرسة الفاخورة في مخيم جباليا، حيث استهدفت طائراته عشرات العائلات التي لجأت إلى المدرسة التابعة للوكالة الدولية، لاعتقادهم أن الأممالمتحدة قادرة على حماية مقراتها، وأنها تتمتع بحصانةٍ دولية تحميها من أي اعتداء إسرائيلي عليها. لكن العدو الصهيوني لا يراعي حرمة دولية، ولا يحترم قيمة إنسانية، ولا يقدر الأعراف الأممية، ويعتمد في اعتداءاته على الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تبرر عملياته، وتسكت عنها ولو كانت نتائجها مرة، وآثارها على الشعب والمدنيين قاسية، وهو الذي سبق في العام 1996 إبان عدوان عناقيد الغضب على لبنان، على استهداف المدنيين الآمنين اللبنانيين، من الرجال والشيوخ والنساء والأطفال، اللاجئين إلى أحد مقار القوات الدولية في قانا، التي هاجمها بقذائفه الجوية والبحرية مخلفاً مئات القتلى. العدو الصهيوني بات يستهدف الشعب الفلسطيني كله، ويحاربه في بيته ومسكنه، وفي رزقه وطعامه وشرابه، ولا يعنيه أبداً الجهة التي تحميه أو ترعاه، وإلا كيف نفسر اعتياده الدائم على الاعتداء على مقرات الأممالمتحدة، والمؤسسات الدولية الأخرى، وتخريب وإفساد مساعداتها وممتلكاتها، وهي التي تجمع من دافعي الضريبة في أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان وغيرها. لعل الأمين العام شخصياً، والأمانة العامة للأمم المتحدة مدعوين لإتخاذ موقفٍ واضحٍ وصريحٍ من العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الأهداف المدنية في قطاع غزة، وإبطال ادعاءاته المتكررة بأنه يستهدف المقاومين والمقاتلين، فما قام به ضد مؤسسات الأممالمتحدة، التي تحمل العلم الأممي، وترفع الراية الزرقاء التي يعرفها كل العالم، يدل على أن الكيان الصهيوني يستهدف قتل الشعب الفلسطيني كله، ومعاقبته بأسره، وحرمانه من كل حقوقه، وتجريده من كل مكتسباته، الأمر الذي يوجب وقفة دولية جادة وصريحة، حازمة وقوية ضد ممارسات العدو الغاشمة، لتوقفه عن غيه، وتمنعه من مواصلة ظلمه واعتدائه. "العصف المأكول" و"البنيان المرصوص" اسمان من القرآن الكريم عظيمان، اختارهما الله عز وجل للمعارك، وخص بهما الحروب مع الأعداء، وجعلهما عنواناً للقتال، وشرطاً من شروط النصر، يتجمل بهما المسلمون، ويتحلى بهما المقاتلون والمجاهدون، ويخاف منهما الأعداء والخصوم، وبهما يستبشر العدو بالهزيمة، ويوقن بالاندحار والزوال، كأبرهة الهالك، وأصحاب الفيل الضالين، وأبي جهلٍ المتكبر، وكفار مكة المعاندين. إنها أجمل صورةٍ ربانيةٍ قرآنيةٍ يرسمها فصيلان قويان من فصائل الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، فصيلان آمنا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبرسولهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وأيقنا بالجهاد طريقاً وسبيلاً، لتحرير فلسطين وتطهير القدس والمسجد الأقصى من دنس اليهود وشؤم الإسرائيليين، وآمنا بالوحدة والتكامل، في وقتٍ يشعر فيه الفلسطينيون أنهم في أمس الحاجة إلى الأخوة والمحبة، والتلاحم والتلاقي، والتعاون والتنسيق، لمواجهة عدوٍ عتلٍ زنيمٍ، باغٍ طاغٍ قاتل، لا يفرق ولا يميز، ولا يهمه إلا القتل والتدمير، والتخريب والتفجير. إنها أجمل علاقة تجمع بين الفصيلين الإسلاميين الفلسطينيين، حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، اللذين استطاعا أن يرسما بالدم أصدق علاقة فلسطينية، وأن ينسجا بالشهداء أجمل ثوبٍ فلسطيني يزدان به الشعب ويفخر، فتنافسا في الجهاد والمقاومة، وتسابقا في قصف الإسرائيليين ورد كيدهم إلى نحرهم، وتعانقت صواريخهم معاً، كقوسِ نارٍ يصنع النصر، ويلهم المقاومين، فوق القدس وتل الربيع، وفي حيفا والخضيرة، وفي مستوطنات الجنوب وفوق عسقلان وأسدود، حتى غدت صواريخهم عناقيد فخرٍ، وقلائد عزٍ، وأكاليل غارٍ، وقصائد مجدٍ، يتيه بها العرب والمسلمون. إنه سباقُ الفخر وميدان الرجال، وساحة المجد ومعمعان القتال، فيه يتنافس المتنافسون، ويتبارى المحاربون، يجدون الخطى، ويشحذون الهمم، ويسابقون الزمن أميالاً، ويتنافسون على الوصول إلى المدن والبلدات عمقاً، ويتحدون العدو أن يصد هجماتهم جنوباً أو شمالاً، من الأرض أو السماء، وفي الليل أو النهار، فما عاد رجالنا بعد اليوم فراراً، بل غدو كراراً لا يخافون، وفرساناً لا ينامون، أسودٌ على الأرض، وصقورٌ في السماء. في جنح الليل له كالأشباح يخرجون، من كل مكانٍ وبه يحيطون، يفاجئونه ويصدمون، ينثرون على جنوده ومستوطنيه الموت سماً، وينشرون في صفوفه الخوف رعباً، ويزرعون في قلوبهم جزعاً، تشهد به الملاجئ والكاميرات، وتسجله المحطات والوكالات. ومن جوف الأرض يصعدون إليه رجالاً وعمالقة، بكامل سلاحهم وبكل عدتهم يخرجون، تنشق عنهم طبقاتها ناراً، بركاناً أو زلزالاً، وسجيلاً أو انفجاراً، تعددت أسماء صواريخهم، واختلفت حمم نيرانهم، من القرآن تُستقى أسماؤها، أو تحمل أسماء الخالدين من رجالها، رنتيسي وياسين وجعبري، ولكنها جميعها للعدو صنعت، ولهزيمته وجدت، ولتحقيق النصر عليه أطلقت. بقدر فرحة الشعب الفلسطيني بما تحققه فصائله المقاومة، ورجاله المضحون، وبما آلت إليه أوضاعهم، وما أصبحت عليه قوتهم وسلاحهم، وقد تأكد لديهم أنهم قادرون على إيذاء العدو والنيل منه، وصنع معادلاتٍ للصراع جديدة، وفرض شروطٍ للقتال أخرى، تحقق الهيبة، وتردع العدو، وتجبره على الكف عن الاعتداء، والتوقف عن العدوان، فإن العدو حزينٌ لهذه العلاقة التنافسية التكاملية بين الفصائل الفلسطينية، ويسوؤه كثيراً أن تستمر وتكبر، وأن تصبح مثالاً ونموذجاً، يقتدى بهما الآخرون، يسعى لمثلها الباقون، فهذه الوحدة تخيفة، وهذا التعاون يضره ويهزمه. ولكنها علاقةٌ تسر الصديق، وتسعد الحبيب، وترضى الأهل والقريب والنسيب، فما أجمل أن تسود هذه العلاقة بين كل القوى الفلسطينية، تنافسٌ في قتال العدو، وسباقٌ شريفٌ في ميادين الوغى، كلٌ يقدم أفضل ما عنده، ويبذل غاية ما يستطيع، يتبادلون الأدوار، ويتعاورون السلاح، ويغطون على بعضهم بالنيران، ويستعينون بما لديهم من قدراتٍ لأداء الواجب، تعاوناً وتنسيقاً، وتفاهماً وتوزيعاً، بما يحقق الغاية، ويصل بالمقاومة إلى الهدف، لئلا يكون ارباك أو اضطراب، أو تعطيلٌ وتخريب، وتأخيرٌ وإبطاء، حفظ الله قوانا المقاتلة، ووحد صفوفنا المقاومة، وسدد رمينا، وحقق في العدو هدفنا، وجعله بأيدينا كالعصف المأكول.