تساؤلات كثيرة تثار حول العقوبات الأمريكية ضد صالح وعبدالخالق الحوثي وأبي علي الحاكم، والأخيران ينتميان للحركة الحوثية. البعض يرى أن هذه العقوبات تأتي في سياق استكمال عملية الانتقال السلمي في اليمن، والسؤال لماذا لم تفرض هذه العقوبات قبل سقوط صنعاء وسيطرة المليشيات على عدة محافظات؟. في حين يتحدث أنصار صالح عن هذه العقوبات كتدخل دولي يستهدف حزب المؤتمر وزعيمه ويرجح من كفة خصومه السياسيين، ولكن السؤال إذا كان الأمريكان يهدفون ترجيح كفة خصوم صالح فلماذا تركوا للمليشيات الحوثية استهداف حزب الاصلاح وهم خصوم صالح الرئيسيين؟. الحقيقة لا يمكن اكتشافها بلحظة تأمل، فالسياسات الدولية لا ترتجل كما يصنع العرب، وإنما تأتي في سياق استراتيجيات دقيقة تستغرق عشرات السنين، وهي تستطيع أن توظف المتغيرات في سياقها مهما كان حجم تلك المتغيرات. في الحقيقة ظلت منطقة الشرق العربي هاجساً مفزعاً لدى السياسة الأمريكية حتى حرب العراق الثانية التي قتل فيها الرئيس العراقي صدام حسين رحمه الله. في تلك الحرب تضاعف دور إيران في المنطقة وصار لها حضور فاعل زاد من فرضه واقعاً تحالفاتها الدولية مع روسيا، في حين ضعف الموقف العربي وخفت نهائياً. أدى ذلك إلى استقرار السياسات الأمريكية على ضرورة تقريب إيران كوكيل سياسي في المنطقة، أي أن المشروع الايراني صار مرحب به لدى الإدارة الأمريكية، ولكن في حدود جيوسياسية معينة. في تلك المرحلة وضعت خطة بريطانية أمريكية مشتركة لاعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة العربية بما يكفل السيطرة على الطاقة والتحكم بها، وسميت بالشرق الأوسط الجديد. طوال المرحلة السابقة لم تتوفر المسوغات الكافية للخارطة الجيوسياسية الجديدة بحسب الخطة الأمريكية. باغت الربيع العربي الإدارة الامريكية والأوربية ولم تكن قد حسبت له حسابه، فهناك قوى سياسية بديلة وربما قوى سياسية صاعدة، وهذا قد يخلط الأوراق في المنطقة. بعد استكمال دراسة واقع الربيع من قبل أجهزة الاستخبارات وتحليل المعلوماتية، استقرت السياسات الجديدة للإدارة الأمريكية على تلبية رغبات الشعوب العربية ولكن بلون مختلف يسمح بشرق أوسط جديد. كان من مفردات تلك السياسة المستقرة إخراج الرؤساء العرب السابقين من المشهد السياسي، وكان من بين هؤلاء علي صالح. غير أنه جرى تعديل بسيط بالنسبة للرئيس اليمني السابق علي صالح بموجب مقترح خليجي بحجة أن الخصم السياسي لعلي صالح ليس حزباً سياسياً وإنما شخوص قبليين نافذين، ويقتضي الأمر الإبقاء على صالح رئيساً لحزب المؤتمر نقيضاً لهؤلاء النافذين في حزب الاصلاح، وقد قبلت أمريكا بذلك التعديل مع تعديل مواكب في الملف اليمني قضى بنقله من يد المملكة السعودية إلى مجلس الأمن ليتم التحكم بالمنطقة بمعزل عن سياسات المملكة. أجرى صالح تحالفاته مع الايران ووكلائهم في اليمن الحركة الحوثية دون علم الخليج وخاصة المملكة السعودية، ولما كشف التحالف قام نجله بدور التطمين للخليج بأن هذا التحالف يستهدف ضرب الإخوان المكروهين خليجياً، وأن الحوثية مجرد ظاهرة جوهرها حزب المؤتمر الشعبي الحاكم سابقاً. بالطبع كان الأمريكان يرغبون في تحجيم حزب الاصلاح في اليمن عن طريق الحوثيين وصالح، وكان سقوط عمران ودخول صنعاء لهذا الغرض. كانت الترتيبات بين صالح والحوثيين تجري بخلاف ذلك، فقد ذهبت طبقاً للخطة الايرانية التي كانت عمود التحالف القائم بين صالح والحوثيين أبعد من الخط المرسوم لها. كانت ايران تفكر في خلق مسوغ جيوطائفي يمهد لدولة شيعية في اليمن، لتحاصر الخليج من شرقه وجنوبه وشماله، في حين لم تكن أمريكا وبريطانيا قد أيقنت بجاهزية ايران للتحالف الجيواستراتيجي بشكل دقيق، ولكن لا مناص من المضي مع ايران لاستكمال بعث المسوغات الكافية للشرق الأوسط الجديد، لذا قررتا السماح بضرب حزب الاصلاح ليتحول إلى أداة احتراب بيد المشروع الجيوطائفي، لكن حزب الاصلاح لم يكن بتلك النفسية المستعدة للمواجهة، وخاصة بعد خروج محسن من المعادلة الأمنية. دول الخليج اعتقدت بحسب الرواية الاماراتية أنه سيتم الانقلاب على دولة هادي وحكومة الوفاق ليعتلي أحمد علي وحزب المؤتمر السلطة في اليمن، ومن ثم يبدأ بمحاصرة الحركة الحوثية والقضاء عليها وإغلاق اليمن دون ايران ومشروعها، للأسف تم إقناع الرئيس هادي بنفس الآلية فاقتنع وسكت عن المليشيات، وجرى تضليله من قبل وزير دفاعه السابق. بعد سقوط صنعاء وسيطرت المليشيات انتفشت الحركة الحوثية وصارت أقوى من صالح وحزبه بفعل سلطة القوة، في حين ركد واسترخى مشهد الصراع السياسي والعسكري بسبب مغادرة آل الأحمر وعلي محسن لليمن. بالطبع كان بعض قيادات حزب المؤتمر لا يرحب بالتحالف مع الحوثية، كما أن قيادات المؤتمر الشعبي العام أغلبها لا يدين لنجل صالح بالولاء كما يدين لأبيه. اكتشفت المملكة وبعض دول الخليج أن صالح ونجله مارس التضليل بحقهم، واستوضح لهم أن التحالف بين صالح والحوثية وايران بات قوياً وبأبعاد جيوطائفية وجيوسياسية، فبدأت تحاصر صالح وتستهدفه اعلامياً. هنا توقفت الخطة السابقة، وخشي الأمريكان عودة القوى السياسية المناهضة لصالح عبر رعاية خليجية، لم يعد ممكنا استكمال الخطة السابقة دون صالح، فنجاحها يقتضي إذن إعادة انتاج صالح من جديد، ولكن صالح وقع سابقاً على خروجه من السلطة بيده، وليس مطلوباً من إعادة انتاجه استمراريته وعودته للسلطة من جديد، ولكن بعثه لمستوى محدود، وإذن يتطلب الأمر فعلاً معيناً لإعادة انتاجه في المشهد السياسي. هنا جاءت العقوبات الدولية وتبعتها العقوبات الأمريكية، وتم استثناء اللاعبين الجدد الذين يراد تأهليهم كبدلاء لصالح في المرحلة القادمة. كانت العقوبات بمثابة المسوغ لعودة صالح إلى المشهد السياسي عودة مؤقتة، بحسب السياسات الأمريكية، حتى يتولى صالح مهمة تحفيز الخصوم السياسيين للعودة لحلبة الصراع من جديد. طبعاً أمريكا تخلق بعودة صالح سبباً ومسوغاً للمشروع الجيوطائفي الذي تتبناه كحاضنة للربيع العربي ومخرجاته، لكنها لا تزال على خلاف مع ايران في دقائق وتفاصيل الملف، ومنها القبول بالوكالة السياسية دون مشروع نووي، ولكن ثمة وساطات متعددة لإكمال تلك التفاصيل. تدرك أمريكا أن حزب المؤتمر وحزب الاصلاح بامتداداتهما على كل الأرض اليمنية يستطيعان احتواء المشروع الجيوطائفي عبر ممانعة شعبية، لذا ستكون العقوبات مدخلاً لانشقاقات في صف المؤتمر تسمح بقبول المشروع الجديد، خاصة إذا ما كان هادي والدكتور الارياني هما من وقعا على رفع تلك العقوبات الى مجلس الأمن، لأن جناح هادي أغلبه من الجنوب، في حين جناح الدكتور الايراني وتشيعوه في المؤتمر أغلبهم من الوسط السني حسب الخطة الجيوطائفية. قبيل توقيع العقوبات الدولية على صالح ورفاقيه من الحوثيين جمع صالح لجنة حزبه الدائمة وقام باستبدال الرئيس هادي والدكتور الارياني من منصبيهما كأمين عام وأمين عام مساعد لحزب المؤتمر. لا شك أن هذا الفصل التعسفي سيخلق ردات فعل مناهضة، وستخرج حتماً إلى المسألة الجيوطائفية، وقد خرجت، فقد ظهرت أصوات تقول لماذا لا ينسحب الجنوبيون من حزب المؤتمر، وأخرى تقول لماذا يستهدف الارياني هل لأنه شافعي ومن المناطق السفلى؟ رغم عودة صالح للمشهد السياسي من جديد لم تتحرك القوى السياسية ولم يستحثها الصراع مع صالح من جديد، لذا يحاول صالح والحوثي انتاج عدد كافٍ من أسباب وبواعث الصراع ليتحول من صراع سياسي إلى صراع جيوطائفي ليتم طرح مبادرة جديدة تمسح سابقتها تقودها سلطنة عمانوايرانوأمريكا وبريطانيا. يبدو أن الوضع السياسي الداخلي للأحزاب النقيضة لصالح لم يعد يؤهلها للمواجهة السياسية، أو أنها تخشى من تفكك نسيجها التنظيمي إن أقحمت نفسها في صراع جديد، لذا قد تحتاج الخطة لمنتج جديد وسيكون صالح مستهلكاً، ومهمته إذن تأهيل نجله أحمد وحليفه عبدالملك الحوثي ليستكملا المهمة الجيوطائفية. بالطبع تركز الولاياتالمتحدة على قوى مركز شمال اليمن(المنطقة الزيدية سابقاً) كأداة تنفيذية على اعتبار أن لديها الجاهزية للتعصب المناطقي والطائفي، كما أن لديها الجاهزية للحرب والقتال في أي اتجاه متى وجدت القيمة المدفوعة مسبقاً، فهي إذن أهم أداة لبعث الصراع وتفكيك المجتمع اليمني طبقاً للمشروع الجيوطائفي، لذا ينفخ صالح فيهم بقوله (( لن يحكم اليمن بعدي زيدي)). لا أتوقع طبعاً ان القوى السياسية تدرك هذه الأبعاد العميقة، ولكن أتوقع أن ينساق أجزاء منها مع المشروع بفعل تمدد وتوسع المليشيات الحوثية في مناطق الوسط والشرق. كما لا أتوقع أن تمدد الحوثية وتوسعها سيخلق مبررات كافية لصراعات طائفية ومناطقية من الوسط إلى الشرق إلى الجنوب. يقتضي الأمر إذن التوغل في أجهزة الدولة العميقة لخلق مظلمة طائفية في اليمن، هذا ما ستلعبه المليشيات واللاعبين الجدد لحزب صالح والحركة الحوثية اللذان لم يشملهما قرار العقوبات. كما أن ثمة مدخل كبير للصراع وهو نقل جزء من الصراع إلى مناطق الشرق القبلية السنية الأشد كراهية للزيدية والتشيع، وهي دون شك مناطق تماس مع المملكة السعودية، ما سيمكن إن سقطت تلك المحافظات من اخضاع المملكة للتصالح مع ايران وترك أمر اليمن لله. عودة صالح للمشهد السياسي مستفزة أكثر للجنوبيين بمختلف قواهم، لذا سيعمل ذلك على تأزيم الوضع وتصعيد مطالب الانفصال. قد يعمل صالح والحوثيون خلال الأيام القادمة على تسريع العملية في الجنوب بالدفع بقواهم الجنوبية لمناصرة خط الانفصال وبدء المواجهة المسلحة، وسيمهد ذلك لانقلاب في الشمال يستكمل المهمة بتسريح هادي وحكومته بحجة التفريط في السيادة الوطنية، ولا يزال الملف مليئ بالمفاجئات وربما تأتينا الأيام القادمة بتفسيرات إضافية . * كاتب ومحلل سياسي يمني