آراء كثيرة في الصحف السيارة من المحيط إلى الخليج تصف الإعلام العربى بأنه جزء من جم المشاكل الاجتماعية والدينية والسياسية في حياتنا اليومية الشديدة الاضطراب ، خاصةً في السنوات الثلاث الأخيرة. لذا، وكمتابع يومي للإعلام في وطننا العربي، المقروء والمسموع منه والمرئي، أوافق كليًا على هذا الرأي نظرًا لأن الفوضى التحريرية واللامهنية التي هي سمة الكثير من القنوات إلى جانب الإعلام الموجه من أغلب قنواتنا الحكومية التي يقوم على إدارتها مسؤوليون سياسيون هدفهم إرضاء الحاكم وليس الجمهور، أثرت سلبًا على سمعة واحترافية ومصداقية الإعلام العربي خاصة من جانب الجيل الجديد من الشباب الذي يستطيع البحث عن المعلومة ولا يطيق تلقيها من إعلامه الموجه دون طرح الأسئلة وإيجاد الدلائل الكافية لتصديق ما يتلقاه من معلومات. كيف إذن يستطيع الإعلام العربي القيام بواجبه المهني بعيدًا عن الدعاية للحاكم أو للمالك ويكون وسيطًا خبريًا فقط لاغير دون أن ينزلق لصراعات حزبية أو طائفية أو كليهما؟ – من المفيد في هذا السياق أن ننظر شمالًا لتجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (الكثير من الإعلاميين والأكاديميين ينظرون فقط لتجارب الإعلام الأمريكي وكأنه المثال الأصلح والوحيد لعالمنا العربي!) و ندرك السبل المثلى لإعادة هيكلة الإعلام العربي. – لا يخفى على أحد الدور السلبي الذي قامت به وزارة البروباجاندا والتنوير العام في ظل حكم النازيين بما في ذلك كيفية صناعة العدو وإزكاء الكراهية التي أهلكت ألمانيا ودفعت ثمنها غاليًا من تاريخها وسمعتها وثروتها، لكن للأسف تتردد في سمواتنا العربية وصحفها السيارة على مر الساعة. لذا، مع تعلم ألمانيا الدرس أصبحت مثالًا يحتذى به في وسط القارة العجوز للإعلام المهني المحترف الذي يهدف إلى أن يكون عونًا للبناء والتقدم والمسؤولية الاجتماعية دون خطوط حمراء (إلا بأمر القضاء)، من المفيد لإعلامنا العربى أن يعي ما يلي: – ملكية الإعلام في ألمانيا، خاصة الإذاعة والتليفزيون، ملكية عامة ولكل قناة مجلس إدارة مكون من ممثلين للأحزاب السياسية المُنتخبة في البرلمان (البوندستاج) ورجال القانون الدستوري والصحفيين المخضرمين لإعانة الفريق التحريرى للقناة، إلى جانب تقديم المشورة فيما يهدف الصالح العام. – الغالب الأعم من الصحافة هي ملكية خاصة، لكنها أيضًا مُكتتبة وبصرف النظر عن صحيفة يومية واحدة تُعنَى بالإثارة والفضائح السياسية والاجتماعية (صحيفة بيلد لدار أكسل شبرنجر)، الغالب الأعم من الصحافة الألمانية اليومية هي صحافة محترفة تمثل مختلف التيارات السياسية والحزبية والفكرية ويقوم على رقابتها القارئ، وعندما يتوجب فإن القضاء يكون الفيصل دون أي تدخل حكومي. لا يوجد أي أثر لوزارة الإعلام في برلين بمفهومه السلطوي الذي يهدف لتلميع السياسات الحكومية وتوجيه الرأي العام بما يمتلكه من وسائل الإعلام، لكن هناك مفوضية للثقافة ووسائل الإعلام وتقوم على نشر سمات التسامح والصداقة مع العالم الخارجي، وأيضا داخل ألمانيا من خلال الأُمسيات الثقافية ونشر الأفلام الروائية والتسجيلية الألمانية أو الأوروبية عن طريق المهرجانات والمنتديات الحكومية وغير الحكومية، وبالتعاون البناء مع منظمات المجتمع الأهلي وشركات الإنتاج الإعلامي الخاصة؛ لذا فهذه المفوضية هي كالطرف المساعد وليس العامل الأساسي في الحقل الثقافي كما نشهده في عالمنا العربي. – يدفع مُلاك كل كيان عقاري في ألمانيا حوالي 18يورو شهريًا تُسمى رسوم الإذاعة العامة، وتساعد أن تبقى القنوات الحكومية مستقلة عن تدخلات رأس المال وأطماع الشركات الإعلانية، وتُبقِي تركيز الإعلاميين في الإذاعة والتليفزيون على تقديم أفضل خدمة إخبارية لكل الشعب الألماني. – في السنوات الأخيرة وخاصة مع اشتداد الأزمة المالية في منطقة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وفي ظل الاتهامات من بعض المنظمات الغير حكومية ونقابات العمال وخاصة في اليونان وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا وتحميلهم ألمانيا ومستشارتها أنجيلا ميركل مسؤولية سياسة التقشف المتتبعة من حكوماتهم بما في ذلك من تشيبهات نازية وعنصرية، لم ينزلق الإعلام الألماني والحكومي بشكل خاص بتوجيه اتهامات مماثلة لهذه الدول، وإنما عمد إلى تقديم الخبر وتحليله دون إثارة أو ادعاء الوطنية ضد من أحرقوا العلم الألماني. يذكرنا هذا بكثير من الصراعات الإعلامية في عالمنا العربي بين دول عريقة من أجل مباراة كرة قدم أو مسابقة غنائية! – يعيش في ألمانيا ما يقرب من ثلاثة مليون مسلم أي ما يقرب من 4% من تعداد سكانها البالغ تعداده 82مليون نسمة. وعند تناول المواضيع الإسلامية الشائكة مثل الأصولية والراديكالية المتطرفة التي بدأت ألمانيا تدرك أخطارها مع ذهاب بعض أبنائها للقتال في سوريا، يكون التناول احترافيًا وممثلًا لكل الآراء دون تعال أو كراهية أو تعصب. ويكون هذا التناول الاحترافي أيضًا في كل ماهو شائك أو مدعاة للجدل مثل الإجهاض أو زواج المثليين أو دور الكنيسة في السياسات العامة أو بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في الساحة السياسية. – كما هو الحال في عالمنا العربي ومن النموذج الأمريكي للبرامج الساخرة مثل برنامجي جون ستيوارت وباسم يوسف، تُقدم القنوات العامة الألمانية هذا النموذج الساخر، الفكاهي والفج في بعض الأحيان لكن بلا دعاوى قضائية وصخب مصاحب لكل حلقة وكأنها سوف تسقط الدولة؛ نظرًا لأن الجمهور والسياسيين أصبحوا يتقبلون الفكاهة دون اصطناع ألوهية أو بحث عن معارك تلهي الرأي العام. جدير بالذكر أن هذه البرامج لاتعترف بخطوط حمراء، لا بكرسي المستشارية ولا للجيش و ا حتى لأخطاء الكنيسة. في آخر الأم، يعرف السياسيون وكل المشتغلين بالعمل العام الفرق بين البرنامج الساخروالبرنامج الحواري الجاد والحُكم الأخير للمتلقي الذي ينتخبهم و يستطيع إقالة من يصطنع المشاكل و إلهاء الرأي العام عما هو مهم و جاد. إذا تعلم الإعلام الحكومي العربي من تجربة إعادة هيكلة الإعلام الألماني سوف يخدم المواطن قبل الحاكم والسلم الاحتماعي قبل النظام السياسي. عندها فقط يمكن أن يكون الإعلام العام هو الملجأ الأول والأخير للمواطن العربي ومصدر ثقته في كل ما يتعلق بالشأن العام. السؤال الأهم هو، كيف ومتى تبدأ أولى الخطوات نحو تحرير الإعلام العربي من قبضة الحاكم والمالك إلى ملكية الشعب؟ في الدستور المصري الجديد مادتان (212) و(213)، اللتان تلغي وزارة الإعلام وتشرع إنشاء هيئتين مستقلتين، الأولى للصحافة والأخرى للإعلام دون أي تدخل حكومي. هل يتم هذا التحول بعد الانتخابات الرئاسية القادمة أم مرة أخرى في ظل الأجواء المُحتقنة سيتم تأجيل تحرير الإعلام المصري؟ و ماذا عن باقي الدول العربية؟ لهذا و إلى أن يتم تحول ديمقراطي حقيقي تأخر كثيرًا عالمنا العربي، يبقى السؤال وإجابته معروفة: من يحتاج الإعلام الحكومي؟