كنا هنا قبل مئات السنين، قبل المدنيِّة -ولا أقول الحضارة- قبل ألاعيب السياسة، قبل تَغيّر القلوب، قبل ميلاد المطامع، قبل امتلاك البنادق والمدافع، قبل عقد الصداقة مع ماكمهون، قبل التقاء سايكس وبيكو في فناء الدار. كان هنا أجدادنا.. حدثني أبي، وأدركت جدي وسمعت منه عن دورة الزمن.. حدثني عن فرحهم وحزنهم.. جوعهم وشبعهم.. خصومتهم وتصالحهم.. صبرهم واحتمالهم، اجتماعهم ووحدة حالهم. فأيقنت أن السّعة والضيق كانا رباطا ولحمة تجمع الدار والعشيرة والقرية في ذات الخيمة. أدركت -أنا- بَذْرَ الأرضِ وحَرْثِها، أدركت مواسم الحصاد ورَجْدِ الحصيدِ ودَرْسِه.. حضرت تعبئةَ الحبوب، وكان نصيبي حفناتٍ من القمح في قميصِيَ المثقوبِ بكفَّي جدي أو أبي -أنا وبقية الأولاد- لنهرع إلى دكّان القرية.. نَبيعها، ونشتري بثمنها الحلوى. وأدركت أمي توقظني لأساعدها في حَلب الأغنام، وإلحاقها براعي القرية، قبل ذهابي إلى المدرسة. أدركتها أمام فُرن الطابون، تُناولني رغيفها الذهبي، وصحنا من الزيتون، وآخر من الزيت، وأختي تُراجع لي دروسي خوفا من وجبة الصّباح على يد الأستاذ في المدرسة. صرت أكثرَ وعيا، وعَرفتُ أنَّهم صَنعوا لنا كياناً أسهم أبي في خدمته.. كان في العشرينيات مِن عمره أواخر الأربعينيات، وكان أول أبناء جدي المنسحبين مِن الأرض، ثم تَبعه الآخرون بين مُجنّد ومُتعلم، وشاخ الجدُّ وعجز، وشاخت معه الأرض، وفعل الكثيرون مثلما فعل، فهَجرَتْنَا الأغنامُ إلى غير رجعة، وغابَ معها سمن الطبخ، وصوف اللباس والأثاث، وغنَّى الساذجون فرحا: «سجلنا بالعسكرية، وأكلنا بالسفر طاسِ». كان هذا أول عهد استغناء الناس عن بعضهم، فمات التكافل، وعاشت الكِفاية الكاذبة، وانقطعَ حبلُ الرجاء من السماء، واتصل حبل الاعتماد على البشر، فغفا ملاك «نحن»، وصحا شيطان «أنا وأنت.. جدي وجدك.. أبي وأبيك.. وعندي وعندك».. عققنا الأرضَ فمنعت خيرها، وعققنا السماءَ فعقّتنا السماءُ. قالوا لنا عن مؤامرة، وأنهم صامدون في مُواجهتها، وما علينا إلا الاصطفاف حولهم، والاعتماد عليهم لإفشالها، وأنهم ذاهبون لإنهائها.. ليتهم رجعوا لنا كما ذهبوا!!لكنهم رجعوا إلينا بأبناء العمومة الذين أضاعوا درورهم.. وقالوا لنا: هم ضيوف، بل أهل دار، حتى يعودوا لها بأسيافنا. لم يعودوا، بل لحق بهم آخرون، وراحت الدار، فأنشؤوا لهم مُنَظَّمةً عصبيّةً معظمة، عفويةً منظمة، غازلت النظام في غفلة منا، فأنجبا لنا أيلول، وما أدراك ما أيلول!! كلمّا جفَّفنا ذيله قرعوا الطبول، وقالوا: ما زال ذيله مبلول. وضعوا رؤوسنا في كيس، وملؤوا عقولنا بكل غثٍّ وخسيس.. علمونا أن نقف ونهتف بحماس، وأن ننتشي ونتلذذ برجع صدى الهتاف، برمجونا أن نسير حيث نقاد، ونقف حيث تضرب لنا الأوتاد، وحذرونا أن نفكر في أخراج رؤوسنا خارج الأكياس، وخوّفونا لفحة البرد أو فقدان الحواس، فنما على رأي محمد إقبال نومتنا الطويلة نومة مسلمي الهنادك والأفغان: لنا كفنٌ ونرقدُ في ثَرانا *** قيامُ البَعثِ يوما ما عنانا. قالوا لنا نحن نَسُودُ ونقود، وأنتم حولنا سواعد وزنود.. كلوا واشربوا، وكلما شعرتم بالجوع أشعرونا، فنحن نكرم عليكم نجود: كانت الأسدُ جهاداً، مَلَّتِ *** نَازِعاتٍ نحو عيشِ الدَّعَةِ جوهرُ الآسادِ أضْحَى خَزَفَا *** حين صارَ القوتُ هذا العَلَفَا. هكذا غدت آسادنا هياكل فارغة منصوبة على أبوابهم.. هدموا مضافات أجدادنا..هدموا عقودَ السقف، باعوا خُوَّيْخَاتِ الحَوْشِ، وملابنَ الأبواب، وبَنوا لنا -للشعب- مضافة، وَصَدَّرُوها بجحفلِ الأذناب، وجعلوا فيها القول باسمنا وفصل الخطاب، ونحن لا ندري سواءٌ مَن حضر مَن أو غاب. نامت الأسدُ بسحر الغنم *** سمّت العجز اتقاء الأمم. أخرجوا مِن الأكياس الرؤوس التي لاْنَتْ للوِساد، وتوافقوا على اقتسامنا، وأبرموا حبل الوداد.. تناسلوا فينا تناسلَ الجراد، وجمعوا علينا غثاءهم من كل حاضر وباد، والتهموا الغلة بِحَبِّها والقش.. جفّفوا ضرع بقرتنا الحلوب، وما ثمة ما يشبع النَّهم، فغرسوا خراطيمهم في جلودنا كقطعان القُراد، وابتدأت مرحلة امتصاص بقية الدّم. بلغ الوجع فينا مداه، وصار صبرنا إلى منتهاه، فأرسل الله لنا مع الريح من تونس نوره وهداه، فأبطل الموسَوِيُّونَ السحر في مصر، فانفكت عنّا عُرَاه، ووهن الكيس، فخرجت منه رؤوسٌ من أجيالِ صُّحاة. ها هو الوعيُ يعود إلينا.. ها نحن نتنفس الهواء النَّقي، نبصرُ بعيوننا، ونفكر بعقولنا.. ونرفضُ مبدأ التفكير عنا بالإنابة.. كرهنا ذِلَّتَنا في الوهم مُذابة، فقررنا تبديل واقعنا وأزمعنا غِلابه. فلا تتعبوا فقد فات الآوان لن تفلحوا في إنامة أجيالنا القادمة، وقد أخذَتْ من فمِ الصقر نُصْحَهُ لصغيره: فَنَفْسَكَ فاحفظْ وَعِشْ في جَذَلْ *** جَريئا مَتينا قويَّ العَضلْ ودعْ للدراريجِ لِينَ الجَسَدْ *** وكُن مِخلبا كالْمُدَى أو أَحَدْ وكل ربيع والأحرار بخير.