منطقةٌ تمزقها الصراعات الدينية بين المتشددين والمعتدلين، أشعل فتيلها حكام الدول المجاورة الذين يسعون للدفاع عن مصالحهم وزيادة نفوذهم. وتجري هذه الصراعات داخل الدول، وبين بعضها البعض، حتى صار من الصعب التفريق بين الحرب الأهلية والحرب بالوكالة. فيما تفقد الحكومات أحيانًا السيطرة على جماعات مسلحة صغيرة تعمل داخل حدود الدول ويمتد تأثيرها إلى ما وراءها؛ والنتيجة الطبيعية هي: فقدان حياة الآلاف وتشريد الملايين. هكذا وصف ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولاياتالمتحدة، المشهد الراهن في منطقة الشرق الأوسط عبر مقال له نشرته صحيفة "بيتسبرج بوست جازيت" عنونه ب "حرب الثلاثين عامًا الجديدة"، قائلًا: إن هذا هو أنسب وصف حاليًا للمنطقة؛ التي تحاكي أوروبا في النصف الأول من القرن ال17. بدأ التغيير في الشرق الأوسط عام 2011، بعد أن أضرم محمد البوعزيزي التونسي النار في نفسه احتجاجًا على الفساد والظلم وضياع الحقوق الأساسية، تمامًا بتمام كما انتفض البروتستانت البوهيميين في أوروبا خلال القرن ال17 ضد فرديناند الثاني إمبراطور هابسبورج الكاثوليكية، ما ألهب المنطقة خلال تلك الفترة. ولم يقف البروتستانت والكاثوليك مكتوفي الأيدي فانتفضوا دعمًا لإخوانهم في الدين، وانجذبت قوى كبرى في تلك الحقبة كإسبانيا وفرنسا والسويد والنمسا إلى الصراع، وكانت النتيجة اندلاع حرب الثلاثين عامًا؛ التي وُصفت بأنها الأكثر عنفًا وتدميرًا في التاريخ الأوروبي حتى اندلاع الحربين العالميتين في القرن العشرين. صحيح أن هناك اختلافات واضحة بين الأحداث التي استمرت من 1618 إلى 1648 في أوروبا، وبين الأحداث من 2011 إلى 2014 في الشرق الأوسط، لكن التشابهات كثيرة وواقعية؛ فبعد ثلاث سنوات ونصف من بزوغ فجر "الربيع العربي" تشهد المنطقة حاليًا المرحلة الأولى من الصراع الطويل والمكلف والمميت، مع احتمالية ازدياد الأوضاع سوءًا. والمنطقة مُهيأة للاضطرابات؛ فالشعوب عاجزة سياسيًا، فقيرة ماديًا، ولا تملك رؤية مستقبلية، والإسلام لم يمر بتجربة مشابهة للإصلاح البروتستانتي في أوروبا، وأضحت الخطوط الفاصلة بين المقدس والدنيوي غامضة ومسار اختلاف. علاوة على ذلك؛ تتنافس الهويات الدينية في الشرق الأوسط مع الطائفية والقبلية، بينما المجتمع المدني في أضعف حالاته. وشجع وجود النفط والغاز في بعض البلدان ظهور اقتصاد متنوع وطبقة وسطى، وأصبح التعليم يعتمد على التلقين ويخلو من أي إبداع. كما يفتقر المستبدون للشرعية في كثير من الحالات. وسكبت الأطراف الفاعلة الخارجية الزيت على النار في المنطقة؛ فقد فاقمت الحرب الأمريكية في العراق عام 2003م التوترات بين السنة والشيعة؛ وكانت النتيجة انقسام المجتمعات في المنطقة. وبعد تغيير النظام في ليبيا سارت الدولة في طريق من الفشل لا يُعرف له نهاية، كما تسبب الدعم الفاتر لعملية تغيير النظام في سوريا في اندلاع حرب أهلية طال أمدها. المأساة التي تعيشها المنطقة مزعجة للغاية؛ فالدول الضعيفة غير قادرة على مراقبة أراضيها، والمليشيات والجماعات الإرهابية تكتسب المزيد من النفوذ وتزيل الحدود. وتخلط الثقافة السياسية المحلية بين الديمقراطية والأغلبية، في الوقت الذي تُستخدم فيه الانتخابات كوسيلة لتعزيز السيطرة على السلطة وليس تقاسمها. وبعيدًا عن المعاناة الإنسانية الهائلة والخسائر في الأرواح على مستوى المنطقة، فإن الأكثر خطورة الآن هي حالة الاضطراب في المنطقة التي تفتح المجال أمام إرهاب مُتجدد وأكثر شدة، سواء في المنطقة نفسها أو ما يرتبط بها، كما أن هناك أيضًا احتمالية لتعطل إنتاج الطاقة والشحن. * خطوات مهمة هناك حدود لما يمكن أن يفعله الغرباء. ويحتاج صناع القرار أحيانًا إلى التركيز على منع تفاقم الأمور بدلًا من التركيز على أجندات طموحة لتحسين الأوضاع. والمطلوب الآن منع إيران من أن تصبح قوة نووية عن طريق العقوبات أو الدبلوماسية أو العمل العسكري إذا لزم الأمر؛ لأن البديل هو منطقة شرق أوسط تصل فيها الحكومات المختلفة والمليشيات المتعددة إلى الأسلحة النووية، وعندها ستحدث أمور خارج التوقعات. كما أنه من الأهمية اتخاذ خطوات من شأنها أن تقلل الاعتماد العالمي على إمدادات الطاقة من المنطقة. وينبغي أيضًا تقديم المساعدات الاقتصادية الفورية إلى الأردن ولبنان لمساعدتهما في مواجهة تدفق اللاجئين، وتعزيز الديمقراطية في تركيا ومصر، لأن ذلك سيؤدي إلى تقوية المجتمع المدني وصياغة دساتير قوية تنظم السلطة. ولا ينبغي أن تتوقف جهود مكافحة الإرهاب؛ وعلى رأسها تنظيم "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" سواء بالغارات الجوية أو تدريب الشركاء المحليين وتسليحهم. لقد حان وقت الاعتراف بحتمية تقسيم العراق ودعم استقلال كردستان. كفانا أوهامًا؛ فتغيير النظام ليس هو الدواء الناجع، والمفاوضات لا يمكنها أن تحل كل الصراعات ولا حتى معظمها. كما لا يمكن للدبلوماسية أن تعمل في سوريا إلا إذا اعترفت بالحقيقة على الأرض بدلًا من السعي لنقلها. وأخيرًا؛ ينبغي على صناع القرار الاعتراف بحدودهم وإمكانياتهم؛ لأنه في الوقت الراهن وفي المستقبل المنظور ستكون منطقة الشرق الأوسط بمثابة حالة يجب إدارتها أكثر من كونها مشكلة يجب حلها. ريتشارد هاس ترجمة: شؤون خليجية