يبعث على الأسف أن كثيراً منّا لم يتنبهوا إلى خطورة الخطاب السائد استعماله في مواجهة الإرهاب والتطرف، والقائم على "السلبية"، ورد الفعل على خطاب تنظيمات التطرف؛ بدل المبادرة إلى الفعل وتقديم حلول جذرية ذات طابع حضاري. إذ ظل خطابنا -كما قلنا مراراً- يركّز على نفي إسلامية تنظيمات التطرف، متناسياً موضوع الأزمة الحضارية الذي تطرحه هذه التنظيمات من خلال اقتراحها إقامة "دولة" تغازل ما هو مخزون في ذاكرة العرب والمسلمين عن التاريخ. وذلك بدل أن ينحو خطابنا مباشرة إلى الإيجابية، ويتحدث عن التنمية والتقدم الحضاري، فيمكنه ساعتها أن يتناول تلك التنظيمات من باب تخريبها فرص التقدم والتطور والتنمية. الجيد اليوم أن صانع القرار استوعب هذه المشكلة؛ إذ بادر الملك في خطابه الأخير إلى الحديث عن الإيجابية، وهو ما يتضح في عنوان الخطاب "ارفع رأسك أنت أردني". العبارة بالتأكيد ليست معزولة عن سياق "حربنا" ضد الإرهاب، وليست مجردة بذاتها؛ هي بالتأكيد عنوان للعمل من أجل التنمية والتحديث، وتمتين الدولة التي تجمع شعبها ويعتز بها، على قاعدة العدالة والتكافؤ والتنوع المُغني. وهذا بالضبط هو خير رد على الإرهاب والتطرف، ويفيد أكثر كثيراً من التركيز على فكرة نفي إسلامية تلك التنظيمات والتحلل منها وحسب. يشغلني الآن ما إذا كان خطاب الملك سيجري استيعابه على هذا النحو العميق فعلاً، أم أن التعامل معه سيظل متمحوراً حول الترديد والفخر كما جرى في الأيام الأولى التي تلت الخطاب؟! من المؤكد أن ثمة جهوداً يجب أن تبذلها جهات متخصصة، واعية، من أجل شرح نقطة التحوّل الاستراتيجية هذه في الخطاب ضد الإرهاب والتطرف، ليتحوّل الخطاب العام في بلدنا من "الاكتفاء بنفي إسلامية التنظيمات الإرهابية"، إلى الحديث عن "الدولة والمجتمع الساعيين إلى مزيد من التقدم والمدنية والتنمية". أكثر من ذلك؛ لا بد أن يجد تحوّل الخطاب العام صدى على أرض الواقع، على شكل برامج ذات صلة بالسياسة وبالمجتمع. هذا يعني أن ثمة ضرورة للانتقال من "الخطاب" إلى "الممارسة". وعلى صعيد المجتمع، فإن ثمة حاجة للعمل على حلول سلوكية لممارسات "غير حضارية" تعترينا، تبدأ من احترام القانون، ولا تنتهي باحترام التنوع والاختلاف. فكرة "المواطنة" هي بساط أساسي لمثل هذه الحلول الحضارية، بوجهيها: الحقوق والواجبات. بل: الواجبات والحقوق؛ فثمة استسهال للمطالبة بالحقوق، قبل التفكير بالواجبات الوطنية. وما يمكن قوله هنا في مثل هذه الظروف، أن أول الواجبات الوطنية، على الصعيدين الرسمي والشعبي، هو الجديّة في العمل من أجل مزيد من البناء الحضاري والتنموي، وتجاوز الخطابيّة التي طالما فتحت الباب للمتكسبين لاستغلال الأفكار الكبيرة والنبيلة، من أجل ممارسة "الفهلوة" علينا، بغرض الحصول على "تمويل" و"دعم" لا يفضيان إلى شيء مفيد في آخر المطاف! الحرب حربنا إذن؛ فالخطاب الجديد يجب أن يكون خطابنا كلنا، ومنهجية العمل الجديدة يجب أن تكون منهجيتنا كلنا، ومساعي العمل على أرض الواقع يجب أن تكون قضيتنا كلنا، وتغيير السلوكيات يجب أن يطالنا كلنا. نحن نمتلئ حماساً لمواجهة الإرهاب والتطرف، بخاصة بعد قضية الشهيد معاذ الكساسبة يرحمه الله. ومن الجيد أن يتحوّل حماسنا هذا من كلام مرسل، مفاده أنهم "ليسوا منّا" وكفى، يريحنا ويشعرنا بأداء الواجب، إلى عمل حقيقي تتكاتف فيه الجهود من أجل مزيد من التنمية والبناء والتحديث المادي وغير المادي الحقيقي والملموس، الذي يدفع إلى مزيد من الحماس، ونتجاوز به الخطابية، كي نركز على العمل الجاد، وعلى العاملين بجديّة.