المشهد الأول: على مسافة أكثر من كيلو متر تقريباً، اصطفت السيارات بمختلف أنواعها، استولت تماماً على أحد الشوارع الرسمية مادفع المشاة إلى الاكتفاء بالخط الآخر، في الأماكن المنتظمة من الطابور، ستجد أربعة صفوف من السيارات، وهو ما يعني بأنه لو اصطفت السيارات بشكل طابور واحد، فإن المسافة ستكون على أقل تقدير أربعة أضعاف المسافة الحالية، على طول الطابور الممتد ستجد مشاهد متنوعة، مجموعة من الأكلة يتداعون إلى قصعتهم، آخرين مجتمعين في إحدى السيارات يتعاطون القات، مستمعين لأغنية معينة، أو يتبادلون الحديث، آخرين منفردين إما في سياراتهم أو خارجها، في منطقة أخرى من الطابور، ستجد جماعة يجلسون على قارعة الرصيف مخزنين في الهواء الطلق، آخرين في خيام سفري أو جعلوا من سياراتهم المكشوفة كذلك، على بعد مسافة أخرى ستجد خلافاً حاداً، وآخر لا يزال في بداياته، بسبب الأولوية في الطابور، المشهد في مجمله شبيه إلى حدٍ ما بخيام ساحة التغيير في ثورة فبراير، عدى الروح الحماسية والحب الذي كان يغمر الجميع بدون استثناء في ساحة الجامعة. قبل الوصول إلى بداية الطابور في المحطة ستجد طابوراً آخر للدراجات النارية، لا يقل ازدحاماً عن طابور السيارات، وإلى الجوار محاولات اقتحام حثيثة يقودها أطراف مخالفون، يريدون أن يتجاوزوا كل ذلك الطابور، بعضهم في صراع كلامي مع أصحاب الطابور، أما البعض الآخر، فقد ترك سيارته وغادر. قلت بما أن الطابور بهذا الطول، والخلافات تبدو شديدة كلما اقتربت المحطة، لاشك بأن عمال المحطة مُنهمكين يعملون على تعبئة السيارات وأن كل الطرمبات تعمل بدرجاتها القصوى، غير أن المفاجئة كانت بالنسبة إلي صادمة، بعد أن قطعت كل تلك المسافة، لأجد المحطة قد أحاطت نفسها بقواطع إسمنتية كبيرة تم الربط بينها بأسياخ من حديد البناء ملحمة مع بعضها بإحكام، بما فيها ذلك الإتجاه الذي تصطف عليه السيارات بذلك الشكل من الطابور، فسألت أحدهم لماذا كل هذا الطابور والمحطة مغلقة ؟! أجاب مبتسماً (نطوبر لما يجي البترول) قلت منذ متى وأنتم على هذا الحال؟! قال (منذ أربعة أيام، إنشاء الله بكرة بعده يوصل البترول، خلاص قرب الفرج) سألته كم بإمكانك أن تعبي؟! أجاب (دبتين) قلت فقط قال (إحمد الله ولا مابش) كان متفائلاً ومُتحمساً، ابتسامته وتفاؤله عادت بذاكرتي إلى بداية الطابور الطويل من حيث جئت، متذكراً بأني لم أجد خلال مروري على كل تلك المسافة واحداً يبدو عليه السخط أو التذمر، أو معترضاً على هذا الحال!!!. قطع تأملي حين بادرني بسؤآله (أين مكان سيارتك في الطابور؟!) قلت لا أنا سبقتكم قال (كيف سبقتنا؟! ) قلت أنا خيمت في2011م في الجامعة، اليوم دوركم خيموا هنا بجوار محطات البترول والغاز، ثم قلت: من فاته الإعتصام في 2011م يعوضه اليوم، اكتفى بالإبتسامة -في حقيقة الأمر شيء من هذه العبارة مقتبساً من إحدى تغريدات تويتر- لكنها مثلت حقيقة مرة وواقع أليم، إنها تحكي واقع الحال الذي قاده هذا الحاكم المستبد، مع فوارق جوهرية بين مخيمات 2011م ومخيمات اليوم، يمكن الإشارة إليها لاحقاً عند التعليق. في منظر آخر، راقبته عند ذهابي وعودتي من العمل، في محطات تعبئة الغاز المنزلي، ما كان يميز هذا الطابور، هو وجود الأطفال وكبار السن من النساء، في مشهد بالنسبة إلي كان مؤثراً ومؤلماً. هذه المناظر ستجدها في كل زاوية من شوارع العاصمة، زرعت فيه محطة بترول أو غاز، حيث يستمر الحال كما هو عليه لأيام، هذه المشاهد، بدأت مع بدأ الهدنة، الأربعاء13-5-2015م ولازالت كذلك حتى اليوم، طوال تلك الفترة، كل تلك المحطات التي أمر عليها وهي تناهز سبع محطات، كلها لم تشتغل سوى مرة واحدة، لا أدري لمدت كم من الوقت عملت، ثم أغلقت و لازالت الطوابير بجوارها على ذلك الحال في إصرار عجيب وعزيمة متفانية. المشهد الثاني: هو مشهد متكرر أجده كل يوم وكل وقت ما دمت متواجداً في المنزل الذي بجوار بئر الماء (البمبة) وهو عبارة عن طوابير مشابهة، بجوار حنفيات سبيل ذلك البئر، طوابير طويلة من النساء والأطفال، يحملون مختلف أنواع الجوالين (صالح علم هذا الشعب، أن يحتفظ بكل أنواع المُخلفات، لا يوجد في اليمن مخلفات غير مرغوب فيها) تلك الحشود إما ينتظرون صاحب البئر، يفتح حنفيات السبيل، أو وايت الماء الذي يقدمه فاعلي الخير، أحياناً تستمر تلك الطوابير طويلاً، وتعود ظامئة الفؤاد، فارغة الأواني، غير أنها لاتبات في تلك الطوابير -كما يجري مع طوابير البترول والغاز- صاحب البئر يقول لا يوجد ديزل لرفع الماء من البئر، وفي مفاجئة سارة وسط الأسبوع الماضي، قال بأنه حصل على 10براميل، الجميع استبشر خيراً، حتى أن بعض النساء أطلقن الزغاريد، حين شاهدن قاطرة كبيرة ديزل تدخل مزرعة البئر، العجيب أنه لم يفتح المشروع للأهلي سوى يومين –هو قال ذلك أما أنا فإني متأكد بأنه في تلك اليومين، لم يكن نصيب خزان المنزل عندي، سوى جالون أو جالونين، لم يتمكن الدينمو من رفعه عند وصول الكهرباء، لأن الشفاط لم يُغمره الماء- بينما مشروع الوايتات استمر أسبوع، أما حنفيات السبيل فقد استمرت خمسة أيام تقريباً، وهكذا تبخرت تلك القاطرة، لأنه يقول بأن الديزل انتهى!!! يوجد إشاعات كثيرة عن الموضوع، بين من يقول بأن الحوثيون منعوه كما منعوا غيره من ضخ المياه للناس، وآخرون يقولون بأنه يبيع الديزل في السوق السوداء، لأن مكاسبه تفوق المشروع الأهلي وتعبئة الوايتات. مشهد ثالث: وهو مُتعلق بكافة المواطنين، بعد مضي أسبوع كامل على انقطاع متواصل للكهرباء في الحي الذي أسكن فيه، وفي الساعة الثامنة مساء، جاء تيار الكهرباء، لمدة 22دقيقة فقط ثم انقطع، الجميع كان في تذمر كبير، لأن الكهرباء انقطعت قبل أن تكمل الساعة!!!. ساعة كاملة في الأسبوع أصبح شيء رائع لدى الكثير من الناس!!! بعد مضي ساعتين عاد التيار مرة أخرى، ليستمر43دقيقة، استكمالاً للساعة، هكذا بالدقيقة، في صباح اليوم التالي، كان الناس يتحدثون وكأن ضيفاً عزيزاً زارهم البارحة، كان شعورهم بوجوده لمدة ساعة لا يوصف، أما شعور العودة لاستكمال الساعة، فكان شعوراً مُختلفاً، كان الناس شاكرين ذلك الصنيع بطريقة عجيبة. في الأسابيع الأولى لما قبل الهدنة، تمكن مختصين -على ما يبدو في بعض الأحياء- من التوصل إلى قانون خاص بزيارة الكهرباء، حيث أعلن البعض، بأنها تصل كل أربعة أيام ولمدة ساعة كاملة، آخرين في مناطق أخرى، يؤكدون بأن الفترة هي كل ثلاثة أيام، الأماكن التي لا يوجد فيها مختصين، لم يتمكنوا من التعرف على مثل تلك القوانين، غير أن ما حدث في نهاية الأمر، أن اكتشف الجميع بأن تلك القوانين متغيرة وليست ثابتة، وهو ما أجميع عليه الكثير. يوجد تأكيدات بأن الكهرباء في مناطق أخرى، تزورهم كل ثاني يوم وتستمر لأكثر من ساعتين، لكنها أماكن ذات مدلول سياسي أو مالي، مثل الجراف، وصنعاء القديمة، والقاع، ومنطقة حدة، والحي السياسي، وحي الأندلس، وغيرها من الأماكن ذات المدلول الخاص. التعليق: *-الفرق بين مخيمات2011م ومخيمات اليوم، أن مخيمات الماضي، كان سببها انتزاع الحقوق من الظالم، والدفاع عن الحرية، كانت تلك المخيمات لخلع الظالم، بينما مخيمات اليوم، هي لاستجداء دبة الغاز والبترول، تلك السلع هي خدمات يدفع ثمنها المواطن، إضافة إلى ما يصرفه طوال فترة بقاءه في الطابور، وما يحل به طوال الفترة. *-أعتقد بأن ذلك الإصرار على البقاء في طوابير البترول لكل تلك الفترة، ليس بهدف الحصول على40لتر، لأنه يدرك بأن تلك الكمية ستنتهي بعد فترة وجيزة، أعتقد بأن السبب الأهم، هو الحصول على ذلك الشعور بالنصر، والنشوة التي تغمر الشخص، كل ما قرب من المحطة، ويصل الأمر مداه فور الانتهاء من التعبئة، ربما البعض يريد من ذلك أيضاً، أن يُفاخر بحصوله على دبتين بترول، كبُشرى يزفها لكل من زاره أو اتصل عليه، باعتباره نصراً لم يتمكن الكثير من الحصول عليه، لذلك تجده يروي الكثير من الصعاب التي واجهته وكيف تمكن من التغلب عليها، لاشك بأن ذلك الشعور ينسيه كل تلك المعاناة التي قد تصل إلى أسابيع، انفق خلالها مصاريف كثيرة، متناسياً أن هذا حق يجب على الدولة توفيره، وأن إخفاء هذه المادة عليه أو احتكارها هي جريمة يُعاقب عليها القانون، والدين. *- البعض وخاصة من الشباب، يعتبر هذه المهمة ضمن مغامراته، ويعدها من أفضل أوقات التسلية التي قضاها مع الزملاء والمعروفين، لذلك هو غير معني بأصل المشكلة وطبيعتها ومن وراءها. *-في حكومة بانسدوة، برغم كل العراقيل التي لاقتها الحكومة، وتفجيرات أنابيب النفط، استمر البترول والغاز والديزل، دون أي انقطاع، بمافي ذلك أيام الأعياد، ورمضان، وهي سابقة لم تحدث حتى في فترة حكم صالح لسنوات، و تُضرب خطوط الكهرباء ويتم إصلاحها خلال24ساعة فقط، وعندما تنقطع الكهرباء لساعتين في اليوم، تجد باسندوة رئيس الوزراء، ووزير الكهرباء صالح سميع، وصخر الوجيه وزير المالية، وأعضاء الحكومة، على كل لسان، وكانوا يقولون بأن كل هذه المتاعب سببها حكومة الإصلاح، الذي يشارك ب4وزراء كلهم لاعلاقة لهم بهذه الخدمات، هذا الأمر لم أجده اليوم ضد الحوثي الذي يتحكم بكل موارد البلاد، ورغم هذا الحصار الذي يفرضه على الشعب منذ مايقرب من شهرين!!!. أتسائل أيهما أفضل أن تستمر الكهرباء22ساعة مضاءة في اليوم، أم ساعة واحدة في الأسبوع؟! حاولت أن أحسب أيهما أكثر، ساعة في الأسبوع أم (154)ساعة، الحقيقة أن نتائج كل عمليات الحسابات التي أجريتها تقول لي بأن ساعة في الأسبوع، لا تساوي شيء أمام انقطاعها بقية اليوم، ناهيك عن الأسبوع كاملاً !!! *-في تلك الحكومة لم يكن لدى كافة المواطنين أدنى درجة من الصبر والتحمل، فعلى أدنى أمر، تجد ُسخطاً ذريعاً يعم الكثير من الناس، يختمون تذمرهم بأن تلك المشكلة هي نتيجة قول (إرحل) وهو مالم يحدث اليوم برغم كل هذه المآسي، لم يقل أحد بأن سببها الانقلابيين الذين دخلوا صنعاء لإسقاط الجرعة، بل نجدهم يعتبرون الحصول على دبتين بترول نصراً كبيراً، بعد أسابيع من الانتظار جوار المحطة، وساعة واحدة من الكهرباء طوال الأسبوع تعد مكرمة، بينما كان الأمر مختلف تماماً في ظل الحكومة السابقة. *-في هذه الفترة كلما اشتد الحال وضاقت الأمور، سارع الناس إلى اختراع بدائل لمواجهة تلك المشاكل (تنور باستخدام نشارة الخشب، خوازن كهربائية مختلفة، بطاريات إضاءة وشحن، طاقة شمسية، وسائل تبريد الماء، غيرها) لم يفكر أحد بسبب كل هذه المشاكل، ولماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، لم يقل أحد بأن الحل الأمثل هو طرد هذه العصابة التي أوصلت الأمور إلى هذا الحال!!!. *-هل يمكن أن نخلص من هذا كله إلى القول: أن هذا الشعب لو كان حراً وذو كرامة، لكان يتوجب عليه حين شاهد رئيس الوزراء يبكي قهراً لما يقوم به أعداء هذا الشعب من جرائم لزيادة معاناته، أن يحتشد عن بكرة أبيه، متوجهاً إلى رئيس الوزراء، يُسائله عن السبب الذي أبكاه ومن يقف وراء ذلك، ثم يقوموا جميعاً إلى أولائك الحاقدين، ليضربوا على أعناقهم وأياد يهم، حاملين رئيس الوزراء على رؤوسهم، لكن الشعب بكل أسف سخر من بكاءه، اليوم جاء من يُبكيهم دماً، وهم غير قادرين على قول كلمة (آآآآآآآه) لأن رصاصة من أدنى غجري ستستقر في أكبادهم إن قالوها. العجيب أن تجد الكثير لا يزال غير مدرك لكل هذه الحقائق، وغير قادر على تذكر ذلك الماضي، أو الإعتبار بما يجري!!! ترى هل سيكون بمقدور أحد أن يكتشف كلمة سر هذا الشعب العجيب في سلوكه وطريقة تعاطيه مع الأحداث السياسية من حوله ؟! أما رأيي (فالجبن والسذاجة) هو الداء الذي يُسير حياة الكثير من الناس في هذا الشعب، لذلك أقول بأنه وبعد الخروج من الأوضاع الحالية، وتشكيل حكومة وطنية حقيقية، فإنه يجب عليها الاستفادة من هذه السلبية في الشعب، لجعلها تصب في صالحه، من خلال إجباره على الصمت والإنصياع لقوانينها التي يجب أن تكون حازمة، لتتمكن من الحصول على الوقت الكافي، للعمل وتحسين الأوضاع، دون شوشرة أو فوضى؟! حتى لا تتمكن الأطراف الأخرى من استغلال تلك السلبية، لإعاقة عمل الحكومة، كما حصل مع الرئيس المصري، محمد مرسي، الذي حاول أن يمنح الحرية لشعبٍ لا يزال غير مدرك لحقيقة مصالحه، متعجلاً قطافها حين وجد تساهلاً من النظام، فضاع الرئيس، وضاع الشعب، وتمكن الإنقلاب من بسط نفوذه على الجميع. [email protected]