في الجزء الأول، تناولنا مفهوم العبادة وفضائل الأعمال، تعرفنا فيه على بعض الأعمال ذات الأجر العظيم، وتسائلنا عن جدوى العبادات بكل أنواعها، إذا لم تمنع صاحبها عن المساس بحرمات الآخرين، النفس، العرض، المال، الحرية، الكرامة، وغيرها. اليوم نريد أن نعرف أبرز شروط تلك الأعمال الصالحة التي يتقبلها الله، ونريد أن نعرف لماذا نجد الكثير من المسلمين، هم الأكثر اقترافاً لغير العمل الصالح، حتى صار من الأقوال المشهورة: في الغرب إسلام بدون مسلمين، وفي بلدان المسلمين مسلمون بدون إسلام؟! ولعل الإجابة على ذلك تكمن بأنه عندما تغيب المفاهيم الحقيقية لمعنى التدين، وكيفية ممارسة التدين الذي يريده الله، التدين الذي فرضه على عباده، واشترطه لنيل الثواب والأجر، عندها يأتي بدلاً عنه منتجات كثيرة، وأنواع مختلفة من التدين، منتجات ذات صناعة شخصية وعامة من أنواع التدين، لا تكاد تجد لها حصراً، لعل منها على سبيل المثال: أن تجد الذي اعتاد الكذب والسرقة، لا يفعل ذلك في نهار رمضان لأنه صائماً، حتى إذا ما أفطر، أصبحت أموال وممتلكات الآخرين عنده حلالاً، وآخر تجده يصوم، لكن لا يصلي، آخر طريقة تدينه لا تلزمه بالعبادة إلا في رمضان، المُرتشي نموذج تدينه يمنعه من أخذ الرشوة في نهار رمضان، وهي حلالاً عليه ليلاً، تجد المسؤول، الموظف -في القطاعين الخاص والعام- نموذج تدينهم يبيح لكل من له قدره على أخذ الأموال العامة أن يفعل ذلك، بحجة أنها أموال الدولة، فيأخذها لنفسه، ويوزعها على من يرغب -فالذي صرف والذي يأخذ- كلاهما طريقة التدين أباحت للأول الصرف، وللثاني الأخذ، كلاهما لا مشروعية له إلا نموذج تدينه. آخر: يسرق الأموال، يوزعها، يتصرف بها كما يحلوا له، لأن نموذج تدينه يقول له إن ذلك ضمن صلاحياته، فيحل لنفسه أن يتصرف فيها كما يريد، باعتبار أنه هو القانون وهو النظام، لذلك فإن المبالغ المصروفة –لأصدقاءه، لرفقاءه، لمن هو راضي عنهم- يعتبره عملاً حلالاً، وفعلاً مشروعاً، مهما كانت كثيرة، بينما حقوق الآخرين ومن لا يرضى عنهم، عملاً مُحرماً، وخيانة للأمانة، تجد أحدهم -برغم حالته المستورة- لكن طريقة تدينه تفرض عليه، أن يكون اسمه مُدرجاً في كل عملية صرف، وفوق ذلك تجده يستقل أي مبلغ يوضع مقابل اسمه، مُستكثراً أي مبلغ يُقابل غيره من الموظفين، مهما كان وضعهم سيئاً، نماذج أخرى من التدين، تقول لأصحابها، أنه مادام بمقدورهم أن يفعلوا ما يريدون، دون أن يقدر على محاسبتهم أحد، فذلك يعتبر فعلاً مُباحاً، ومادام لا يراهم أحد، ولا يطلع على فعلهم أصحاب الشأن، فكل ما يقومون به، هو عملاً مشروعاً. الإمام أحد بن حنبل، كان له موقفاً مع صِنفٍ من هذا النوع في التدين، شاهد مرة رجلاً يسرق تفاحة من أحد الباعة، وحين تتبعه، وجده بحث عن فقير وأعطاه التفاحة، ثم انصرف مسرور البال، فجذبه الإمام وسأله مالذي صنعت؟! قال سرقت التفاحة، فكُتبت علي سيئة، ثم تصدقتُ بها فكًتبت لي عشر حسنات، ولأن الحسنات يُذهبن السيئات، كما جاء في القرآن الكريم، فقد مُحيت عني السيئة، وبقي لي تسع حسنات!!!! القتلة، اللصوص، من يخون الأمانة التي أوكلت إليهم، الذين يقترفون المحرمات، من يمارسون هذه الأنواع من التدين، لهم فتاويهم، وحساباتهم الدينية الخاصة، التي يُسيّرون بها ذلك النوع من التدين، وهي فتاوى قد يستنبطونها من الكتاب والسنة، تماماً كفتوى صاحب التفاحة، لكنها استنباطات مُنحرفة، كأفعالهم وممارساتهم، كان تصحيح الإمام أحمد بن حنبل، لتدين صاحب التفاحة، أن قال له (بل سرقتها فكُتبت عليك سيئة، وتصدقت بها فلم يقبلها الله، لأن الله طيباً لا يقبل إلا طيبا). الدين الذي ارتضاه الله للعباد، هو دينٌ واحد منذ آدم وحتى محمد عليه الصلاة والسلام، هدفه واحد، وهو ناتج عن رب واحد، وإن اختلف الزمان والمكان، لذلك يقول تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } البقرة62، وكأن الآية تقول للبشرية جمعاء، بأن لدخول الجنة شرطين: الأول، عمل قلبي يتعلق بالغيب وهو(الإيمان بالله واليوم الآخر) الثاني: يتعلق بالعمل وهو أن(يعمل صالحاً) الإيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر، الذي قد يعني القوة المطلقة، القوة المسيطرة، القوة المُطّلعة، التي ستُحاسب حتماً في اليوم الآخر، لاشك ستدفع بصاحبها إلى العمل الصالح، والإبتعاد عن العمل الفاسد، وبمفهوم المخالفة، نستنتج أمراً آخر، وهو أن الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لن يعمل صالحاً، وبمعنى آخر: الذي لا يعمل صالحاً، هو الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يقيناً، وإن نسب الإيمان بالله واليوم الآخر إلى نفسه، فإن النتائج العملية تقول غير ذلك. لهذا نجد بأن الكثرة المُطلقة من آيات القرآن الكريم، التي ذكر فيها الإيمان بالله تعالى، جاءت مقرونة بالعمل الصالح، الإيمان والعمل الصالح، كلاهما دليلٌ على الآخر، الأعمال التي لا تمنع صاحبها من الإعتداء على حقوق الآخرين، أعراضهم، حياتهم، حرياتهم، الأعمال التي لا يكون من نتائجها إعطاء الآخرين حقوقهم، لا يعتبر في حقيقة الأمر عملاً صالحاً، بالتالي لا قيمة لها، لا وزن لها، وقد رأينا في الجزء الأول، العجوز التي كانت تصوم النهار وتقوم الليل، لكنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال عليه الصلاة والسلام هي في النار. أمر آخر: وهو أن ألاتكال على القرابة والنسب -دون العمل الصالح- هي مجازفة مُهلكة، ورهان خاسر. إذاً: من حيث المبدأ، العمل الصالح فعل إيجابي يعم بظله الكون بكامله، فتنعم به كافة المخلوقات على الأرض، فيسير الكون في السياق الذي أراد الله أن يسير فيه، فتبقى السنن الكونية والطبيعة بكل تنوعاتها، تسير في سياق من الاتزان والسلامة -بغض النظر عن مصدر العمل الصالح- كما في الآية السابقة، أكان الفاعل مُسلماً أو يهودياً أو نصرانياً، أو صابئاً، قال الطبري:(والصابئون، جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: صابئا … يقال صبأت النجوم : إذا طلعت ..) انظر تفسير الطبري 2/145 ، لسان العرب صبأ) -يوجد كلام حول هذه الآية ومثيلاتها، يمكن أن يكون لنا موضوع آخر لتفصيل ذلك- وبالعودة إلى موضوع العمل الصالح، نجد في المقابل، بأن العمل السيئ (المعاصي، المنكرات) عملٌ يُعكر صفو الحياة، ويتعارض مع النواميس والسنن الكونية، الأمر الذي يخلق الفوضى والدمار على هذه الأرض، بغض النظر عن مصدر ذلك الفعل، أكان الفاعل مُسلماً أو يهودياً أو نصرانياً، أو صابئاً، أو مجوسياً أو مشركاً، -كما أشارت الآية 17من سورة الحج، حتى لو كان فاعل العمل السيئ من عشيرة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أهله. لذلك فقد حذر عليه الصلاة والسلام، عشيرته وأهل بيته من خطورة الاهتمام بغير الإيمان بالله والعمل الصالح، وحذر من خطورة العمل السيئ، وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (يا بني هاشم، لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم) وقال عليه الصلاة والسلام، لابنته فاطمة رضي الله عنها (يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا) وفي حديث آخر رواه مسلم (من أبطأ به عمله, لم يسرع به نسبه) وفي الحديث الذي رواه البيهقي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ يوم القيامة يقول (إني جعلت نسباً, وجعلتم نسباً, فجعلت أكرمكم عندي اتقاكم, وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان, وأنا اليوم أرفع نسبي, وأضع نسبكم, أين المتقون, أين المتقون)؟. أ.صادق عبدالله حسين الوصابي. [email protected]