ما يُوصف في دوائر معينة "بالإسلام السياسي"؛ للدلالة على اشتغال دعاته وأتباعه بالشأن السياسي، وسعيهم للوصول إلى السلطة، ينطلق منظروه من رؤية شمولية في فهمهم الإسلام، فالسياسة وفق منظورهم شأن من الشؤون التي جاء الإسلام لصبغها بصبغة الدين، وضبط حركة المشتغلين بها بأحكام الشرع وتعاليمه وضوابطه، فمنظرو "الإسلام السياسي" يُخضعون جميع شؤون الحياة على اختلاف مناحيها لأصول الشريعة وأحكامها وأخلاقياتها وضوابطها، ولا يرون خروج أي ميدان من ميادينها عن ذلك. كان لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا دور تأسيسي في إحياء مفهوم شمولية الإسلام، وترسيخه في أوساط الدعوة الإسلامية المعاصرة، ففي الركن الأول من أركان البيعة (الفهم)، قال في بيانه له: "إنما أريد بالفهم: أن توقن أن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز"، ثم بيّن في الأصل الأول فكرة شمولية الإسلام التي يدعو إليها بقوله: "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء". ولما لكلام البنا من دور مركزي في التربية داخل صفوف جماعته، فقد احتلت تلك الفكرة مساحة واسعة في الرؤية الدعوية الإخوانية، التي كانت في غالب الأوقات الأوسع انتشارا، والأكثر أتباعا، فكان الاهتمام بها، والاحتفاء بشأنها، والتركيز عليها، والانطلاق منها في الفهم والتأصيل، والحركة والعمل، فكان انشغال إسلاميي الإخوان بالشأن العام بمختلف مناحيه، من صلب فكرتهم، وأساسيات دعوتهم التي أشادها المؤسس الأول. لا يعني ذلك بحال أن اتجاهات الإسلاميين الأخرى، لم تحفل بذلك المبدأ ولم ترسخه في أدبياتها، لكنها لم ترفعه في النظر والممارسة إلى المستوى الذي مارسته سائر الاتجاهات الإسلامية الإخوانية، وهو ما أكسبها خبرة طويلة، ودربة على ممارسة الشأن العام، وما ذاك إلا نتيجة الاهتمام المركزي بتلك القضية في فكر مؤسسها، وأدبياتها الشارحة واللاحقة في كتابات منظريها ورموزها الكبار. قد يقع التداخل بين مفهوم شمولية الإسلام من الناحية النظرية، وبين تمثلاته وتطبيقاته في الواقع، فيظن الظان أن مجرد رفع ذلك الشعار، والتحدث به، وتلقينه الاتباع والمريدين، يَفي ذلك الشعار حقه، ويكفل بنقله من عالم النظرية إلى واقع التطبيق والممارسة، ويُكسب دعاته وحملته فهماً لواقع يموج بأفكار ورؤى ومذاهب مختلفة ومتنوعة، مع أن طبيعة ذلك المفهوم تستدعي النزول إلى الواقع والانخراط في شؤونه وقضاياه، بكل ما يتطلبه ذلك من إتعاب العقل في البحث والنظر، وفهم الواقع بمستجداته الحادثة، وإيجاد الحلول اللازمة والتدابير الممكنة. حَمْلُ الإسلاميين مفهوم شمولية الإسلام، وإشاعته في المجتمعات، يفرض عليهم ألوانا من الاجتهادات المكافئة معالجة سائر شؤون الحياة المختلفة، فهم قد قدموا أنفسهم كدعاة يسعون لإصلاح حياة الناس، بما يحملونه من أفكار وتصورات، فما هي رؤاهم لإصلاح السياسة وشؤونها؟ وما هو مفهومهم لعلاقة الدين بالدولة؟ وهل يجعلون من مطلب تطبيق الشريعة حقا مكتسبا يضفون به الشرعية على سلطتهم؟ وكيف سيتعاملون مع الاتجاهات الفكرية الأخرى، والأحزاب السياسية حينما يكونون هم أصحاب السلطة؟ وما هي رؤاهم وبرامجهم لمعالجة الحالة الاقتصادية المتردية؟ وهل يمتلكون حلولا واقعية تعالج مشاكل الفقر والبطالة والحرمان؟ بعض الاتجاهات الإسلامية –كجماعة الدعوة والتبليغ مثلا– أراحت نفسها من حمل تلك الأعباء ابتداء؛ لأنها أعلنت عن توجهاتها وحددت ميدان عملها بكل وضوح، فهي تعمل في مجال الدعوة التذكيرية والإرشاد الديني، وإصلاح النفوس والقلوب والأخلاق، ولم يكن ضمن برنامجها الاشتغال بأي شأن آخر من شؤون الحياة الأخرى، فهي تشتغل بإصلاح الناس، ليكون منهم السياسي الصالح، والاقتصادي الصالح، والمهني الصالح، لكن الاتجاهات الإسلامية الإخوانية حملت أنفسها تلك الأعباء بتصديها لها أساسا، وبجعلها من صلب فكرتها؛ لأن التدين القويم لا يكون إلا بذاك وفق تصوراتها. بات من الواضح بعد تجربة الإسلاميين الحديثة في السلطة، أن محاولاتهم لتمثل ذلك المفهوم وإشاعته في أركان الدولة المعاصرة، وترسيخه في قطاعات المجتمع المختلفة، ستدخل الإسلاميين في صراعات مريرة مع القوى المناوئة المختلفة، وستوقعهم في مواجهات ساخنة وقد تكون دموية، فالاتجاهات الفكرية الأخرى، والقوى السياسة المخاصمة الإسلاميين، لن تترك الميدان لهم ليطبقوا سياساتهم، وينفذوا برامجهم، بل ستدافع عن وجودها بكل ما تملكه من أدوات وآليات وإمكانات. ثمة فوارق كبيرة، ومسافات شاسعة، بين مفهوم شمولية الإسلام في صورته النظرية، وبين تمثل الإسلاميين له في الواقع، فتمثله وتجسيده يفرض عليهم الدخول في صراعات واقعية إجبارية لا مناص لهم منها، ولا خيار لهم أمامها؛ لأنهم ليسوا الوحيدين في الساحة، فما يريدونه ويسعون إليه ينازعهم فيه غيرهم، فكيف ستكون مآلات الأمور؟