خلق الله عز وجل بني البشر متفاوتي العقول، متبايني الرؤى، وعلى درجات مختلفة من الإحساس والشعور والتلقي، وهذه هي سُنة الله عز وجل الماضية في الخلق كله، والتي لا يُنكَر وجودها، وفي هذا يقول عز وجل: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، ويقول أيضًا: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك..). وقد كان أبناء خير القرون وأفضل الأجيال، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مستوى عال من التنوع، حيث تميز كل منهم عن الآخر في صفاته وتفرد في إمكاناته. وقد برزت عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في الاستفادة من هذا التنوع والزخم في المواهب التي حباها الله لأصحابه، واستثمار كل واحد منهم في المكان المناسب لمهاراته ومواهبه، ولم يسعَ أبدًا لتنميطهم أو قولبتهم، بل أطلق لكل منهم العنان – فيما سوى الأصول الثابتة وبما لا يتجاوز الحدود الشرعية – ليفكر ويبدع ويبتكر فيما يفيده ويفيد المجموع. لكن البعض – للأسف – يريد أن يغالب هذه السُّنة الإلهية والنبوية بمحاولة قولبة من حوله وفق رؤاه وطريقة تفكيره، أو قولبة ذاته وتنميطها، ليجعل من فهمه وتأويله، أو من فهم وتأويل سكان قالبه، الفهم والتأويل الأوحد الصحيح والواجب الاتباع، ومن فعله المثال الذي يجب أن يُحتذى، في نموذج فرعوني بغيض يعلنون مفاصلته كلامًا، ويفعلون – بوعي أو بعدم وعي – فعله، على طريقة “ما أريكم إلا ما أرى". وغالبا ما يتصف عشاق القولبة والتقولب بالضحالة الثقافية، والكسل الفكري، واقتصار معارفهم واهتماماتهم وقراءاتهم على أمور محددة، وافتقاد القدرة على البحث والتحليل والمناقشة والحوار، وعند الواحد منهم الاستعداد لإلغاء عقله تمامًا كما يحرص على إلغاء عقل محاوره. كما تجد معظمهم ضعيفي التواصل مع المجتمع الواسع من حولهم، يجدون راحتهم مع أمثالهم من المتقولبين، وينزعجون من أي حديث عن التغيير أو التطوير، ويقاومون بعنف أية محاولة لإخراجهم من هذا القالب ولفت انتباههم لما يحدث خارجه، ويدارون قلة بضاعتهم وبوارها برفع سيوف من الاتهامات الجاهزة والتوصيفات المعلبة لإرهاب من يحاول مناقشتهم. وتجدهم إذا فُرض عليهم التغيير فرضًا تظهر عليهم علامات الاضطراب والتوتر والتردد، وتشتد عندهم الممانعة لهذا التغيير، حتى إذا استجابوا مرغمين حاولوا صنع قالب آخر من نسيج هذا التغيير يتقولبون فيه من جديد!!. والغريب أنهم رغم صفات النقص هذه تجد عندهم استعلاء عجيبا وكبرا ظاهرا، مشعرين من يتعامل معهم أنهم احتكروا الحكمة وفصل الخطاب، ولو استطعت أن تجرهم لنقاش موضوعي وعلمي لاكتشفت أنهم هواء، ولسارعوا بالهروب، متمتمين بعبارات متكلَّفة وهمهمات غاضبة. ويا لشناعة هؤلاء عندما ينقلبون على قوالبهم ورعاتهم وزملائهم، عندما تتعارض المصالح، وتفوت المكانة، وتخرج الأضغان، وتسقط الأقنعة، حيث يخلعون ثوب الحكمة الذي ارتدوه زورا، وتجد عندهم جرأة شديدة على الكذب، وفجورًا في الخصومة، وفحشًا في القول، وتلفيقا للاتهامات. قد تصلح “القوالب" لبناء الحوائط الجامدة والأسوار المانعة والمباني الصمَّاء، لكنها بالتأكيد تغدو في الكيانات البشرية معطلة ومعوقة، فضلاً عن كونها ثغرة قد تؤتَى من قبلها تلك الكيانات إن لم يتم وضعها في مكانها الصحيح ضمن هذا الكيان. وأخيرًا أيها المتقولب: لا تطلب مني ولا تنتظر أن أرى الأشياء بعينيك، أو أسمع بأذنيك، أو أحب وأكره بقلبك، فلو أمكن هذا وكان مقبولاً فلا حاجة إذن لوجود أحدنا، سأظل أنا أنا، وأنت أنت، حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.