بقيت الجزيرة العربية عصية على التدخل المباشر من قبل الروم والفرس، إلا أن التدخل كان يجري من خلال القبائل المتحالفة مع الطرفين في شمال الجزيرة، ومن خلال التنافس على اليمن جنوبا، وكان الأحباش سيطروا على اليمن لفترة زمنية طويلة، وحاولوا أن يبسطوا نفوذهم على الطريق التجاري بين الشام واليمن وذلك لتمكين حلفائهم من الروم للسيطرة على هذه المنطقة التي يمكن أن تجعلهم يستولون على مساحة كبيرة من الأراضي في مواجهة الفرس، ومن خلال منطقة الجنوب التي لم يتمكن الروم سابقا من الاستيلاء عليها، وكان يواجه الأحباش أولا العمل على إضعاف قريش وقبائل الحجاز، وكانت استراتيجية الأحباش تقوم على ضرب مكانة مكة كمدينة مقدسة للعرب، وهو ما يضعفها كمركز تجاري، فالعرب كانوا يقصدون مكة للتعبد، وعلى هامش ذلك تقوم الصفقات والاتفاقات التجارية، وهو الأمر الذي أدركه المكيون فوفروا للقبائل العربية جميع الإمكانيات اللازمة لذلك. قام أبرهة الأشرم زعيم الأحباش ببناء كعبة مماثلة في شكلها للقائمة في مكة، ووفر لها الكثير من المرافق الفاخرة، وحاول أن يستقطب القبائل العربية للعبادة في كعبته، ولكن الأحباش بشكل عام لم يكونوا يدركون تاريخية مكة، وارتباطها القديم بقصة اسماعيل وتوطنه فيها، وهي أصلا القصة التي لم يكن يدركها العرب، ولكنهم كانوا متعلقين بها بصورة كبيرة، وكان فشل أبرهة يدفعه للتخطيط لغزو مكة من أجل تقويضها وإخراجها من المعادلة لتمهيد مشروعه في السيطرة على الحجاز، وهو ما توفر له، وتخير أبرهة أن يحشد جيشا كبيرا، وأن يسلحه بطريقة متفوقة على العرب بشكل عام، وكانت فكرة الأفيال أحد الحلول المتاحة أمامه، وهي الفكرة التي اتخذها القائد العسكري القرطاجي هنيبعل في طريقه إلى روما، وهي أيضا التي هزمت الإسكندر المقدوني لدى دخوله إلى الهند، ولم يكن متوقعا من العرب أن يتمكنوا من مواجهة أبرهة وجيشه وأفياله، ولذلك تمكنوا من الوصول الى مكة دون مقاومة. على مشارف مكة كانت الأمور توحي بأن المدينة غير مستعدة لمواجهة الأحباش، ولعل اعتداء بعض من جنوده على الأغنام التي تخص واحدا من زعماء قريش هو الموقف الذي مكنه من الاتصال مع أهالي المدينة، وتوقع أن يرسلوا رجلا للتفاوض معه من أجل الاستسلام، ولكن على خلاف المتوقع تحدث معه عبد المطلب بن هاشم في شأن الإبل التي استولى عليها الأحباش، دون أن يشير إلى الجيش أو التهديد باقتحام مكة، وهو ما أدى إلى تحريك أبرهة مستغربا مما يجري، ومن لا مبالاة أهالي مكة بجيشه، ليتساءل عن موقفهم من الحرب التي تحاوطهم، والمخاطر المحدقة بهم وبالبيت الحرام، ليقول عبد المطلب مقولته الشهيرة: للبيت رب يحميه، ولم يكن عبد المطلب مطلا على الأحداث التي ستقع بعد فترة وجيزة، ولكنها كانت الثقة في أن الحياة التي جعلت مكة تستحوذ على العرب وتجعلهم يتفقون ويتوحدون حول قداستها لسبب لم يكن أحد يتبينه لتوالي الأزمنة على طقوسهم التي جعلت الحرم المكي الوجهة التي تحرك وتحكم كثيرا من أوجه حياتهم، وكانت الطيور التي يصفها القرآن الكريم بالأبابيل التي تدخلت من السماء، ويمكن أن يكون التفسير أن جيش الأحباش أصيب أيضا بوباء كبير، وفي تفسيرات أخرى، أن بركانا قذف بحممه على جيشهم، ومهما يكن من أمر، فإن اقتحام مكة لم يحدث، وخرجت قريش وهي أكثر ثقة بوجودها وبدورها، وكان الحدث غير المفهوم في ظل من يتابعونه تمهيدا لسلسلة أخرى من الأحداث التي ستكون مكة مركزها لعقود قادمة من الزمن، فوراء كل ما يحدث، كان في مكة طفل جديد يولد لبني هاشم وعلى يديه سيتغير التاريخ بأسره، في مكة، وفي العالم بأسره. إضاءات : سبب انتهاء الحضارة اليمنية القديمة؟ كان دخول الأحباش إلى اليمن ايذانا بانتهاء الحضارة اليمنية القديمة، فالأحباش عملوا على تنحية اليمنيين عن إدارة شؤونهم، وأعملوا طقوسهم وتقاليدهم في جميع نواحي الحياة، ومنها المسألة الدينية، حيث لم يسمح لأهالي اليمن سواء من الوثنيين، أو من معتقني اليهودية من أداء طقوسهم، وأجبروا كثيرا منهم على اعتناق المسيحية. ما حدث- تاريخيا- تسبب في وجود غضب مكبوت لدى اليمنيين، للعمل على إجلاء الأحباش عن أراضيهم، وكان ذلك تمهيدا لظهور شخصية سيف بن ذي اليزن، وهو الشخصية التي منحها العرب مكانة بطولية في تاريخهم، على الرغم أن ما فعله لم يكن سوى العمل على استبدال احتلال قائم بآخر جديد، فابن ذي اليزن توجه» أولا» للروم ليستحثهم على طرد الأحباش، ولكن ذلك لم يكن له للتحالف بين الطرفين، فتوجه إلى الفرس، الذي لم يقابلوه بكثير من الحماس، وصارحه كسرى بأنه لن يضحي بجيشه في حرب بمناطق مجهولة، على الرغم من الإغراءات التي قدمها ابن ذي اليزن بثروات اليمن. كان الاقتراح في بلاد فارس، أن يتم تجهيز جيش صغير قوامه من القابعين في السجون ليرسلوه مع سيف من أجل تحرير اليمن من الأحباش، وعلى الرغم من ضآلة الجيش الفارسي، إلا أن شجاعة قادته، وإصرارهم، سواء ابن ذي اليزن، أو القائد الفارسي المتقاعد الذي رافقه، أدى إلى تحقيق انتصار كبير على الأحباش ليصبح اليمن إحدى المناطق التابعة للفرس قبل ظهور الدعوة الإسلامية.