يبدو أن اليمن يقف على عتبة جديدة من عتبات العنف والإرهاب، وأنه على وشك الدخول الحقيقي في المسارات الأشد دموية وغموضا وعلى الصفة التي ستأخذه بقوة إلى حال ليس أشبه منه سوى ما يجري في العراق ولبنان، ذلك أن ما حدث اليوم لوزارة الدفاع اليمنية من هجوم إرهابي عنيف، يمثل ضربة مبرحة لأهم المواقع العسكرية رمزية بالنسبة للجيش والأمن في اليمن، الأمر الذي يقف عنده الجميع بين مندهش مما وقع ومترقب لما قد تأتي به الأيام القادمة.. فما الذي جرى؟ وكيف يمكن أن يُقرأ؟ هكذا تساءل الخبير الإستراتيجي والمتخصص في شؤون الجماعات المسلحة علي الذهب في تحليل خاص ل «الخبر» حول واقعة الهجوم الإرهابي الذي استهدف وزارة الدفاع اليمنية. رمزية المكان وديموجرافيته يمثل مجمع الدفاع(وزارة الدفاع) قيمة رمزية ومعنوية للقوات المسلحة اليمنية، على اعتبار أنه المعقل الذي يضم كبار رجال القيادة العليا للجيش اليمني، بدءا بوزير الدفاع ومساعديه، ورئيس هيئة الأركان العامة ونائبه، ورؤساء الهيئات المستحدثة وفق الهيكلة الجديدة، وكذا مدراء أكثر من عشر دوائر عسكرية إدارية؛ ولهذا فإنه يمثل رأس الهرم الإداري الذي تدار بواسطته وحدات الجيش، عملياتيا ولوجستيا. مع ما سبق طرحه، فإن هذا المكان ليس بالموقع العسكري القتالي الأبرز داخل العاصمة، بحيث يمكن اعتباره مضاهيا للوحدات القتالية المنتشرة فيها، كألوية الحماية الرئاسية، ووحدات قوة الاحتياط، والوحدات القتالية العسكرية والأمنية الأخرى، التي إن جرى السيطرة عليها فإنما يعني السيطرة على العاصمة برمتها ومن ثم إسقاط النظام القائم بعملية انقلابية ماحقة كسابقاتها التي عاصرتها هذه المدينة خلال ستة عقود، لكنه يظل وفق طموحات أي تنظيم إرهابي أو جماعة مسلحة محدودة الإمكانات، هدفا هاما يكسر تلك الرمزية ويفقدها ألقها لدى منتسبي الجيش ولدى المواطن اليمني على حد سواء. بالنظر إلى موقع وزارة الدفاع، فإنه لا يبدو المكان السليم والآمن الذي يجب أن تتمتع به وزارة سيادية مثل هذه الوزارة، لا سيما في بلد مضطرب كاليمن، تعد صفة الاستقرار فيه حالة غير دائمة، وهو موقع كثيرا ما تلقّى أعنف الضربات في مراحل كثيرة من تاريخه الجمهوري وما قبله، والتي كان أبرزها ما حدث الأشهر الأولى لثورة سبتمبر عام 1962م، وأحداث حصار السبعين يوما التي وقعت أواخر نوفمبر عام 1967م إلى أوائل فبراير عام 1968م، وكذا أحداث أغسطس بين صَفين من الجمهوريين عام 1968م، وانتهاء بأحداث العام الماضي 2012م، بل إن مما زاد في ركاكة الموقع أمنياً، وقوعه وسط تجمع عمراني كاشف، وطرق اقتراب سهلة تمتد إلى بواباته الخمس، وانتشار سكاني محيط وكثيف، ونشاط تجاري كبير يعيق أي عمل من شأنه فرض السيطرة الأمنية نحوه في الظروف الطبيعية والظروف الاستثنائية العارضة والحرجة. الثغرات القاتلة لو لم يكن هذا الموقع معابا استراتيجيا، كما سبق الإشارة إلى ذلك، فضلا عن مؤثرات الأوضاع الراهنة داخل البلاد وانعكاسها على أداء منتسبي الجيش والأمن عموما وحراسة الموقع خصوصا؛ لما كان حجم الكارثة التي وقعت بهذه الصورة التي تجلت بها، كما يُزاد على ذلك ما يلي: 1- عدم وجود منظومة أمنية تقنية متطورة عند المداخل كلها، مثل: كاميرات التصوير، وأجهزة كشف متطورة للأسلحة والقذائف الانفجارية. 2- ضعف السياجات والأنساق الأمنية المتتابعة المعيقة للاقتحام عند المداخل. 3- إسناد مهام الحماية في بعض البوابات لأفراد حديثي الانتساب للقوات المسلحة. 4- إفساح المجال لمرتادي مستشفي المجمع لفئة المدنيين دون مراعاة لحساسيته الأمنية. 5- السماح للمدنيين بارتياد حمام تركي موجود داخل المجمع وإن كان هذا الحمام قد أغلق قبل أشهر قليلة. 6- وجود أعمال إنشائية في محيط المستشفى تسهل عملية الدخول لأي متسلل أو مخترق أو مهاجم تحت أي ذريعة. 7- التعاطي غير الحازم مع أغلب مرتادي المكان من العسكريين والمدنيين في البوابة التي اقتحمت. 8- التراخي في الأداء من قبل بعض أطقم الحماية وتركها لمواقعها في أوقات الوجبات الغذائية وفي العطل وما بعد الدوام الرسمي. 9- تدني الحس الأمني لدى وحدات الحماية الموجودة في الموقع ولدى القيادات المشرفة عليها. العملية الإرهابية وتقنيات الإعداد لها تبدو هذه العملية، تكتيكا وأداء، نسخة طبق الأصل للعمليات التي نفذتها جماعة أنصار الشريعة التابعة للقاعدة ضد قيادة المنطقة العسكرية الثانية في المكلا، وكذا العملية التي استهدفت الموقع العسكري الكائن في منطقة النشيمة بمديرية رضوم خلال سبتمبر الماضي، غير أن الفارق الذي لوحظ في هذه العملية أن المجموعة التي اقتحمت المكان كانت معززة بغطاء ناري من خارج المكان في الخطوة الثانية من المواجهة، وهي الخطوة التي تلت الاقتحام واحتلال مبنى المستشفى، حيث يبدو لي أن منفذي العملية الإرهابية عبارة عن مجموعتين: مجموعة الاقتحام، وهي التي باشرت إطلاق النار على أفراد الحراسة، والمجموعة "الانغماسية" -بحسب توصيف القاعدة- وهي التي قامت بواسطة أحد الانتحاريين من خلال تفجير نفسه بالحزام الناسف داخل السيارة عند باب المستشفي، فيما باشرت المجموعة الأخرى باعتلاء المكان واحتلال مرافقه والقضاء على الأهداف التي صادفتها في داخله وفي المباني المجاورة المأهولة بالموظفين. السؤال المهم، هنا، هو: لماذا جرى اقتحام مجمع الدفاع من هذه النقطة تحديدا؟! اعتقد أن المهاجمين قد وجدوا المستشفى هدفا ثمينا، حيث يجمع خليطا من القادة العسكريين والسياسيين وكبار رجال الدولة الذين يستشفون فيه، وقد ساعدتهم ظروف موقعه على تحقيق أهدافهم بكل سهولة ويسر، كما أن المجموعة الطبية التي فيه تعتبر هدفا أصيلا لكونهم من أهم الكوادر الطبية في الجيش، وهم كذلك من يتولون معالجة من يقاتلون المهاجمين في جبهات القتال، على فرض أن المهاجمين هم من تنظيم القاعدة(أنصار الشريعة) وهذا ما أرججه وفقا لما تكشفه أهداف العملية وآلية تنفيذها ونتائجها، أما في حالة وقوف جماعة مسلحة أخرى غير معروفة، فإن الهاجس الأمني ومحاولة إغراق البلاد في الدمار هو هدفها الأول، لكنها وقعت في الفخ حين لم تتمكن من تنفيذ العلمية والانسحاب بسلام. الخبيرون بهذه المنشأة، يقولون: إن هذه البوابة هي أضعف نقطة أمنية فيها، إذ أن ارتياد المستشفى من خلالها يجعل من فرضية اقتحام المجمع في نظر القائمين على الحراسة غير وارد، وهو خطأ أمني فادح، ذلك أن حسن النوايا في هذا الموقع اعتمادا على النظرة الإنسانية لحالة المرضى والمرتادين يكلف الكثير من الأرواح البريئة والنتائج الكارثية في ظل الأوضاع المتأزمة التي تمر بها البلاد. كما أن هذا الموقع هو أنسب المواقع لفرض السيطرة الداخلية والخارجية على المكان من قبل المهاجمين، ذلك لأنه محمي من المباني المرتفعة المقابلة له في الجزء الشمالي من حارة الدفاع أو تلك التي تقع خلفه باتجاه حارة بحر رجرج وحارة مدرسة نشوان الحميري القريبة من السائلة التي تشرف مبانيها على المجمع إشرافا جزئيا مفيدا، والتي قد يكون اعتلاها عدد من أفراد التغطية على المهاجمين. يواجه مبنى المستشفى ثلاثة أضلاع عمرانية يقع فيها مقر وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، والديوان العام للوزارة، وكذا دائرة الشئون المالية التي تلتحم بالمستشفى جدارا لجدار، وأخيرا دائرتي المساحة والرقابة والتفتيش، فضلا عن وقوع هذه الأهداف على مسافة مميتة من نيران الأسلحة الفردية للقوة المهاجمة، اعتمادا على خاصية المبنى وموقعه. تقع البوابة التي جرى منها الاقتحام على شارع ضيق عرضه سبعة أمتار مع إسقاط المساحة المشغولة بأحجار سن التنّين في الجهة الواقعة إلى جوار سور الوزارة، وهو شارع ذو اتجاه أحادي يفضي إلى الشارع المؤدي إلى باب اليمن، وقبالة هذه البوابة تقع وحدة حمامات عامة محاطة بأشجار كثيفة، ما يدفع بالاعتقاد أن هذا المكان قد استغل في مراحل الإعداد للعملية أو أثناء التنفيذ استغالا بارعا، وذلك بتوفير الاستطلاع والرصد المباشرين والتغطية بالنيران للقوة المهاجمة في اللحظات الأولى للهجوم، ومن ثم التواري والهرب في ظرف الفوضى الناشئة. تداعيات العملية الإرهابية تكشف الأعداد الكثيرة للضحايا والآليات والمباني وكذا سرعة الحسم، مقارنة بوقائع أخرى مشابهة، عن التعامل العشوائي والعنيف مع الواقعة من قبل وحدات الحماية المرابطة في المجمع والتعزيزات اللاحقة، وكذا استخدامها الأسلحة الثقيلة المتنوعة، واعتمادها على مبدأ "إخماد الأزمة" في التعامل مع الواقعة، وهو أسلوب شديد العنف يقوم على انتهاج خيار القوة المفرطة في التعامل مع القوى الأزموية، بحيث يتجاوز الأخذ به المشاعر والقيم الإنسانية ويسقط حساباتها تماما، وصولا إلى السيطرة على الوضع وحفظ ماء الوجه أمام الجمهور البسيط وليس النخب الواعية. تعتبر هذه العملية مؤشر خطرٍ على مستقبل البلاد وإقباله على مرحلة مخيفة إن لم يجر العمل على تطوير أداء المؤسسة الأمنية والاستخبارية وفق التطور الملحوظ الذي يشهده أداء الجماعات الإرهابية أو الجماعات المسلحة الأخرى، كما تعبر العملية بجلاء عن حضور تنظيم القاعدة أو الطرف الواقف خلف هذه العملية داخل العاصمة، وكذا استعداده لتنفيذ ما هو أبلغ مما حدث. تعتبر العملية ردا مفحما على الاستعدادات القتالية والأمنية التي احتفلت بها السلطة القائمة خلال الأيام القليلة الماضية، وجرى تداولها من قبل وسائل الإعلام الرسمي، ليبدو كل طرف كما لو أنه يحتفل بطريقته الخاصة ويعمل على إيصال رسائله إلى خصمه بالكيفية التي تحلو له. قد تؤثر هذه العملية على مجريات العمل السياسي والتسوية القائمة المرعية أمميا داخل البلاد في حالة الانزلاق في هذا النفق الخطر وتحول العاصمة إلى ساحة موت مبهم مصدره، لكنها في حالة عدم حصول ذلك، ستغطي على الصدى الكبير الذي خلفه مقتل النائب عبدالكريم جدبان وكذا مقتل الشيخ الحضرمي سعد العلي وتقزّم من شأن ذلك الصدى تماما، بما يخلق تعاطفا شعبيا مع الرئيس هادي ذاته الذي يواجه هذه الأحداث العصيبة بكل جلد وصبر وشجاعة، لا سيما أنه حضر إلى مقر الوزارة عقب تطهير المكان واجتمع بكبار القادة فيها، بما يثبت أنه رجل من رجال المواقف الصعبة. وختاما، فإن الذين يتداولون أخبارا تفيد بأن الأمر انقلاب مبيّت من قبل الرئيس السابق، وأن الرئيس هادي كان في المكان قبل العملية في زيارة سرية لعيادة بعض أقاربه؛ فهذا استخفاف كبير بالعقول، ومحاولة لمصادرة الشجاعة التي أبداها الرئيس هادي في زيارته للموقع عقب الحادثة، وأنه ليس أهلا لمثل هكذا موقف أو قد يكون تبييتا لأعمال عنف غير مقبولة قد توجه ضد طرف سياسي معلوم خلال الأيام القادمة. أما إلحاق التهمة بالرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأنه مدبر الانقلاب أو يقف وراءه؛ فهذا إفلاس سياسي من قبل بعض خصومه أو منابرهم؛ ذلك أن الرجل كان بيده أقوى الأسلحة وأمضاها، بما في ذلك الطيران، لكنه لم يسلك ذلك المسلك أو يلجأ إلى ذلك الخيار.. فكيف به الآن وهو عبارة عن بقايا رئيس أو بقايا إنسان!! الأمر، إذن، ليس الأمر انقلابا، مثلما أن صالحا لا يقف وراء هذا الانقلاب المزعوم.