في عددها التاسع، نشرت مجلة 21 الفرنسية تقريراً أعده الصحفي الفرنسي فرانسوا اكسافييه تريجان عن قضية أبناء الجعاشن مع شيخهم محمد أحمد منصور بعد أن لفت نظره مخيمهم في صنعاء واعتصاماتهم المستمرة أمام مجلس النواب. وردت في التقرير أبيات للشيخ منصور. كان المفترض أن نرجع إلى ديوانه الشعري ونورد الأبيات كما قالها لكن لعدم حصولنا على الديوان اضطررنا إلى ترجمة معاني الأبيات بحسب ما جاء في التقرير.
وعلى هامش التقرير كتب الصحفي الفرنسي بعض الفقرات كانت إحداها عن ديوان الشيخ منصور وثانية عن الشيخ حميد الأحمر وثالثة عن الاختطافات في اليمن.
و"المصدر أونلاين" ينشر النص الكامل لتقرير المجلة الفرنسية:
بكثير من الصبر، على مر الأيام، كان سكان الجعاشن يتهيأون للخروج، وفي ليلة من الليالي غادروا الجعاشن هاربين من الشيخ منصور، سيدهم المولع بالشعر. ولإعادتهم قام مدّعي الشعر بإرسال مليشياته المدججة بالأسلحة. في العام التالي عاودوا الكرّة، ثم العام الذي يليه ولكن دون جدوى.
آخر النهار، السابع من مارس 2008، نزلت على صنعاء أولى قطرات المطر معلنة دخول الربيع. عادة، في مثل هذا الوقت من العام، وعندما تكون السماء قد أظلمت ورُفع أذان المغرب، تؤدى الصلاة على أصوات هدير المياه المتدفقة. لكن في هذا العام تأخر الموسم وصنعاء لا زالت جافة.
في حي القاع، لا سوق، ولا عربات مكتظة، فقط حرارة الشمس اللاهبة والمضنية، وهؤلاء الرجال الجالسون بصورة غريبة في ساحة مرصوفة ذات بوابة حديدية. خمسون رجلاً قابعون على الحصير.
في تلك الساحة الضيقة، لا يصدر عن أولئك الرجال أي ضجيج. الكبار منهم ذوو أيادٍ خشنة، وظهورهم منحنية، وقد احترقت وجوههم من الشمس. كلهم قادمون من الأراضي الممتدة بمحاذاة جبال إب الواقعة على بعد 200 كيلو جنوبصنعاء. يسكنون مديرية الجعاشن حيث يزرع الدخن والقمح. إنهم منهكون. لقد توجب عليهم أن يسيروا أياماً قبل أن يبلغوا صنعاء مشياً في الغالب وأحياناً بالباصات على الطرق المتعرجة في الوديان.
خائفون. لقد غادروا منازلهم سراً في جنح الليل تاركين نساءهم وأطفالهم.. إنهم على وشك أن يقدموا على محظورات كثيرة.
الرجال متضائقون.. لقد اكتشفوا كثيراً عاصمتهم الأثرية.
كلماتهم المتقطعة والمترددة هي كلمات فلاحين أميين قادمين من السلة الغذائية للبلد. وقوامهم قوام أناس عاكفين على فلاحة الأرض منذ سن مبكرة في أعمارهم.
كانت رحلتهم تحدّ ضد شيخهم محمد أحمد منصور. منذ وقت طويل تعلم أبناء الجعاشن أن يقولوا لسيدهم نعم. لكنهم اليوم في صنعاء ليقولوا "لا" آملين أن يتردد صداها.
هؤلاء الخمسون يتمردون. لقد قرروا أن يثوروا بعيداً هناك في العاصمة.
خمسون من أهالي الجعاشن لثلاثة أشهر في صنعاء قابعين في ساحتهم، أو مقرفصين أمام البرلمان شبه صامتين، وسيعودون فقط ببعض الوعود بتحقيق العدالة مثل العام السابق.
في قلب العاصمة صنعاء، وفي مأوى هذا الموج الهادر بشارع الزبيري، الباب لم يكن يحتاج أي جهد لكي يفتح. سلكنا زقاقاً ضيقاً نحوه. كان علينا أن نتلطف في طرقه. لقد فتح بمجرد ضغطة بسيطة. نحن الآن في مقر جمعية الإخاء والتضامن مع أبناء الجعاشن. وهنا استطعنا الحصول على كل ما سجل حول هذه الانتفاضة، وهنا أيضاً يُرتب لها.
في المجلس ركام من أكياس الرز والقمح. على جدران المكتب: صور، إعلانات، رايات، قصاصات صحفية. أكوام الورق والأقلام، أجهزة تلفون خارج الخدمة، وفاكسات موضوعة في ركام من الأتربة والغبار.
• أكوام من الوثائق في دولاب مهترئ. في الجمعية استقبلني رئيسها الذي يدعي محمد. قال بشيء من الفخر بينما كنا نمر على المجلس لنجد رفيقه أحمر: "أكثر من ألف وأربعمائة كيس من الغذاء نقلت إلى الجعاشن".
كان الاثنان (محمد ورفيقه) منفعلين ولديهما الكثير ليحكيانه والكثير ليقولانه: بماذا نبدأ؟
فتح أحمر دولاباً مهترئاً. في الداخل ملفات مرتبة بعناية تضم المئات من الأوراق كشهادات في القضية، حافظة صفراء كبيرة موضوعة على الطاولة. عنوانها: انتهاكات شيخ الجعاشن من 28 فبراير حتى 22 سبتمبر 2008. كانت تضم أكثر من سبعمائة صفحة. كان أحمر يقلب الأوراق، يشرح، يجتزئ بعض الفقرات.
محمد يتنقل في كل الزوايا بحثاً عن براهين أخرى. كوم من الملفات هنا، وآخر هناك، وهناك ثالث. عندما تراهما يغوصان في هذه الملفات تستيقن أن هذه الخلاصات والشهادات والتسجيلات هي سلاحهم الوحيد.
على أساس هذه الوثائق التي يصل عمر بعضها إلى أكثر من ثلاثين سنة يخوض ثائرو الجعاشن معركتهم بصبر بالغ.
من أحد هذه الملفات استخرج محمد وثيقة كانت عبارة عن صورة لرسالة مكتوبة بخط اليد موجهة في 5 أبريل 1977م من الرئيس الحمدي إلى محافظات إب المسؤول عن مديرية الجعاشن. لقد قرأ:
الأخ المحافظ ليكن منكم العمل بمقتضى ما نص عليه قرار اللجنة، وطلب الشيخ محمد أحمد منصور وإلزامه بالتعهد بعدم التدخل في شؤون المواطنين.. وأفيدوا. وتقبلوا تحياتنا التوقيع: الرئيس إبراهيم الحمدي. وفي الترويسة –بالطبع- الجمهورية العربية اليمنية، الجزء الشمالي من دولة اليوم الموحدة.
في نهاية السبعينات بعد حرب أهلية طويلة، سلمت الدولة الشابة نفسها إلى استعمار آخر عندما سلمت الأمور إلى عدد كبير من الإقطاعيين كمستبدين محليين لغرض فرض السيطرة على تلك المناطق.. "وقد وصلوا إلى ذلك". أضاف أحمر.
جلس المرافق ماداً رجليه على وسائد غرفة الاستقبال التقليدية. وبأستاذية يجلس رئيس الجمعية في آخر المجلس. أحدهم مستلقٍ هنا، وآخر يداه خلف ظهره. كل اثنين أخذوا يغوصون في قصة.. لم يُعِد الحديث إلى مجراه إلاّ ما قاله محمد في نهاية المطاف ووافقه الجميع:
محمد: انتفاضة الجعاشن تحدث الآن. - الانتفاضة؟ أحمر: نعم. الثورة، الحرية. عند دخولي إلى مقر الجمعية كنت أريد فقط أن أستعلم عن هذا الأمر الغريب. وها أنا الآن أُخبر أن الماضي لا زال مستمراً، هناك في جبال إب على بعد 200 كيلو من العاصمة.
- أريد الذهاب إلى هناك. محمد ينفجر ضاحكاً: "الذهاب إلى الجعاشن؟ أنت مجنون!" وبشكل جاد قام يشرح: "لن تصل إلى هناك. والعودة مستحيلة. حتى البرلمانيون منعوا من البقاء. لم يستطعيوا وضع أقدامهم هناك".. ويحذر رئيس الجمعية: تذكر ذلك الصحفي؟".
الصحفي الذي يعنيه محمد يدعى هاجع الجحافي. كشخص بارز إلى حدٍ ما على المستوى المحلي كان واحداً من أفضل الملمين بقصة الجعاشن. لوقت طويل عمل ككاتب تقارير في جريدة النهار اليومية. اشتغل هاجع طويلاً على ملف الجعاشن قبل أن يفجره كقنبلة. من أول اتصال هاتفي به رد "... سأحكي لك كل شيء مدعماً بالدليل..".
وفي الموعد المحدد، في مكان سري، حضر هاجع متأبطاً حزمة قصاصات صحفية وعلى ظهره لاصق "لا للسلاح". خاض الصحفي (هاجع) واحدة من تجاربه الأولى بالاهتمام بشأن الجعاشن. لقد دخل في واحدة من القضايا التي ستثير عليه السخط ولم يتردد في أن يكشف ما يحدث، فهو الذي نبش رسالة الحمدي المرسلة في 1977 وقد دفع ثمناً ليحصل عليها.
* 120 شاهداً على أخلاق الشيخ في 2004 ساقته الأقدار ليكون على موعد مع قضية الجعاشن. في طريقه إلى عدن صادف هاجع أسرة متسولة تحكي له قصة مستحيلة.
تتحدث عن تهجير قسري، وتعرض له ما يحصل من استعباد، وبكلمات خائفة تحكي ممارسات لا تفرق بين صغير وكبير لسيد يدعى الشيخ منصور.
في البداية لم يصدق الصحفي: في مطلع القرن الواحد والعشرين يرى لوحة من لوحات القرن السادس عشر تستخرج من عمق الذاكرة.
وعلى كلٍ فهذه المعلومات –على الأقل- كانت تدل على وجود شيخ اسمه منصور هو سيد قرية اسمها الجعاشن. قرر هاجع في نهاية المطاف أن يخوض غمار قضية عويصة تجري أحداثها في أعالي جبال إب. راح يسأل ويحقق ويتحقق.
عندما قرأ هاجع في الصفحة الأخيرة من الصحيفة اليومية الصادرة عن وزارة الدفاع قصيدة مدح لرئيس الجمهورية بتوقيع الشيخ منصور، لم يتردد أبداً.
عضو نافذ في المجلس الاستشاري ينصب نفسه شاعراً رسمياً معترفاً به من قوى النفوذ. كانت المناسبة جيدة. وفي صحيفة النهار نشر الصحفي مقالاً بعنوان "الشاعر السلطوي الجيد للرئيس"، لقد كان بداية السلسلة. لقي المقال نجاحاً وواصل هاجع. أتبعه بمقال "الدكتاتور.. هو وأنا" ثم "الدولة في الدولة" وآخرها كان عنوانه الأجمل بدون شك "سارق الأبيات".
استشاط الشيخ غضباً بالتأكيد. حمل إلى المحكمة شكوى بالتشهير وتقدم يهاجم محاطاً بأربعة محامين: الصحفي يعمل على إثارة القلاقل، انفصالي، وحتى اشتراكي، وهو مدفوع من قبل آخرين..
تفادى هاجع الرد. كان يملك ورقة الجوكر وينتظر الوقت المناسب لرميها، وعندما حان دوره أبرز أمام القاضي اثني عشر شخصاً من أبناء الجعاشن قبلوا بأن يشهدوا.
شجار، توتر، مصادمات. وبكثير من الارتباك، قرر القاضي تأجيل الجلسة أسبوعاً.
وفي هذه المهلة تصرف الشيخ "الشاعر"، واجتهد رجاله في العمل. في الجعاش، هوجمت المنازل، نثرت أكياس الدقيق، أحرقت المزارع وقلع الزرع. ثمانية من الشهود تراجعوا عن شهاداتهم. وعندما مثل الشيخ ثانية أمام المحكمة كان بصحبته 120 شاهداً على أخلاقه العالية كانوا آكلين وساكنين بشكل جيد وجيوبهم عامرة. لم يكن لدى القاضي خيار: قام بدفن القضية.
حاول شيخ الجعاشن الدفع نحو لتحقيق غرضه. طالب بإغلاق مكتب الصحفي وحبسه كذلك ولم يفلح. الجحافي لم يستسلم بل استمر؛ مقال بعنوان "هاهي مملكة الجعاشن".
رجال ممن يثق فيهم الشيخ يدلفون إلى مكتب الصحفي، وعلى الطاولة يضعون بعض المفاتيح: "خذ، لننس كل شيء. سيارة تيوتا برادو جديدة".
دفع الصحفي إليهم بميدالية المفاتيح وقال: "سوف تقرأون الرد". وبعد يومين، وفي صحيفة النهار، كان الشيخ على موعد مع عروض بسيطة: في أكثر من صفحة ولأكثر من عدد سلسلة من الافتتاحيات الرصينة، وثائق، ورسوم كاريكاتورية ليست إطرائية. في شوارع صنعاء تتابعت المواجهة بين "الشاعر" والصحفي كمسلسل يومي. تضاعفت الضغوطات والتهديدات كذلك. لعدة مرات في الأسبوع كان هاجع يتلقى تحذيرات تلفونية: "إن لم تتوقف فستحدث لك كارثة". كان يتنقل بحذر. نجا ولده طارق من محاولة اختطاف. أخذ الصحفي عائلته إلى جنوب البلاد (قريته). في 17 يوليو 2005 مر شخص إلى مقر الصحيفة وسلم مظروفاً كرسالة لهاجع وقال: "لقد وعدنا بها هاجع، هذه وثائق مهمة". فتح هاجع طيتها لينفجر ملقياً به مترين إلى الخلف، مغماً عليه مضرجاً بدمائه. "لقد كنت محظوظا كدت أن أفقد عيني.
وبعد ثلاثة أيام من الانفجار، كتب هاجع مقالاً: "لن نتراجع"؛ "كنت مستعداً لدفع الثمن، لكن كنت وحيداً، وحيداً.." وسرعان ما أعيق تحقيق الشرطة.
وأمام كثير من التهديدات والضغوطات والأخطار استسلم رئيس تحرير الصحيفة واستقال الصحفي.
يعمل هاجع الجحافي حالياً متخصصاً في الشؤون الاقتصادية ويعد كتاباً بعنوان: "اليمن.. السلطة الخامسة" سيتلكم فيه بالتأكيد عن سلطة المشايخ.
* هؤلاء من الجعاشن يريدون التحدث إليك لعدة أشهر كنت أحاول أخذ موعد مع الشيخ منصور من صنعاء، علمت أن الشاعر يعيش في قلعة عالية محاطة بجدار دائري وبنوبات حراسة.
قابعاً في الأعالي، مهيمناً على مديريته، يتمتع الشيخ منصور بسجون خاصة وجباة ضرائب. طلبته على الهاتف مرة بعد أخرى وقوبل طلبي المتكرر بمقابلته بالرفض. قبل انتهاء المكالمة قلت له:
- لقد تحدث الجميع إليّ عن شيخ قوي. أتمنى لو أستطيع مقابلتك. - لا فائدة من ذلك. أبحث عن مشائخ غيري. لماذا أنا بالذات؟ - أنت أيضاً شاعر قدير كما يقال. - سأرسل لك قصائدي.
قررت أخيراً أن أذهب إلى جبال إب هذه القريبة من تعز، ثالث مديرية في البلد. والجاثمة على ألف وأربعمائة متر. عندما وصلت وجدت ثائري الجعاشن في انتظاري عند بوابة الخروج في مطار تعز الصغير.
أخذوا بيدي، سحبوني جانباً، وحشروني في "لاندكراوزر" قديمة قال أحدهم: "لست في اليمن. مرحباً بك في مملكة الجعاشن".
رد عليه آخر "عيب.. لا تقل هكذا".
انطلقت السيارة باتجاه المدينة. الثائرون يبحثون عن مكان جيد. وجدوا المكان الملائم وأبدى زعيمهم موافقته عليه.
أخذنا مكاننا كما لو أننا في غرفة اجتماعات واسعة. جلسنا على الرصيف البارد. أهالي الجعاشن يرسمون الخطوات الأولى لبرنامجهم. ويشهدون: مواشي سرقت، زروع أتلفت، منزل اغتصب، سكرتير مدرسة اختطف، ها هي القصص المسموعة في صنعاء تتشكل وتأخذ وطابعها الحيوي.
أحدهم كان بزي عسكري ويبدو مسيطراً على الجميع؛ وجه نحيل، عيون مستديرة وثابتة. ذلك الرجل هو من يدير الحديث: يقاطع، يكمل، يحدد، صوته جهوري. واقفاً أو جالساً، يمسك التلفون، يتكلم بغير انقطاع. وبعد أن كان قد توارى لبرهة عاد: "كل شيء جاهز. أهالي الجعاشن يريدون التحدث إليك، ستلقاهم في بيتي".
ضابط في الشرطة، خريج قديم من قسم التاريخ، مؤيد للاشتراكية، محمد الخولاني هو محرك الثورة. ذو الخمسين عاماً كان سليط اللسان وله بطل يجتهد في تقمصه بكل نقطة.
"مِثْله" يقول الخولاني وهو يأكل سمكاً مقلياً وينزع عنه القشور. - "كان تشي يحب هذا" - "تشي جيفارا؟" - "نعم، إنه مَثَلي. لقد كان عاشقاً للحرية".
محمد كان له مَثَل آخر؛ أراد الشرطي لنفسه أن يكون الوريث لشرارة فتية اسمه يحيى القاسم، الطالب الذي بعث الروح عام 1990 في مقلاع المواجهة مع الشيخ منصور. بعد وقوفه في وجه الشيخ في شجار تافه وجد الرجل بيته محاصراً وزوجته تهدد. هرع الرجل إلى سلاحه. قتل ثلاثة من رجال الشيخ ورأى أحد أنصاره يموت. لم يهدأ الصراع إلا بتدخل السلطات العليا في البلد.
"يحيى جزء مني". قالها الشرطي محمد، وإثرها تنهد وهو يستحضر في هدوء عشر سنوات من النزاع في مديريته. لا شيء من الوعود التي انتزعت من الشيخ نفذت: "طوال هذه السنوات والماء يزيد على الطحين". هكذا لخص المسألة. فجأة وقف لتحية ضابط أرفع رتبة منه ومتورط في قضية فساد كبيرة. جلس ثانية وهو يقول: "الصداقة قبل كل شيء".
أخذ أهالي الجعاشن طريقهم. تعدينا نقطتي تفتيش: الأولى عند مخرج تعز والثانية في مدخل محافظة إب. كتلة جبل صبر تبتعد. السيارة تثير كتل غبار كثيفة. على أحد جوانب السيارة التي توقفت في القاعدة كان هناك شعار: "اعمل كعبد لتعيش بحرية".
* رياح الغضب يسكن الضابط على بعد كيلو مترات من الجعاشن. وللوصول إلى مسكنه المكون من طابق أرضي من الخرسان والأحجار غير مكتمل يتوجب عليه أن يمر بزقاق ضيق.
أسرته، امرأتان وأربعة عشر طفلاً، يشغلون بضعة غرف. لدى محمد مجلس تقليدي لاستقبال الضيوف يغطي جدرانه بأوراق رعائية: منازل صينية، باقات ورد وزهور، صور مصرية.
في 2005 أحب الشرطي الإنصاف. في تلك السنة كان الشتاء قاسياً. كان الجوع يهدد الجميع. لم يكن لدى الأهالي لا القمح ولا الدقيق "وكان رجال الشيخ يأتون لينهبوا أسطوانات الغاز".
قلتُ: هذا عادي، غاز. شتاءً، وفي الجبل، نستطيع مواجهة الجوع. وبصعوبة نستطيع مواجهة الجوع والبرد.
استشاط محمد غضباً: "لقد بدأتُ التحدث إلى الأهالي. مررتُ من بيت إلى بيت. أرسلت إلى الصحفيين. وفي كل مرة أقول نفس الكلام: هذا يكفي".
وخلال أسابيع متوالية ظل محمد يجوب قرية الجاشعن ويبذل جهوده لنفخ رياح الغضب. وذات مساء في 2006 فقد القدرة على التراجع. كان ذلك عندما عاد يوماً إلى منزله ليجده محاصراً بأربعين من رجال الشيخ المسلحين. احتجزوه ورموه مقيداً بالحديد في أحد سجون الشيخ. أعلمت أسرته محافظ إب بالأمر فقام بدوره بالتدخل: لا يمكن أن يحتجز ضابط بهذا الشكل. واتصل مدير أمن المديرية بالشيخ منصور: "سوف تتحمل كامل المسؤولية عن حياته". وفي الأخير أطلق سراح محمد. الاحتجاز جعله يفكر: لا يمكن الرجوع إلى الخلف.
يتوافد الأهالي إلى مجلس الضابط. دعاهم وهاهم يصلون. يعرضون قوائمهم اللامنتهية من الشكاوى. يشتكون: الشيخ يعين المدرسين ويفرض الضرائب، وينهب المواشي.
ويبدون ملاحظاتهم: الشيخ يعرف كيف يدبّر أموره. وإحدى الأمهات تشرح: هو يعرف أي حين يقوم بالواجب. فيضيف محمد: "وهكذا يحبه الأطفال كثيراً ليظلوا جهلة".
أحدهم يقول: رجال الشيخ يلبسون زي العسكر ولا يستلمون رواتب. هكذا يستخدمهم. وآخر يؤكد أنهم أربعمائة مسلحين جيداً. فلاح عجوز يقول: "الدولة هي الشيخ".
يحيى حازم، عامل اليومية، خرج منذ أسبوع من السجن، يحكي أن أتباع الشيخ قيدوه بالحديد لأنه رفض أن يدفع إيجاراً على أرض يملكها. لقد بقي محبوساً لثلاثة أيام. وعند خروجه وجد أشجار البن قد قلعت ووجد منزله بدون سقف.
* أوائل المتمردين على الشيخ: يعرف محمد كل واحد من الرجال وتفاصيل قصصهم. إنهم أصدقاؤه وهو من يدير بهدوء ثورتهم بأسلوبه. لديه الوقت الكافي لهم، لقد انتظر عدة أشهر قبل أن يشرع في نوفمبر 2006 بتنفيذ فكرته الكبيرة؟ "في ليلة من الليالي اجتمعت بأهالي الجعاشن وقلت لهم إن الآيات القرآنية بين أيدينا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..".
سمع أهالي الجعاشن كلامه فغادروا. كانوا أربعمائة رجل وامرأة هم عبارة عن سبعين أسرة. خرجوا مشياً حتى بلغوا حدود المديرية، وهناك لقيهم رجال الشيخ ليعيدوهم بالقوة. لقد كانوا أول المتمردين على الشيخ وكانت الصدمة الأولى.
عند عودتهم وبّخهم محمد: "اذهبوا بعيداً.. اذهبوا إلى صنعاء".
أجريت اتصالات سرية مع جمعيات ومحامين. ويوماً بعد يوم، وبعد صبر، ها هو الخروج السري يدخل مرحلة التنفيذ. في تلك الليلة، تسلل القرويون في مجموعات صغيرة عبر المنحدرات ليستقلوا حافلات كانت في انتظارهم لتقلهم إلى صنعاء.
بعد عدة أشهر من بقائهم في أرض العاصمة المجدبة، عدة أشهر من التظاهر في صمت، عدة أشهر من محاولة لفت الأنظار إليهم، عادوا إلى منازلهم في الجعاشن وفي جعبتهم بعض الوعود الفارغة. لكن الشيخ ظل هو الشيخ. وأعاد الضابط التحرك منشداً بعض الأشعار:
سنظل نحفر في الجدار.. إما فتحنا فتحة للنور.. أو متنا على عرض الجدار.
لقد دفع الأهالي إلى هجرة أخرى. فغادروا ثانية العام التالي: "الليل، الحافلة، العاصمة، المخيم..
محمد: يوجد مشائخ سلطويون بالتأكيد.. صدقني.. منصور أسوأهم. - أنت تحب شعره؟ - لا.. إنه سطحي. وقف الشرطي. عاد معه "الأعمال الكاملة" للشيخ منصور.
أخذ يقلب الصفحات ويقرأ في الصفحة 677: "التناقضات تغضبني.. إنها تلامس كل شريف.
لو كانت الشمس توزع أشعتها بغير عدالة لقلت لها أغربي. لو كانت السحب تفضل أرضاً دون أخرى لصرخت بها: لا تسكبي. لو كان في الجنة طبقات فسأقول لجهنم البعيدة أقربي.
* قلعة الشيخ في الحبلة يقيم الشيخ منصور. سكنه الحصين محاط بأسوار عالية ومحروس جيداً. من النوافذ يستطيع أن يطل ببصره على مديرية الجعاشن التي يملك فيها ثلاث قلعات أخرى. كل واحدة منها تقع في أعلى تبة ومجهزة بسجن.
لا يزال يحكم، ولا يزال هو السيد، لكن قوته تناقصت. على بعد كيلو مترات تقع قرية الأسيفة وفيها البرهان الواضح على ذلك. منذ رحلتهم إلى صنعاء 2008م يعيش أهالي هذه القرية في سلام. اليوم أعدوا خروفاً مسلوقاً ومتبلاً بالفلفل وبعض الكبزرة. إنهم سعداء: "نحن أحرار الآن". هكذا قال أحدهم، سابقاً كان الرجل الذي يحظى بثقة الشيخ في القرية. وسابقاً كان هو المكلف بجباية الضرائب لسيده. إنه يؤكد أنه "لم أكن أستطيع عمل شيء". "نظلم ثم لا نتقاضى أجراً جيداً". أثناء الغداء رن جرس التلفون. إنه الضابط محمد. لقد كان في قرية أخرى وأراد أن يخبرنا: "لقد جاء الشيخ إلى هنا مع رجاله لأخذ الزكاة لكن الأهالي ثاروا عليه. قد وجهوا ضربة لحراسه. وقد عاد الشيخ ومرافقوه أدراجهم إلى تعز. إذا كنت تريد مقابلته فيجب أن تكون هناك". وكان الشرطي قد قال له "نحن سنضرب المثل والآخرون سيتبعون".
أحد أبناء الشيخ منصور يرد: "أنا عائد من عرس وسأذهب إلى الوالد" هكذا رد عبدالملك. - أريد أن أُسلَّم عليكم. - أنت في تعز؟ تعال.
رفض السائق أن يصطحبني: «لست مستعداً للمخاطرة خطوة واحدة باتجاه مكان إقامته. لا أريد الذهاب إليه، سوف يحرقون سيارتي.
وتحت الرعد والمطر تخلى عني لأواصل مشياً على الأقدام إلى منطقة المجلية المطلة على تعز.
منزل الشيخ الوسيع يقع في رأس تبة. تعتليه قبتان خضراوتان. كله مبني من الحجر والياجور الأحمر. يمتلك الشيخ أربع منازل في تعز مثلها مثل الجعاشن. ويمتلك اثنين في صنعاء والأخير في مصر للاصطياف. في المدخل، وقبل أن تصل سقف البوابة، مجموعة من الحراس منضمون إلى بعضهم من المطر تحت مظلة الحراسة. أشاروا إليّ بالمرور.
كانت الساحة جميلة وتتوسطها نافورة. خمس سيارات مركونة. في الداخل رجال يحملون أسلحتهم رشاش موضوع على القاعدة. الواجهة الرئيسة مغطاة بأوراق رائعة. المجلس مضاء بثريا مذهبة. خمسة عشر رجلاً جالسون للنقاش. سكت الجميع عند طرق الباب. وقف عبدالملك، ابن الشيخ، للتحية.
* اعطه إذن شعرك. إلى الآن لم أكن أعرف الشيخ منصور إلا من خلال بعض الرسومات بالأبيض والأسود في أحد مؤلفاته الشعرية:
صارم، بربطة عنق، وبدلة داكنة، يبدو مذهولاً وفي موقف صادم.
وها هو الآن يجلس متربعاً في زاوية المجلس على مجلس أزرق وبعمامة مزركشة.
المجلس ممتد ومفروش بسجاد سميك مطرز بالورود. صور كبيرة معلقة على الجدران؛ الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أسرة الشيخ، الشيخ مع الرئيس اليمني، ومع الملك السعودي فهد..
وأحياناً الشيخ منصور وحيداً كما في هذه الصورة المأخوذة قبل عشر أو عشرين سنة. يظهر فيها مرتكزاً على إحدى رجليه واضعاً بندقيته على ركبته وصدره مغطى بجعبة ذخيرة متشابكة. كان في لحية مستديرة ليست موجودة اليوم. نظراته لم تتغير: مقطب العينين بنظرات ثابتة لا تتحرك.
بدون أي كلمة، مد الشيخ يده للمصافحة ثم عاد لوضعيته المسترخية.. أحد الرجال يقبل مسرعاً ويسر له بعض الكلمات في أذنه.. أمام كل شخص من الضيوف توضع طفاية السجائر، متفل، ولاعة، قطعة حلوى.. بدأ النقاش. الشيخ منصور يرحب ويدير الحديث. لقد بدأ مع المدعوين بالكلام حول قضية مصنع الاسمنت الجديد في المدينة، ثم أثار مشكلة الجنوب، ثم أحداث المنطقة الشرقية من البلاد، ثم تطرق إلى الخليجي الذي سيقام في عدن. وحوله كان الحاضرون يستمعون، ويدلون ويثيرون النقاط. ابن الشيخ الذي كان يضع في يده خاتماً من الألماس وساعة مثل التي يلبسها أبوه اقترح جلسة قات، ذلك النبات الذي يؤخذ طوال النهار في البلد. قدم لي الشيخ عصير فواكه.
- أحد الضيوف للشيخ: أسمعه إذاً شعرك الآن. - الشيخ: ليس الآن. مرة ثانية.. - لكن نحن ذاهبون إلى صنعاء. - تجاهل الشيخ ولم يرد. -----------------------------
القبائل والاختطافات أكثر من مائتي مختطف أجنبي ويمني خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة.
غالباً ما تجري الاختطافات من قبائل يريدون لفت انتباه السلطات إلى الخدمات الضعيفة في مناطقهم؛ ندرة المدارس والمستشفيات، غياب شبكات الطرق. وآخرون كانوا يقومون باحتجاز موظفي الشركات النفطية للتفاوض بشكل أفضل على بعض الامتيازات؛ تعيين بعض أبناء القبيلة، التنازل لهم عن بعض المعدات، ونادراً ما كان يتم التقطع على الشاحنات في الطرق ونهبها ليعاد بيعها فيما بعد.
الضحية الأول لهذه العلميات هم اليمنيون حتى لو لم نتكلم عن عدد كبير منهم كضحايا اختطاف.
في حادثة اختطاف زوج من الإيرلنديين، ربيع 2008 أعلن بعض زعماء القبائل "بصوت عالٍ" أن كثيرين يدينون -في ذلك الحين بصوت منخفض- ذلك العمل.
ستة زعماء من بني ضبيان في بداية الاختطافات رفعوا أصواتهم: الخاطفون خارجون عن القانون، إنهم يثيرون البلبلة ويشوهون صورة البلد. ذلك الإعلان لم يكن متبوعاً بأي نتائج، وتتابعت لذلك الاختطافات.
شيخ معارض استطاع الشيخ حميد الأحمر أن يحتفظ بدوره كوريث لشخصية محترمة على الدوام هو الشيخ عبدالله الأحمر شيخ اتحاد قبائل حاشد القوي، رئيس البرلمان والمنتمي أصلاً إلى الحزب الإسلامي.
وبعد وفاة والده استطاع الولد أن يصنع لنفسه درعاً كسياسي صلب ورجل أعمال مرموق.
كان تارة يميل إلى التوافق مع حزب السلطة، وأخرى كرئيس للجنة الحوار، غرفة الانتظار لمعارضة قوية ضد الرئيس.
الرجل ذو الأربعين عاماً يصنع لنفسه مستقبلاً سياسياً.
العثور على شعر الشيخ منصور ربما نال الشيخ منصور الحظوة كشاعر رسمي للرئيس، لكن ومع ذلك، فإن تلك الحظوة لم تسهل عليه توزيع مؤلفه، ولم تمنحه النجاح شعبياً.
طُبع شعر الشيخ منصور من قبل مؤسسة التوجيه المعنوي للجيش. المؤسسة التابعة لوزارة الدفاع معتادة على تنميق الخطابات الرسمية وعلى إعطاء ساعات طويلة للاستراتيجية اليمنية للحرب أكثر من اعتيادها على معايرة الأبيات لتوافق المقصود.
الإنتاج الذي صدر عن التوجيه المعنوي (الديوان) وُزّع بواسطة مكتبة 26 سبتمبر القريبة من ميدان التحرير مركز العاصمة صنعاء.. لكن لم أكن محظوظاً عندما ذهبت إليها (المكتبة). لقد قام بائع الكتب بالبحث في كل الزوايا ولم يجد نسخة من ديوان الشاعر. للعثور على ذلك الديوان الثمين يتوجب عليك أن تزور معرض صنعاء للكتاب. هناك ستجد "الأعمال الكاملة" للشيخ منصور تباع بسعر زهيد. طبعة جميلة تحوي 730 صفحة بغلاف أحمر سميك.
بائع الكتب قال لي وهو مندهش قليلاً مما أطلب: "لا أحد يقرأه، ثم إنه نصّاب".