قبل أكثر من عام وتحديدا في شهر فبراير من عام 2008 الماضي نظم نادي رجال الأعمال اليمنيين بالتعاون مع مركز المشروعات الدولية الخاصة التابع للغرفة التجارية الأمريكية "cipe " المؤتمر الأول للحوكمة. القاعة الفخمة في الموفنبيك كانت مليئة بالمشاركين الذين قارب عددهم مئتي مشارك ما بين رجل أعمال ومسؤول حكومي، وإعلامي وكان الإعداد للمؤتمر يرقى إلى مستوى حجم المشاركة خاصة أن مشاركين جاؤوا من منظمة السايب ومن معهد حوكمة في دبي ومن جهات دولية عاملة في اليمن. كثف منظمو المؤتمر الأدبيات التي تشرح مفهوم الحوكمة لعلمهم المسبق بأن غالبية المشاركين من رجال الأعمال لم يسمعوا بهذا المصطلح من قبل ناهيك عن معرفة مدلوله. لكن الوافدين الى القاعة في الغالب دخلوا في أحاديث جانبية ولم يهتموا لتلك الأدبيات معلقين الآمال على الفهم من حديث مقدمي الأوراق أو من قراءة لاحقة يعدون أنفسهم بها. وبعد كلمات المنظمين والراعين بدأ الجالسون على المنصة بقراءة أوراقهم ليتبعها النقاش.. لكن كثيراً من رجال الأعمال حضروا من أجل تسجيل الحضور فقط وكانوا مستعجلين على المغادرة وبالتالي فقد حرص بعضهم على تسجيل حضور أكثر من المشاركة في النقاش والتعقيبات.
وبعيدا عن التفاصيل فإن رئيس مجلس إدارة واحدة من المجموعات التجارية المهمة في البلد قد أخذ دوره في الحديث ليخطب في الناس عن الحكمة، معتقدا أن مصطلح الحوكمة ما هو إلا الاسم الجديد للحكمة التي يفهمها على أنها الحذلقة والفطنة التي على التاجر أن يمتاز بها. دهش الحاضرون وعجز المترجم عن مغالطة الأجانب الذين كانت دهشتهم أكبر بقدرة الرجل على الخطابة في موضوع لم يفهم منه مجرد الاسم. كان الرجل يحاول أن يبدو أكثر قدرة من مقدمي الأوراق على الحديث وبلغة محلية فقد كان يرى في الحكمة كلمة فصيحة سهلة ولا داعي لمغالطة الحاضرين بإضافة حرف الواو إلى كلمة هي من صميم تراثنا الحضاري مستشهدا على ذلك بالآية الكريمة "ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".. صفق له كثير من زملائه بحرارة على اعتبار أنه قد كفى ووفى عن الجميع وغادر معظمهم القاعة بعد انتهاء الجلسة الأولى، ليتركوا المتحدثين الأجانب وأساتذة الإدارة مع نفر قليل من رجال الأعمال يحلمون بتطبيق مبدأ الحوكمة التي يعد تطبيق مبادئها شرطا رئيسا لإنشاء سوق الأوراق المالية.
الندوة التي كان مقررا استمرار جلساتها لمدة يومين اختصرها المنظمون في يوم واحد واستمرت حتى الثالثة عصرا.. واستمر نادي رجال الأعمال الذي يمسك بملف الحوكمة في اليمن يواصل فعالياته وينظم لقاءات للجنة الحوكمة التي يرأسها أحمد بازرعة رئيس مجلس إدارة بنك اليمن البحرين الشامل ورئيس النادي بغرض إقرار برامج للتوعية بمفهوم الحوكمة والتهيئة لتطبيق مبادئ الحوكمة في الشركات اليمنية.
ولأن أهم مبادئ حوكمة الشركات تتلخص في "حماية أصحاب الأسهم، والتمسك بأخلاقيات وسلوكيات تمارس مع الموظفين، والمساهمين، والمجتمع، وتشجيع الإفصاح المالي والشفافية في صناعة القرار، وإنشاء مجلس الإدارة المخول لوضع استراتيجية الشركة وإدارة المخاطر، وضمان أن أعضاء مجلس الإدارة والمدراء مؤهلون ويعملون لمصلحة الشركة، بالإضافة إلى الفصل بين الملكية والإدارة" فإن التفاصيل تجعل الحوكمة غير ذات أهمية و"مش وقتها" في واقع يمني تبدو فيه الشركات العائلية هي الحاضر الأكبر في المشهد الاقتصادي. كما أن واقع الشركات اليمنية الذي يفتقر لأبسط أساسيات الإدارة وأمية القائمين عليها والمزاجية والعشوائية التي تجعلهم عاجزين عن التعامل مع "الضريبة العامة على المبيعات" يجعل تطبيق مبدأ الحوكمة أكثر استحالة.
الاثنين الفائت بدأت الدورة التأهيلية الأولى لرجال الأعمال على مفهوم الحوكمة والتي استهدفت 32 رئيس وعضو مجلس إدارة بنوك وشركات يمنية، بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، ومبادرة الشرق الأوسط التابعة لوزار الخارجية الأميركية، ومركز المشروعات الخاصة التابع لغرفة التجارة في واشنطن والاتحاد العام للغرف التجارية والصناعية في اليمن. حشد كبير من المتعاونين جمعوا بغرض جمع أكبر قدر من الدولارات التي بات القطاع الخاص في بلادنا ومنظماته يسابق منظمات المجتمع المدني على استدرارها من الأجانب. وإذا كانت منظمات المجتمع المدني تنسق مع كل تلك الأطراف المانحة بسبب عدم وجود رأس مال محلي داعم، فإن القطاع الخاص والمؤسسات التي تقوده نهجت ذلك المسلك لأنها وجدت فيه طريقا سهلا لتوفير أكبر قدر من الأموال تكفيها إنفاق أي مبالغ على مؤسساتها وهذا ما يقوم به تماما "نادي رجال الأعمال اليمنيين" المؤسسة التي تقدم نفسها كبديل محترم وفاعل للغرفة التجارية والاتحاد العام للغرف التجارية.
وبحسب مشاركين فإن قناعة المانحين والممولين لهذه الفعاليات تتعزز يوما بعد يوم بعدم جدية منظمي هذه الفعاليات خاصة وأنهم لم يلاحظوا أي تقدم في الوعي على هذا الصعيد.. ويصر رافعو لواء الحوكمة على تقديم أنفسهم كنموذج متقدم لمؤسسات القطاع الخاص اليمني والأقرب الى تنفيذ هذه المبادئ، بينما هم في الأساس جزء من الشركات العائلية الغارقة في المبادئ النقيضة لما تهدف اليه الحوكمة، فلا تزال بعيدة عدة عقود عن الفصل بين الملكية والإدارة، والشفافية، وافتقار أعضاء مجلس الإدارة والمدراء الى التأهيل والكفاءة. وإذا كان نادي رجال الأعمال يدير أنشطته وفعالياته بتكتم شديد لدرجة أن ثلاث دورات انتخابية أجريت لم تدع إليها أي من وسائل الإعلام، بالإضافة إلى أن الدورة المنعقدة مؤخرا كانت بعيدة جدا عن الصحافة. وبالتالي فإن رجال أعمال لا يستطيعون تمثل مبدأ الشفافية في هذه الجوانب العادية، سيكونون بالتأكيد أبعد عن الشفافية فيما يتعلق بالأرقام المالية والحسابات السنوية، ومقدار ما يتحقق من الربح والخسارة كل عام.
ليس هذا فحسب لكن معظم من ينادون بهذه المبادئ لا يزالون يعيشون عقودا سابقة ولم يتخلصوا بعد من عقلية صاحب الدكان.. كما أنهم متهمون رسميا – كما جاء على لسان رئيس مصلحة الضرائب في تصريحات صحفية- بإفساد محصلي الضرائب والجمارك، من أجل الاستمرار في التهرب الضريبي والجمركي، ولا يتوانون عن عقد صفقات فساد مع أطراف حكومية ومنح عمولات بغرض تحقيق المزيد من الأرباح. كم كان أحد رجال الأعمال صادقا وشفافا عندما اعترف في حديث جانبي بأنه لا يستطيع أن يعمل الا في الظلام بعيدا عن أعين الجميع، مؤكدا أنه يتمثل ذلك التزاما بوصية والده الذي قال له "يا ولدي اشتغل في الظلام، وخليك في حالك".