بدا اليمن الرسمي مرتبكا بصورة كبيرة إزاء التطورات التي ارتبطت بالطرود المفخخة التي يتهم تنظيم القاعدة بأنه صدّرها انطلاقا من أراضيه، وردّة فعل الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الغربية إزاءها. فرئيس الحكومة علي مجوّر صرح بأن تنظيم القاعدة "صناعة غربية بدرجة رئيسية ولم يكن على الإطلاق صناعة يمنية" كما يروج البعض، ووزير الخارجية أبو بكر القربي اتهم المجتمع الدولي بمعاملة بلاده "بصورة غير عادلة" بسبب "جرائم قلة من الناس"، واستنكر إجراءات حظر الشحن ضد بلاده، وما تقوم به وسائل إعلام دولية من تصوير اليمن: "بأنه خارج عن السيطرة بشكل كلي"، واضطر لعقد مقارنة بين بلاده وبين بلاد محتلة كأفغانستان والعراق ليثبت أنها " أكثر أمنا" منها.
فيما ألقى وزير الداخلية مطهر المصري الكرة في ملعبه أطراف عربية ودولية حينما أكد أن المنتمين لتنظيم القاعدة في اليمن "ليسوا من مواليده، وإنما ولدوا وترعرعوا في دول أخرى ثم جاؤوا إلى اليمن ليمارسوا الإرهاب" فيه.
كثير من الكلام الذي ورد فيه وجاهة وإن كان قد جاء بصيغة الدفاع عن النفس، ودفع الاتهامات الموجهة ، ولعل سبب الارتباك الحقيقي كما يرى مراقبون يتلخص على المستوى الاستراتيجي في خشية الأجهزة اليمنية من أن تتحول الحرب على " القاعدة" من ورقة بيدها تستمد من خلالها ثناء المجتمع الدولي كشريك في "مكافحة الإرهاب"، إلى ورقة ضدها قد تطيح بحظوّتها لدى الغرب، وترفع عنها غطاء دعمه لها، خصوصا في مواجهة خصومها سواء : الحوثيين أو الحراك الجنوبي أو المعارضة ( أحزاب اللقاء المشترك) ، الذين يدخلون في مواجهات مسلحة أو سياسية ساخنة معها منذ سنوات، مع ما يسببه ذلك من متاعب جدية لها، فضلا عن تحديات الفقر والبطالة والفساد التي تجعل الجماهير عموما ناقمة عليها.
وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عن السبب الرئيس، وهي أن اليمن قد تكون عرضة لمزيد من الضغوط وتقديم سيل جديد من التنازلات للولايات المتحدة في إطار حربها ضد إرهاب " القاعدة"، الأمر الذي سيزيد من حدة السخط الشعبي المتصاعد عليها، سواء في مناطق النفوذ القبلي التقليدية في الشمال أو المناطق الجنوبية الساخنة أصلا.
وفي هذا الصدد تعهد الرئيس الأمريكي أوباما بعد موجة الطرود المفخخة بالعمل على تدمير القاعدة في اليمن، وهي المرة الأولى التي يرد فيها مثل هذا المصطلح في الخطاب الأمريكي في عهد الإدارة الحالية، مما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن هذه إشارة إلى تدخل عسكري من نوع ما. كما ألمح مسؤولون عسكريون إلى ضرورة وضع بعض فرق من القوات الخاصة الأمريكية تحت السيطرة العملاتية لوكالة الاستخبارات الأمريكية " سي آي إيه" ، حيث ذكرت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور مؤخرا أن أميركا تدرس حاليا إجراءات تصعيدية في اليمن، بما في ذلك قوة ضاربة تديرها الاستخبارات المركزية ، وهذه التدخلات تتمثل في ضربات الطائرات بدون طيار أو القيام بعمليات تدخل خاطفة وغيرها.
وسواء تم ذلك بضوء أخضر من الحكومة اليمنية أو بدونه، فإن هذا المنحى خطير لأنه يتعلق بانتهاك السيادة الوطنية برأي القوى الوطنية والحزبية اليمنية، وقد يتسبب في مقتل مدنيين، كما حدث في مرات سابقة، وهو ما يؤدي إلى تدهور سمعة الحكومة المركزية وارتفاع شعبية " القاعدة" خصوصا، وقوى المعارضة عموما.
وإذا كان من غير المقبول إنكار حقيقة النفوذ المتعاظم لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي اتخذ من اليمن منطلقا لعملياته ونشاطه في السنوات الأخيرة، أو إنكار "الطرود الملغومة" من أصلها بعد أن اعترف التنظيم بنسبتها إليه ، كما اعترف بدوره في محاولة تفجير طائرات في الجو من قبل، فإنه ليس مستهجنا أبدا التفكير والتمحيص في الادعاءات الأمريكية حول حقيقة حجم "القاعدة" وفحص ما تنسبه إليها في إطار الحراك المخابراتي وماكينة الدعاية الإعلامية التي تتحرك في ظله، فقد سبق أن زعمت بوجود أسلحة دمار شامل في العراق وخاضت حربا ضده واحتلته تحت هذا الادعاء، ليتضح فيما بعد زيف هذه المزاعم على مرأى ومسمع العالم.
كما لم يعد خافيا كيف تم استغلال " القاعدة" من قبل اليمين الأمريكي في عهد ولايتي الرئيس الأمريكي السابق بوش وتضخيم هذا الدور، وخلط الأوراق لإدارة حروب ضد الإسلام بكامله والتخويف منه، وإلصاق تهمة الإرهاب به، وعرقلة العمل الإغاثي والخيري على مستوى العالم، وتشجيع النزعات العنصرية ضده بشكل مباشر أو غير مباشر لاسيما في الغرب.
بناء على ذلك لم يكن مستغربا أن يشكك بعض الكتّاب اليمنيين من الأساس بالطرود المفخخة، ويستغرب آخرون إثارة هذه الضجة حولها ويضعوا كثيرا من علامات الاستفهام حول توقيتها، خصوصا الانتخابات الأمريكية الأخيرة وتردي شعبية الديمقراطيين فيها.
كما أن الكثير منهم ومن المراقبين يدركون أن ثمة تركيز لواشنطن ما انفك على ملف " القاعدة" ، على حساب إغفال التحديات الأخرى التي تواجه اليمن أو التهوين من شأنها رغم أن وزن خطورتها أكبر، كالحرب ضد الحوثيين ومشكلة الحراك الجنوبي واحتمالات انفصال الشطر الجنوبي، لاعتبارات أمريكية صرفة، حتى وإن جاء ذلك على حساب اليمن وأمنه واستقراره .
وبموازاة ذلك يمكن رصد تنصل الرئيس أوباما من وعوده التي أطلقها في حملته الانتخابية أو عند بدء ولايه الرئاسية ، فهو لم يقم على سبيل المثال بإغلاق معتقل "غوانتنامو" سيء السمعة، كما أنه استمر هو وإدارته في الانحياز للكيان الصهيوني على حساب الفلسطينين، وتراجع عن شرطه بضرورة إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان قبل مباشرة المفاوضات بين الطرفين، كما لم تشهد هذه الفترة تحسنا في العلاقات بين بلاده ودول العالم الإسلامي، أو تصحيح الصورة الذهنية والسمعة السيئة للولايات المتحدة لدى الشعوب العربية والإسلامية والتي وصلت إلى أدنى مستوياتها في عهد سلفه بوش، كما كانت هذه الدول والشعوب تؤمل ، إلا فيما ندر.
ويبدو أن العامين المتبقيين من حكم أوباما سيشهدان إعادة إحياء ملف القاعدة ومكافحة ما يسمى "الإرهاب"، وزيارة أوباما الأخيرة للهند بكل ملابساتها وما أطلقه خلالها من تصريحات، رغم طابع الزيارة الاقتصادي، خير شاهد على ما نقول.