لا أحد يشعر بالأمان في صنعاء، لذلك لا أحد من صنعاء. حتى الذين أمضوا فيها أكثر من نصف قرن لا يزالون من الحيمة أو من خُبان.. وكلهم يتساءل: من أين الأخ؟ مدينة يعيش فيها ملايين العابرين لا يشدهم إليها غير الحاجة، ويغادرون بيوتهم صباحاً بمشاعر تلك المقولة الشهيرة لفوينتس: عندما تغادر بيتك تبدأ التوغل في أرض الأعداء.
.. ولا يبدو أن أحداً يطمئن للمدينة.
الجيران فكرة بقيت في صنعاء القديمة، ولم تغادر خارج السور المحاط بملايين البشر المتوجسين من بعضهم في العمارات وحارات الشوارع الخلفية، مستميتين في إخفاء رائحة خوفهم من بعض.
يذهب الحُجَرِي إلى دكانه في شارع جمال وفي ذهنه تهديدات عشرات النخاطين، حيث ترك عائلته ليعمل مشتتاً ويعود أواخر المساء بتلك العدوانية التي تجتاح رجلاً تأخر على زوجته.
في وسط غير منسجم كهذا، تغيب فكرة المدينة، ولا يمكنها أن تنشأ بين جموع الغرباء المنهمكين في التشبث بجذورهم. تلك هويتهم ومبعث اطمئنانهم لفكرة الانتماء والنُّصرة، إذ لا أحد من الحَصبة، ولا أحد مطمئنا لحماية الشرطة أو القانون مثلاً، لذلك يتصرف مثل كائن غابة متوحد يقتنص لقمته من أحراش مليئة بالمخاطر.
جيراني من تعز والمحويت تورط أحدهم في خلاف مع أناس من الحيمة. كان التعزي الآخر قد تمترس مع صاحب بلاده ليس بكلاشنكوف خرج به إلى باب العمارة مثلاً، وإنما بجملة تحذيرات ساخطة وشتائم ضعيف أكثر خبرة وحذاقة من ضعيف آخر لا يدري ما الذي يورط نفسه فيه. علاقة توجس حتى بين غرباء البلدة الواحدة ذاتها.
تنقلت في 3 أماكن منذ قدمت صنعاء أواخر التسعينيات؛ لم أحظَ بفكرة الجيرة، ولم أقل يوماً إنني من بستان السلطان. وكنت ولا أزال أحاول السير على إيقاع المدينة، فقد أرهقتني فكرة تذكر البلاد، ولم أتخلص من إلحاح فكرة العودة إلا مؤخراً.
منذ اليوم الأول لوصولي صنعاء لا يزال ذلك الشعور يراودني؛ وأنا في شارع تعز ألتفت للعفش في صندوق الهايلوكس كمن يطمئن، أو بالأحرى يتأكد من كمية مخاوفه أثناء وصوله للعيش في دغل. حتى إن العمارات بدت لي أكثر ارتفاعاً مما هي عليه الآن.
وكلما اشتريت أثاثاً جديداً، شعرت بالورطة أكثر.. كان الأثاث الإضافي يعني تضاؤل إمكانية العودة إلى البلاد، ويعني أني رجل يوغل قدمه أكثر وأكثر في الفخ.
يحصل الناس عادةً على تأكيدات لتوجساتهم في مدينة كصنعاء، من خلال طبيعة أعمالهم أو الاهتمامات؛ إذ يتأكد للتاجر القباطي كم أنه محق في عدم اطمئنانه للمدينة من خلال أول طلقة نار تمر إلى جوار أذنه أثناء تسوير أرضيته، ويتأكد بيت الأحمر أنفسهم من صواب خوفهم من صنعاء، رغم مئات المقاتلين المحيطين بقصر الشيخ، أثناء سقوط أحد أقاربهم قتيلاً على باب وزارة الداخلية. ناهيك عن أن صنعاء مليئة بأصحاب بكيل، وفيها ذكريات منغصة كإبراهيم الحمدي. أما أنا فأتأكد من صواب وهني في صنعاء من خلال مقولة لإيزابيل أليندي: لا شيء ينال من صلابتك الداخلية مثل شعورك الدائم بكونك عابراً.
ثمة ما يبقي أهل صنعاء حذرين، وعلى أهبة الاستعداد. والمدينة ليست على مقاس أحد، ولا تصلح لتشييد ذكريات.
حياة لا تخص أحداً غير التاريخ والحضارة ربما باعتبارهما التفسير الرسمي المهذب لطلب الرزق في مكان خطر.
وجميعاً نفكر في صنعاء القديمة، ونكره ما نظنه عدم قبول سكانها الأصليين بنا، ونتجول كمستشرقين في مكان لا يخصنا، ذلك أن الغرباء غالباً ما ينتمون للتاريخ أثناء تبادلهم مسؤولية نقل تسعة أعشار الرزق إلى مكان واحد غير آمن.
هل أفسر عدوانية أصحاب التاكسيات وحدة الأطفال على هذا النحو. وأذكر مثلاً أن كلاب حارة الصيانة لم تتعرف إلي رغم 5 سنوات من المرور بين كلاب لا تحمي أحداً ولا تنبح على أحد أو تصاحبه كما في القرية.. أظن طبع كلاب المدن هكذا، غير أن أحدنا يحلم دائماً، أثناء فقدانه المستوى الملائم من العلاقة بالمكان، بالحميمية مع تفاصيل المكان الذي قدم منه. ويفكر بتلك الطريقة المعروفة في عاطفة المكان. وقد يأخذ نمط تفكيره ذات السياق إذا ما كان من أولئك المشتغلين بالأدب، أو مقاربات الأفكار، إذ ينحاز أثناء عيشه في مدينة مثل صنعاء، إلى مقولات الجذور وسكينة وحيوية البداءة.
من يدافع إذن عن الحداثة في صنعاء، وهو لا يملك المكان، ربما يقترح جداريات من نوع ما، أو يرسم لوحة فيها مقرمة صنعانية، وأخرى لباب اليمن، وينخرط آخر الأمر في هذا الإلحاح الجماعي على استخلاص موقف أو قائمة تصنيف الأخلاق المناطقية.
إنها كراهية جماعية صامتة لمكان تورط فيه الجميع بدون أسباب واضحة إلى الآن.
كنا نطلع من إب وأسمع أحدهم يذكر "شارع" مازدا فأشعر بارتياب القروي، ويحضرني السواقون وتلك الثربات الجلدية للإطارات الخلفية للسيارات، وانطباع بالمرفالة. أضواء خافتة وزيوت وقطع غيار غالية، ولم يخطر لي البتة أن حياة مسؤولة فيها عوائل وعقال وخالات مثلاً يمكنك أن تجدها في شارع مازدا. كنت أيامها قد انضممت حديثاً لتدين الإخوان المسلمين، ولا أدري لماذا اعتبرت شارع مازدا عملاً منافياً لما قد انضممت إليه مؤخراً من تدين ومصاحف وحسن سيرة، لكنني سكنت مؤخراً قريباً من شارع مازدا. لا أنا عدت متديناً كما كنت، ولا الشارع احتفظ مما كنت أظنه من مرفالة الماضي، حتى إن في الشارع أناساً مهمومين بتربية أطفالهم، وحسن الخاتمة.
لم أصادف وكالة قطع غيار لهذه الماركة من السيارات، ولم أصادف زيوتاً أيضاً.. الإضاءة عادية، أصحاب الدكاكين يعانون المتاعب (ما من مرفالة في الأرجاء)، حتى إن هذا الجزار الذي يعدني كلما ذهبت إليه أن يقطع لي من لحمة ساعده، بدا لي ساذجاً حد الاطمئنان أن لديه أحلاماً بالستر والعافية، وهو في الأصل من وراف، ويتمنى أن يصاهر أناساً طيبين يخطب منهم لابنه الذي يدرس في الجامعة.. الجزار جعل الحياة في شارع مازدا أكثر إمكانية.
كنت أظن هكذا: لا أحد يمكنه أن يذهب إلى الناس ويقول لهم أريد أن أصهاركم وأنا من شارع مازدا.
سائق التاكسي الذي تعرفت عليه مؤخراً، وهو روفل بالفعل، ويعمل في شارع مازدا، غير أنه من الماضي، من ماضي صنعاء كلها، أيام كان يتجول بسيارته الجبّان القديمة، مثبتاً صورة سميرة توفيق على الزجاج الأمامي. أما الجزار فهو لم يعد يحب وراف، وأظنه من ذلك النوع من بشر بوسعهم الانتماء للأمكنة التي يجدون فيها قدراً معقولاً من الكرامة. وفكرت هكذا في نظرية في الانثربولوجيا: أيمكن للناس الأقل ولاءً للجذور أن يكونوا مستقبل اليمن المدنية؟
تعرفت مؤخراً إلى بائع الدسكات، عادي أيضاً لا ينتمي لجذور، ولا يحلم بالعودة، ولم يشارك عمه في فك الحصار عن صنعاء، لذلك لا يطلب شيئاً أكثر من معرفة النسخ المقلدة من الأفلام والترجمات الرديئة، ومشاطرتك الإعجاب بروبرت دي نيرو.
ويبدو أن حياة غير التي افترضتها مسبقاً بدأت تنشأ في شارع مازدا. إذ لم يكلف الجزار أو صاحب الدسكات نفسيهما عناء الحفر المعرفي في مفاصل الهوية وبهلوانيات الأدب، مثل ربط مازدا بالسواقين وقطع الغيار. إنهما فقط يحاولان العيش دون أن يحاول الجزار مثلاً لعب دور رجل المنفى الذي بحث عن أكثر شارع تعتبره وراف والقبائل "شارع قليل أصل"، ووجد ملاذه فيه. كل ما هنالك أن الحياة غالباً ما تجد طريقتها في التعبير.
وكنت اقترحت مسبقاً عتاباً للأصدقاء والأدباء الرومانسيين، لكونهم لم يتمكنوا من إنجاز تلك الغنائية المتداولة في العالم العربي بشأن الشوارع والأزقة، وكيف أن لا أحد منهم يقول مثلاً: في جولة كنتاكي كانت لنا أيام. مع أنهم يشربون الشاي بالحليب كل مساء في جولة كنتاكي.
يربط المثقفون صنعاء بالقبائل، وكأن القبائل حجة كافية لهذا الأسلوب في معاملة المدينة، لكأنه ضرب من الاحتيال الضروري يتعلمه السجناء أثناء سنواتهم القسرية، لكأنما نعاقب صنعاء عقابنا لمن لا يفهم ويملك موارد ميتافيزيقية لا يستحقها، نوع من التعاطي مع غبي محظوظ يعتقد أن سلطاته محل شك، فنشأت تلك القطيعة، وأصبح الجميع مراكز قوى في مدينة رضخت آخر الأمر لواقعية أحقاد المجموعات المتباينة.
تعلمت مؤخراً كيف أعيش في المدينة بطريقة أكثر بساطة، إذ لم أعد أشترط الامتلاء للانتماء تماماً، غير أن خارطة صنعاء أصبحت على مقاسي. تعلمت كيف ألقي تحية المساء على صاحب الفرن في آخر شارع مازدا، والتساؤل عن برميل القمامة في حارة سلاح الصيانة، وسؤال من نوع: لماذا لا تهتم السلطات بالحارة؟ دون أن أغفل بالطبع الاتصالات بمشائخ وأعيان الدائرة 83 لمتابعة مسألة ترشيحي في الدائرة. ها هي الانتخابات تحول الجذور إلى رقم (83).
تعمل الحياة على جعل المكان الذي تعيش فيه حارة. يتطلب الأمر قدراً من محبة الحياة لنقول أخيراً: أنا من حارة في صنعاء.