لن يقبل صالح مبادرة المشترك الأخيرة لنقل السلطة.. سيعتبرها خوفا منهم بعد أن رأوا "طوفانه البشري الذي أغرق العاصمة الجمعة" -حسب إعلامه الرسمي. بل زادته غرورا وغيا، فقد اشترط إنهاء الاعتصامات وانشقاق علي محسن والعسكريين الذين معه قبل بحثها، على أن تكون في إطار دستوري وهو ما يقصد به "خروج" عبر انتخابات.. في لقاء مع مناصريه السبت. مع أن المتابع للمشهد السياسي يدرك أن المبادرة ليست موجهة له في الأساس، فهي في مضمونها لا تختلف عن النقاط التي كان قد توصل إليها في منزل النائب "عبدربه هادي" بحضور السفير الأمريكي، وكان صالح قد تراجع عن قبولها.. هي لا تقدم جديدا في ذلك السياق. أعتقد أنها موجهة للأصدقاء والأشقاء من أمريكيين وأوربيين وسعوديين، وتنسجم مع رؤيتهم لانتقال آمن ودستوري للسلطة، وربما كانت بطلب منهم أيضا، غير أن المشترك بهذه الخطوة يكون قد رمى بكرة الضغوط الدولية في مرمى "صالح"، وجرده من تبرير أن المعارضة لا تمتلك رؤية لانتقال السلطة وإنما الرحيل والفوضى. إن تكن من حسنات لمبادرات المشترك ومفاوضاته مع السلطة، كالتي تمت في منزل "عبدربه"، فهي تلك.. حيث تظهره للأصدقاء والأشقاء وللداخل أيضا كطرف متسامح يستجيب للحوار، وأنه يمتلك رؤية لانتقال آمن ودستوري للسلطة.. إلا أنها لا تخلو من مساوئ أيضا.. فظهور المشترك كمفاوض في منزل النائب عبدربه منصور هادي، ربما فهم منه الرئيس أن المشترك من يتحكم ويسيطر على الاعتصامات بالساحات، ولأنه يعرف قيادات المشترك وطريقة تفكيرهم، ربما اطمأن إلى أنهم لن يقدموا على خطوة الزحف على القصر، كان خوفه ممن يجهلهم في الساحات.. ذلك ما يبدو أنه شجعه على التشبث بالسلطة. كما أن تقديم المشترك للمبادرة الجديدة، بعد الاستقواء الواضح للرئيس بالحشود التي جمعها في السبعين الجمعتين الماضيتين، ربما تعطيه انطباعا أن حشوده قد بثت الرعب في قلوب المعارضة وأنها بالمبادرة تريد حفظ ماء وجهها، وهو ما أعتقد أنه سيدفعه للعناد والمزيد من المراهنة على فكرة الحشود. والمبادرة عموما لا تخلو من الملاحظات عليها بما أنها تمثل رؤية المعارضة الرسمية لانتقال السلطة، كان متوقعا أن تبدو أفضل مما هي عليه. نقاط المبادرة: أولاً: يعلن الرئيس تنحيته عن منصبه، وتنتقل سلطاته وصلاحياته لنائبه. ثانياً: يقوم النائب فور توليه السلطة بإعادة هيكلة الأمن القومي، والأمن المركزي، وكذا الحرس الجمهوري، بما يضمن تأديتهم لمهامهم وفقاً للدستور والقانون تحت قيادات ذات كفاءة ومقدرة بمعايير وطنية ومهنية بعيداً عن معايير القرابة والمحسوبية وتخضع لسلطة وزارة الداخلية، ووزارة الدفاع. ثالثاً: يتم التوافق مع الرئيس المؤقت (النائب سابقاً) على صيغة للسلطة خلال الفترة الانتقالية تقوم على قاعدة التوافق الوطني بحيث يتم التالي: 1- تشكيل مجلس وطني انتقالي تمثل فيه كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي وشباب الساحات ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني والمرأة على أن يشمل كل مناطق اليمن . ويتولى بصورة أساسية: أ- إجراء حوار وطني شامل تشارك فيه كافة الأطراف السياسية في الداخل والخارج دونما استثناء وتطرح فيه كافة القضايا على طاولة الحوار للخروج بحل لكافة القضايا ومنها القضية الجنوبية، والتوصل إلى رؤية للإصلاحات الدستورية الكفيلة بتحقيق الحريات السياسية والثقافية وبناء الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة بنظام لا مركزي مع تطوير النظام السياسي على قاعدة النظام البرلماني والأخذ بالقائمة النسبية. ب- تشكيل لجنة من الخبراء والمتخصصين لصياغة مشروع الإصلاحات الدستورية في ضوء نتائج الحوار الوطني الشامل . 2- تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة تترأسها المعارضة وتمثل فيها أطراف العمل السياسي وشباب الساحات ورجال الأعمال، وتتولى إضافة إلى مهامها الدستورية تسيير الأمور وتصريف الأعمال، وتثبيت الوضع الاقتصادي والمالي، والحيلولة دون المزيد من التدهور في كافة المجالات. 3- تشكيل مجلس عسكري مؤقت من القيادات العسكرية المشهود لها بالكفاءة والنزاهة وتحظى باحترام وتقدير في أوساط الجيش، بحيث تمثل في المجلس كل تكوينات القوات المسلحة ، ويشرك فيه ممثلون عن المقاعدين قسرياً بعد حرب 1994 ، وذلك بصورة تجسد وحدة ووطنية هذه المؤسسة لتقوم بدورها وواجباتها الدستورية باعتبارها "ملك للشعب كله ومهمتها حماية الجمهورية وسلامة أراضيها وأمنها" بالإضافة إلى مهمتها المؤقتة في حماية ثورة الشعب السلمية ، والحفاظ على الأمن والاستقرار وصيانة كيان الدولة. 4- تشكيل لجنة عليا للانتخابات والاستفتاءات العامة تتولى: - إجراء الاستفتاء على مشروع الإصلاحات الدستورية. - إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بحسب الدستور الجديد. 5- التأكيد على حق التعبير السلمي وحرية التظاهر والإعتصامات السلمية وغيرها لجميع أبناء اليمن ، ويتم التحقق في الاعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون في كافة الساحات وعلى وجه الخصوص مجزرة عدن وصنعاء وأبين وغيرها من الحالات التي استخدم فيها الرصاص الحي والقنابل الغازية وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة ، وتعويض الجرحى والمعوقين وأسر الشهداء. الملاحظات: 1- لا تقدم الرؤية جدولاً زمنياً للفترة الانتقالية، كما أنها لا تقدم شكلا واضحا لمن يمارس الصلاحيات الدستورية الكبيرة الممنوحة لرئيس الجمهورية في الفترة الانتقالية.. فهي في البند "أولا" تنص صراحة على انتقال سلطات وصلاحيات الرئيس لنائبه، إلا أنها تتراجع عن ذلك في البند "ثالثا" الذي نصه "يتم التوافق مع الرئيس المؤقت (النائب سابقاً) على صيغة للسلطة خلال الفترة الانتقالية تقوم على قاعدة التوافق الوطني". وهذا البند "ثالثا" مطاط وغير واضح ولا يمكن تحديده، فهو لم يحدد ما هي تلك الصيغة التوافقية، أو من هم الذين يحق لهم التوافق حيالها، أو كيف يمكن قياس ذلك التوافق، أو ما هي تلك الجهات التي قد تتقاسم مع الرئيس المؤقت الصلاحيات، أو ما هي تلك الصلاحيات بالضبط. أعتقد أن ما جاء في البند "ثالثا" من الأهمية الكبيرة أن يكون البند "ثانيا" حيث أن التراتبية الطبيعية بعد تسلم النائب الرئاسة المؤقتة تستوجب تحديد صلاحياته الدستورية بما أنهم يرغبون في التوافق معه على صيغة توافقية لممارسة السلطة، كما أنه من الواجب أن تكون تلك الصيغة واضحة ومحددة من الآن.. فهي كما وردت في البند مطاطة ولا يمكن التوافق حيالها، وستشكل مشكلة حقيقية مع الرئيس المؤقت. 2- البند "ثانيا" يقوم النائب فور توليه السلطة بإعادة هيكلة الأمن القومي، والأمن المركزي، وكذا الحرس الجمهوري، بما يضمن تأديتهم لمهامهم وفقاً للدستور والقانون تحت قيادات ذات كفاءة ومقدرة بمعايير وطنية ومهنية بعيداً عن معايير القرابة والمحسوبية وتخضع لسلطة وزارة الداخلية ووزارة الدفاع".. وكما هو واضح من هذا البند وترتيبه ثانيا أنه يستهدف معالجة مشكلة وجود أبناء الرئيس وأبناء إخوته في تلك الأجهزة الأمنية والعسكرية مباشرة بعد تنحيته، إلا أن مشكلة الجيش والأمن أكبر من ذلك بكثير.. وهو ما يتطلب إعادة هيكلة شاملة لكل الجيش والأمن وإعداد قانونين خاصين بهما. فمشكلة الجيش ليست أبناء وأقارب الرئيس فقط، وإنما في افتقاده للوضع المؤسسي والوطني بشكل عام، أعتقد أن مشكلة بهذا الحجم كانت تتطلب النص على وجود لجنة وطنية للقيام بتلك الهيكلة وإعداد قانوني الجيش والأمن، في الفترة الانتقالية، وليس بالشكل الذي ورد في رؤية المشترك التي تعكس قصورا لديه في الوعي بالمشاكل الحقيقة للبلد والقدرة على معالجتها. كما أن الفقرة "3" في البند ثالثا والتي تنص على تشكيل مجلس عسكري مؤقت يتناقض تماما مع المهمة التي أوكلوها لنائب الرئيس بشأن إعادة هيكلة الأمن القومي والمركزي والحرس الجمهوري وتبعيتهما لوزارتي الدفاع والداخلية. أعتقد أن النص على "مجلس عسكري مؤقت" فكرة مرتجلة، ولا تخدم بأي شكل من الأشكال التحول الديمقراطي، وتفهم على أنها إرضاء لبعض الأطراف التي انضمت للثورة، كما يبدو إقحام المقاعدين قسريا في تشكيلته تسوية لمشكلة حقيقة في الجنوب في غير محلها، على طريقة التحكيم القبلي ولا تختلف عما كان يفعله صالح. وإلا فالنص على وجود هيئة أركان للجيش حقيقية ومستقلة ومحايدة كافية بالغرض لتلك المهام التي ذكروها لهذا المجلس العسكري، وبالمرة تساعد في إعادة هيكلة الجيش وبناء مؤسسة عسكرية حقيقية وطنية ومستقلة، تستوعب كل العسكريين بما فيهم المقاعدين قصرا في الجنوب، فالتبرير للمجلس العسكري باستيعاب أولائك المقاعدين فكرة سمجة وركيكة. 3_ في الفقرة "1" من البند ثالثا بشأن المجلس الوطني الانتقالي وملحقاته "أ" و"ب" بشأن الحوار الوطني والتوصل للحلول للقضايا الوطنية بما فيها "القضية الجنوبية" والتوصل للإصلاحات السياسية لتشمل بحسب الفقرة (أ) "نظام لا مركزي مع تطوير النظام السياسي على قاعدة النظام البرلماني والأخذ بالقائمة النسبية". ومن هذه الفقرة يتضح أن أطراف المشترك رحلت مشاكلها الداخلية بالنسبة للقضية الجنوبية وتصورهم لطبيعة الدولة والنظام السياسي إلى المرحلة الانتقالية للحوار حولها، حيث يبدو واضحا أنهم لم يحسموا أمرهم بشأن طبيعة الدولة فيما يتعلق ب"اللامركزية" التي يتفقون حولها عموما في وثيقة الإنقاذ، ولم يحسموا ولازالوا شكلها هل تكون "فيدرالية"؟ وإن كانت على كم أقاليم؟ أم يكتفون بحكم محلي كامل أو واسع الصلاحيات فقط؟ أعتقد أن هناك خلافا عميقا فيما يتعلق حول هذه المسألة. ستكون مهمة صعبة حسمها في المرحلة الانتقالية. كما أن لفظة على "قاعدة نظام برلماني" وفقرة "إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بحسب الدستور الجديد"، يعطي انطباعا وشكوكا عن أن ثمة تراجعاً عن النظام البرلماني وطرحه على الحوار الوطني، مع أنه محل اتفاق في وثيقة الإنقاذ الوطني الصادرة عن المشترك وشركائه. في العموم يتضح من المبادرة أن ثمة خلافات عميقة حول طبيعة شكل الدولة والنظام السياسي، قررت أطراف المشترك ترحيلها للحوار حولها في المرحلة الانتقالية، وهو ما يفهم منه أن الرأي الذي يريد معالجة كافة القضايا في المرحلة الانتقالية هو من تغلب، إلا أن ذلك يحمل المرحلة الانتقالية مهمات صعبة وحساسة ومن الخطورة بمكان أن تعالج في مرحلة انتقالية وفي دولة هشة مثل اليمن. 4_ تغفل المبادرة إصلاحات مهمة ومتطلبة للتحول الديمقراطي ومنها "إصلاح القضاء" كجهة ينبغي أن تلعب دورا مهما ومحايدا بين الأطراف السياسية في المرحلة الانتقالية، وفي التحول الديمقراطي عموما، قد يردون أنها ستعالج في قضايا الحوار الوطني، إلا أنها بالأهمية نفسها وأكثر من مجلسهم العسكري الانتقالي. رأي شخصي: مجمل المبادرة تعكس رؤية المشترك للأزمة والتي لا تتعدى كما يفهم منها الرئيس وأبناءه، ووجهات نظر الأطراف المنضوية فيه للأمور، فمن جهة تجعل من ترحيل الرئيس وأبنائه أولوية كبيرة، وهو ما أتفق معهم فيه لاعتقادي أن التحول الديمقراطي يتطلب أولا رحيل الرئيس وأبنائه فورا عن السلطة، إلا أني أعتقد كذلك أن ذلك ليس مبررا لتهمل المعارضة رؤية شاملة وعميقة لمتطلبات التحول الديمقراطي و"تسوية الملعب" تتجاوز ترضيات الأطراف المنضوية فيها، وترحيل التفاصيل والقضايا.. كنت ولا زلت أعتقد أن مشكلة البلد منذ الوحدة إلى الآن هي التسويات التي تنتهجها الأطراف السياسية، وتمترس كل طرف خلف رؤيته وأولوياته لمعالجة الأمور، لتتم الإصلاحات على أساس: واحدة لي وواحدة لك، وترحيل ما لم يتفق حوله.. مبادرة المشترك ليست مشجعة في ذلك السياق، لا يزال فيها نفس من ذلك التقليد القديم. الثورة الشبابية روح جديدة تبعث حياة جديدة في كل الوطن، كم تمنيت أن تحمل مبادرة المشترك تلك الروح الجديدة والمتطلعة.. لست ممن ينصبون الشباب بديلا عن الأحزاب، فمهمة تسوية الملعب مهمة السياسيين في الأساس، فلا أمل لنا بيمن جديد ومختلف إلا بأن تكون الأحزاب وقياداتها كذلك أولا. لا زلت أثق في المشترك.. قدره أن يتصدر هذه المهمة التاريخية، نجاحه أو فشله لا يعنيه وحده، وإنما نجاحنا أو فشلنا جميعا.