كان يوم الجمعة 18 فبراير 2011 يوم فاصل في تأريخ الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ، حيث سقط في هذا اليوم أكثر من 50 قتيلاً من خيرة أبناء الشباب اليمني الطاهر، من خيرة الشباب الذين سئموا وملوا وعود رئيس قابض على السلطة من قبل أن تلدهم أمهاتهم. كنت أحداً ممن كان متعاطفاً مع الرئيس ومع ضرورة أن لا يخرج بطريقة لا تليق به تقديراً وإحتراماً لمنصب رئيس البلاد لمدة تطول أكثر من ثلاثة قرون ، ولكن التبرير السخيف واللا منطقي والعار تماماً من الأخلاقيات والأدبيات لتفاصيل تلك المجزرة البشعة ، أضف إلى ذلك إستخفاف الرئيس بدماء أبناء شعبه حين أكد في لقاء بقناة العربية بأن الضحايا ليسوا 52 بل 40، هل يصح أن يصدر هذا الإستخفاف من رئيس البلاد؟ وعلى الرغم من إنفراط عقد حيل ومهارات الرئيس الصالح من الجيش والقبيلة والقاعدة إلا أننا ما ما زلنا نشاهد إسطوانة الإعلام اليمني المشروخة تعزف على وتر المؤامرات الخارجية والنيل من وحدة الوطن وتمزق ترابه ومخافة تحوله إلى بيئة خصبة للقاعدة وإيدلوجياتها، ووصل الأمر ب الإعلام الرسمي اليمني إلى الإستشهاد بمقالات تنشر في الصحافة. الإعلام الرسمي اليمني كغيره من الإعلام العربي ما زال يقبع تحت الحقب الشمولية ، حقب المصدر الوحيد للخبر والمعلومة، ويديره أُناس لا يفقهون أبجديات العصر الذي نعيشه- عصر الإنترنت والطفرة المعلوماتية. إن ما يحدث في اليمن كان يجب أن يحدث باكراً قبل تونس وقبل مصر ، فالأوضاع الإقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وصلت إلى أقصى مراحل التخلف في تأريخ البلد الحديث، فلا بنية تحتية ولا تعليم نظامي ولا منظومة صحية يمكن لها أن تقارن بما وصلت إليه تونس ومصر في عصر رئيسيهما المخلوعين.وفيما يلي أبرز نقاط فشل الرئيس صالح في إدارة البلاد ومبررات رحيله الفوري وتسليم السلطة لمن هو أقدر على قيادة سفينة الوطن إلى بر الأمان: إستشراء الفساد في مفاصل الدولة:- وصل الفساد في عهد الرئيس علي عبدالله صالح إلى مرحلة يصعب وصفها بالجمل والكلمات ، ويكفي قول الرئيس صالح نفسه معترفاً للدول المانحة في إحدى وثائق ويكيليكس المسربة بأن حكومته فاسداة وبأنه غير قادر على كبح ذلك ، وبأن على الدول المانحة أن تقوم ببناء المشاريع تحت إشرافها مباشرةً، أضف إلى ذلك عدم قدرة حكومة الرئيس صالح على إستيعاب 6 مليارات دولار المقدمة من دول الخليج في مؤتمرالمانحين من أصدقاء اليمن، بسبب عدم قدرة حكومته على الإلتزام بالشفافية والنزاهة في تنفيذ المشاريع. أحد المسؤولين في الوحدة الإقتصادية لمجلس التعاون الخليجي وضع النقاط على الحروف في وصف فساد حكومة الرئيس صالح حين قال بأن دول المجلس عرضت على اليمن حل مشكلة النقص الحاد في الطاقة الكهربائية وذلك عن طريق إنشاء محطة توليد كبرى إلا أن فساد مؤسسات الحكومة اليمنية وقف حجر عثرة أمام هذا المشروع الذي أُلغي لاحقاً. ولا يخفى على الشارع اليمني مسلسل تعثر إنجاز مطار صنعاء الدولي لفترات متضاعفة عن الفترة الزمنية المحددة في عقد التنفيذ بالرغم من إعتماد التمويل اللازم من الصندوق العربي للتنمية، وهاهو مشروع المطار الجديد عاد إلى نقطة الصفر وحزمت شركة بكين للإنشاءات أمتعتها وعدتها وعتادها وغادرت اليمن بسبب الفساد وتدخلات رجال لهم صلات بالقصر الرئاسي بسبب العمولات والأتاوات، وبعلم ودراية من الرئيس شخصياً ، لتصدر الحكومة اليمنية تبريراً سخيفاً بأن شركة بكين للإنشاءات أخلت بالعقود المبرمة ، مع العلم بأن شركة بكين للإنشاءات هي التي أبهرت العالم بإنشاء مشاريع أولومبيات بكين التي ما زالت مقصداً للسياح من كل أنحاء العالم حتى اللحظة وعلى رأسها أعجوبة البناء والتصميم والتنفيذ في الصرح الرياضي المسمى عش الطائر ونظيره المكعب المائي ، ووصل الفساد في حكومة الرئيس صالح إلى درجة أنه لا يستطيع المواطن العادي إستخراج بطاقة شخصية إلا بوساطات ومحسوبيات ورشاوي، وأصبحت ممارسات الفساد صكاً للتدرج والترقي في مؤسسات الدولة ومن حاول التنزه والإحتكام للضمير والمسؤولية فإن مصيره التقاعد المبكر أو الإنظمام إلى حزب: خليك في البيت. وتحت ضغوطات شعبية وخارجية حاول الرئيس صالح عمل ديكور لحكومته عن طريق إنشاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد ، وعلى الرغم من مرور أكثر من 4 أعوام على إنشائها إلا أنها لم تبت في قضية فساد واحدة وتحول عملها إلى إصدار القرارات والبيانات وجمع إستمارات الذمة المالية من المسؤولين والوزراء وكأننا في محاكاة مع المسرحية الشهيرة : شاهد ما شافش حاجة .سيطرة الأقارب على مفاصل الدولة: سيطرة ومحاباة الأقارب كانت اللعنة التي دمرت البلاد والعباد في تونس ومصر وقذفت بزعاماتها إلى مزبلة التأريخ وهي من ستلحق بحكام اليمن وليبيا وسوريا . ففي اليمن وصلت سيطرة أقارب الرئيس على مفاصل مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية إلى مرحلة أصبحت فئات الشعب تقارن هذه السيطرة الأسرية بالحكم الإمامي الذي تخلص منه الشعب في ثورة 26 سبتمبر 1962م وقدم من أجله التضحيات الجسام، حيث أصبح أقارب الرئيس يسيطرون على المؤسسات والوزارات السيادية وتبريراً لهذا المسلك يقدم الرئيس صالح تبريرات كعادته بأن أبنائه وأبناء أخيه هم من يثق بهم في تولي قيادات الحرس الجمهوري والأمن المركز وجهاز الأمن القومي حفاظاً على إستقرار الحكم من أي أطماع أو إنقلابات ، ولكن كيف نفسر سيطرت الأبناء والأقارب على شتى مفاصل الحياة في البلد، كيف نفسر وجود خمسة من أبناء وأحفاد الرئيس ضمن السلك الديبلوماسي اليمن في واشنطن برئاسة سفير لا يسري عليه بند التدوير الوظيفي في قانون الخارجية اليمنية لأنه صهر للرئيس،إضف إلى ذلك قيادة مؤسسات سيادية من قبل الأقارب والأصهار فهناك أربعة محافظين وستى وزراء هم من أقارب وأصهار الرئيس، وقيادات مؤسسات حيوية مثل وشركة النفط ، الهيئة العامة للطيران المدني ، الخطوط الجوية اليمنية ،المؤسسة الإقتصادية اليمنية،مصلحة أراضي وعقارات الدولة ومصلحة شؤون القبائل. ويكفي دلالة على مستوى توظيف الدولة ومؤسساتها لخدمة الأقارب أن نجل الرئيس الأصغر لم يمضي على إحتفال الإعلام الرسمي بتخرجه من كلية عسكرية بريطانية برتبة ملازم ثاني، ليترقى فجأة خلال ستة أشهر إلى رتبة العقيد ويعين قائداً لسرب ألولية مشاة جبلي متجاوزاً 20 عاماً من قانون الترقيات في الجيش اليمني. شرخ الوحدة الوطنية في البلاد: شاءت الأقدار أن يكون الرئيس الصالح طرفاً في إعادة توحيد اليمن، هذا الإنجاز الإستراتيجي لليمن وللأمة العربية أجمع ، ولكن أتضح للعيان لاحقاً بأن الوحدة ما كانت إلا ورقة من أوراق الرئيس صالح في محاولة الإستحواذ على أكبر قدر من المصالح والمنافع ، فهذا الرجل لم يفي بأي عهد ولم يلتزم بأي إتفاق وتنصل من أي إتفاقية كانت تحاول المساس بمصالحه التي تتقاطع مع بناء دولة مدنية وحديثة يسودها العدل والقانون والمساواة بين جميع فئات الشعب اليمني ، وكانت الظروف والأسباب في جانبه ليتسنى له إقصاء شركائه من الحزب الإشتراكي اليمني ويستفرد بالسلطة منذ 1994م وحتى اللحظة ، وبدلاً من أن يكون إستفراده بالسلطة وإتمام قبضته على كل مفاصل الدولة وخلو الساحة من أي منافس له ، بدلاً من أن تكون هذه العوامل لبنةً أساسية في بناء الدولة على أسس متينة وحديثة إلا أن العكس حصل ، فالفساد إستشرى ، والمحسوبية والمحاباة تعمدت وأصبحت دستوراً في التعيينات والترقيات ، والدستور والقانون أصبحا حبيسا الأدراج مقابل الأحكام العرفية والقبلية التي أصبحت تدير الدولة اليمنية في القرن الواحد والعشرين. ومما زاد الطين بلة أن الرئيس صالح بعد إستفراده بالجنوب اليمني تعامل معه كغنيمة حرب، حيث سرح جيشه من الخدمة وقام بتوزيع الأراضي على الأقارب والمواليين مما أدى إلى تكون شرخ كبير في الوحدة الوطنية بين أبناء الشمال والجنوب، وكذلك الحال في حروب صعدة الستة التي حتى اللحظة ما زالت تُشكل لغزاً محيراً عن أسبابها ودوافعها والإخفاقات العسكرية الغامضة التي ساورتها حتى اليوم . التوريث المركزي والثانوي: وضع الأستاذ عبدالباري عطوان النقاط على الحروف حين ذكر في أحد مقالاته بأن الأوضاع في اليمن بدأت تسير في الإتجاه المعاكس حين بدأ الرئيس صالح بتكريس كافة جهوده وقدراته في سبيل توريث الحكم لنجله ، ولتحقيق هذا الهدف ولتحويل التوريث من فكرة إلى واقع بدأ بالإيعاز بتوريث المناصب في مؤسسات الدولة لأبناء وأقارب مسؤولين سابقين.لذلك لا غرابة أن تجد معظم المسؤولين وحتى بعض الوزراء هم الأقل كفاءة بينما الكفاءات والقدرات البشرية مسرحة في بيوتها، كون معايير إختيار المسؤولين ليست الكفاءة والمقدرة بل بدرجة الولاء للرئيس وأقاربه ومشاريعهم الشخصية في البلد.ولا غرابة أيظاً أن تجد شاباً في أواخر العشرينات من عمره يكون أول عمل يتولاه في السلك الديبلوماسي هو نائب لوزير الخارجية، وآخر في مقتبل الثلاثينات من عمره يتدرج في السلك الديبلوماسي ليصل إلى درجة سفير في فترة زمنية قياسية. تكريس الأحكام العرفية والقبلية وتهميش الدستور والقانون:- حفاظاً لإستمرارية المعادلات والتوازنات التي حفظت للرئيس صالح ديمومة كرسي الحكم ،كان لابد من إرضاء تلك المعادلات والتوازنات المتشعبة والمعقدة ولو حتى على حساب مخالفة القانون، فلا غرابة أن ترى شيخاً قبلياً أو مسؤول حكومي يصفع جندي مرور في الشارع بسبب تسجيل مخالفة مرورية ، ولا غرابة أن ترى نجل رئيس مجلس النواب في البلد يصر على صعود إحدى طائرات الرحلات الداخلية بالسلاح ، ولا غرابة أن ترى مسؤول أمني كبير يقوم بقتل سجين في سجن محافظة أخرى بسبب مقتل أحد أقربائه ، ولا غرابة أن يقتل بائع خردوات برصاص أكثر من 13 جندي من مرافقي شخصية قبلية أمام أطفاله محتمين بقصر الرئيس صالح الرئاسي ، ولا غرابة أو إستعجاب إذا ما كان حل تلك القضايا القتل العمد هي الأحكام والأعراف القبلية وبإكراه وإرغام الأهالي على القبول بتوجيهات رئاسية تتجاهل النيابة والقضاء. الرئيس الصالح نفسه رجع إلى الأحكام القبلية والعرفية لا الدستور والقانون في حل كثير من الإشكالات الحكومية مع المتنفذين وقطاع الطرق وخاطفي السواح الأجانب وقاتلي جنود الأمن. هذه الوضع أوصل بالبلد وبالأمن والسكينة فيها إلى مراحل متدنية، كيف لا ورأس الدولة نفسها هو من يكرس تهميش القوانين والأنظمة وإبقائها حبراً على ورق في أروقة قصر حكمه. فشل السياسة الخارجية للبلد:- كأحد سمات فشل السياسة الخارجية للرئيس الصالح أنها إبتعدت عن مسار الحفاظ على مصالح البلد القومية والإستراتيجية،بقدر ما إتسمت بالحفاظ على مصالح الرئيس الشخصية الضيقة ، فلا يهم الرئيس حرق أبناء وطنه جماعياً في أحد أغوار الدول المجاورة ، ولا يهمه أيظاً الدوس على كرامة حاملي جواز الجمهورية اليمنية عند توقيف أحد مستشاريه في أحد مطارات الدول الشقيقة ، ولا يهمه أيظاً أن يُكتب على فيزة الحج والعمرة لرئيس مجلس نواب بلده (غير مصرح للعمل)، ما دام والسجاد الأحمر يُفرش، وصالات كبار الضيوف تُفتح عند وصول فخامته إلى مطارات الدول المهينة لكرامة مواطنيه وحاملي جواز جمهوريته، لا يهمه حسن إختيار السفراء في الخارج لأن هذا المنصب لا يعدو مجرد إرضاء وإستقطاب ولاءات ، فلا غرابة أن ترى فشلاً ذريعاً في سياسات الرئيس الخارجية. تدني التربية والتعليم: قد لا تكون مفارقة أن يصل تدني المؤسسة التربوية إلى مراحلها الدنيا في عهد قوة وإستفراد الرئيس صالح بالحكم،فالغش أصبح ممنهج وشائع ، والمناهج الدراسية لا تصل إلى حقائب الطلاب إلا في نهاية الفصول الدراسية ، ولا يهم فخامته شيئاً أن عاصمة حكمة وعلى بعد كيلومترات من قصره في السبعين تحوي على فصول بتعداد 80 طفل في مرحلة التعليم الأساسي يفترشون الحصير وقاعات الأسمنت. ولا يهم فخامته أن ميزانية البحث العلمي في أكبر جامعة ببلده تقل عن ميزانية أحد وزرائه الفاسدين، أليس ذلك سياسة تجهيل متعمد. هشاشة المنظومة الصحية: لمن يريد أن يعرف حجم المأساة في الجانب الصحي في البلاد كأحد نتائج فشل الرئيس وحكومته عليه التوجه إلى مطاري عمان والقاهره ليشاهد بأم عينيه مئات المرضى يومياً بسبب تدني ورداءة البنية الصحية التي شيدتها سلطته ، بل أن الرئيس شخصياً وكبار مسؤوليه لا يثقون في مستشفيات اليمن حتى في إجراء الفحوصات الروتينية الإعتيادية، وحتى الهبات والمنح الأجنبية في اليمن يتم الإستيلاء عليها وما زالت فضيحة لقاحات شلل الأطفال المنتهية الصلاحية قائمة حتى اليوم.مهما حاولنا الإسترسال والشرح في عيوب وأخطاء علي عبدالله صالح وحكومته ، فلن نستطيع التوسع والتعمق في مقالات صحفية بقدر ما نحتاج إلى كتب ومجلدات لتوثيق الإخفاقات في كل جانب على حدة.يقولون بأن الرئيس اليمني ذكي بالفطرة ومتمترس بالخروج من الأزمات ، ولكننا نقول أن ذلك عندما يكون خصمه أشخاص أو جماعات ، ولكن حينما يكون الشعب كل الشعب برجاله ونسائه ، بحزبه الحاكم ومعارضة ، بالحلفاء والمناوئين غرماء للرئيس، فإن أي ذكاء وأي حيلة لا يفيدان ولن يزيد من مستقبله إلا تعقيداً أكثر، وما الذكاء والدهاء يا فخامة الرئيس إلا البحث عن أسرع وأقرب طريقة للخروج من القصر الرئاسي بأكبر قدر ممكن من حفظ ماء الوجه ، فالشعب قرر أن يحكم نفسه بنفسه ، قرر أن يحقق المبادئ التي قامت عليها ثورتا سبتمبر وأكتوبر بعد أن دمرتها وحولتها إلى مشروع شخصي أسري بإمتياز. كاتب وباحث يمني. القدس العربي