كنا سنتعاطف مع الرئيس - برغم كل الفشل الذي أوصلنا إليه - في حالة واحدة, أنه حاول الإصلاح ولم يستطع أو على الأقل كان يريد أن يعمل ولكنه نسي ذلك في زحمة الأعمال اليومية والفتن الدائرة . ولكن الذي حدث أن الرئيس – ومع سبق الإصرار والترصد – أراد وعزم وهم وأمر بحدوث كل ذلك الخراب, وخطط ودبر ونفذ وتابع وشارك في كل ذلك الفساد , وشرع فيه منذ يومه الأول من إمساكه الدفة , فهو لم يكن حسن النية حين وصل ثم في غفلة من أمره وبفعل جلساء السوء زلت قدمه في طريق الغواية المالية فتردى من علو النزاهة والطهارة إلى ساحق الفساد المتعفن , نعلم من سيرته السابقة للرئاسة أنه لم يكن يقظ الضمير أو سليم المقصد حين جيء به إلى الحكم , وتيقن لنا ذلك مع مرور الأيام والسنوات , وضللنا حبيسي هذه المصيبة لما يزيد عن الثلاثة عقود من أعمارنا ( وهي كل عمرنا ) إذا ما علمنا أن متوسط أعمار اليمنيين هي الأقل بين شعوب العالم ولا تتجاوز ال 56 عاما , وكل شيء يمكن تعويضه إلا الزمن . كانت أنظمة الطغاة في مصر وتونس وسوريا تقوم بتغييب خصومها عقودا من السنيين في زنازين مغلقة عبر المحاكم العسكرية , وكنا نظن أنا أفضل حال منهم إذ لم يكن يحدث ذلك للمعارضين منا , فتبين أنا كنا الأسوأ, إذ قام النظام بتغيبنا جميعا ل 33 عاما عن العصر الذي نعيشه في زنزانة كبيرة بحجم الوطن , اكتشفنا اليوم و بالأرقام أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن عوالم الدنيا القريبة منا هي نفس المدة التي حكمنا فيها هذا الصالح وأننا نحتاج إلى مثلها لنكون مثل ما هم عليه اليوم . كثيرون هم الزعماء الفسدة الذين نهبوا بلدانهم وسرقوها , لكن الكثير منهم صنع شيئا فيها مكنها من العيش في زمنها وعصرها وقليلون قليلون اكتفوا من بقائهم بتدميرها ونهبها , وكأن ثأرا قديما عصيا عن النسيان دفعهم إلى الانتقام من أوطانهم بكل ذلك الحقد. والأرقام تحكي بوضوح أن صالح هو الأبرز فيهم فاليمن هي أكثر الدول تخلفا وتدهورا . أليست جريمة تأريخية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى حين تكون رئيسا وتمنع وطنك من النهوض وحين تعمل جاهدا على تخلفه وتحطيمه , لا سيما وقد منحك أبناؤه من صمتهم وصبرهم عليك الكثير ما لم يطمع فيه غيرك من الطغاة الفاسدين . من المفارقات المضحكة والمبكية أنه -وبرغم محدودية ثروات اليمن مقارنة بما لدى جيرانها إلا أن الأرقام التي ترويها بعض المصادر المتخصصة بتتبع ثروات الزعماء تحكي رقما هائلا تجاوز به صالح ثروة جيرانه الملوك والأمراء برغم الفارق الفلكي بين ما نملك ويملكون , حيث تحكي ، الرجل جمع ما يزيد عن الخمسين مليار دولار في حين قدرة ثروة الملك عبد الله ملك السعودية ببضع وثلاثين مليار فقط هو الأعلى بين ملوك وأمراء الخليج , ألم يكن من الإنصاف أن يجود على أصحاب الحق بالقليل من حقهم ومن بعض ثروتهم . ليته كان فاسدا متعلما ؟ وذلك حتى يطمح بأن يشار إليه - بين العالمين - بأنه رئيسا لبلد ينمو , أو أن يذكر بعد مماته بأنه ترك بلده بحال أفضل مما كانت عليه يوم تولى مقاليد حكمها . ولكن للأسف فإن آخر معنى يمكن لهذا الرجل أن يفكر به أو أن يطمع فيه هو بعض من التأريخ المشرف أو الذكر الحسن لا يمكن كتابته أو ترجمته إلى أرقام في الحسابات المصرفية . لقد مثل شرحا وافيا لشطر الحكمة المشهورة : (...والجهل ظلام ) , كما كان أحمد الصوفي وعبده الجندي مثالا معبرا للحكمة القائلة : ( ... والعلم من غير تقوى فجور ) . لقد عاملنا الرجل كمستعمر بغيض لا يحتكم لأي من قيم الأخلاق التي توجب عليه العناية بالمستعمرين (بفتح الميم). لا أنكر أن للرجل محاسن ومناقب لا توجد في غيره , فقد سمعت أحد مناصريه ومحبيه يذكرها قائلا : (صحيح أن الرجل فاسد لكنه أفضل من غيره كونه لا يسرق وحده ولا يستأثر بالكعكة بمفرده), ونعم المزية والمنقبة, فالرجل لم يكتفي بأن يخلوا بمفرده بالمال العام وينتهك حرمته مستترا عن أعين الخلق, بل جعل من الأمر جريمة جماعية وفي صورة صاخبة وماجنة أسقطت هيبة حرمة المال العام في أعين المراقبين ناهيك عن الخائضين, بل أن الرجل بالغ في دعوته وفجوره المالي بأن سخط على المتعففين والرافضين لحفلة الزار التي أقامها , ولم يكن يطق استمرارهم في مناصبهم , وكان الاستبعاد أو الإقالة مصير كل واحد منهم وهم في قمة عطائهم , ومن أمثلة أولئك: صالح عباد الخولاني محافظ حضرموت وسيف العسلي وزير المالية , وصالح سميع وزير المغتربين وغيرهم . ما قلته ليس من الفجور في الخصومة , وما يذكره البعض من انجازات في بعض المجالات لا تعدوا أن تكون جزءا يسيرا من بعض الواجبات التي لم تكتمل , والتي يفترض القيام بها خلال عامين أو ثلاثة وليس عقدين أو ثلاثة . فالعالم لم يعد يتفاخر بشق الطرقات أو بناء البوابات لمدارس كبيرة تسمى مجازا جامعات , أو يكتفي بعمل أفلام مدبلجة في التلفزيون عما تم عمله من (آفاق تنموية) , فهناك مقاييس ومعايير تقاس بها الانجازات , وهي على سبيل المثال لا الحصر: معدلات دخل الفرد ومستويات نمو الناتج القومي والمحلي . ونسب الفقر والأمية ومستويات الصحة العامة وعدد الأسرة في المستشفيات ونسبتها إلى عدد المواطنين , ومتوسط الأعمار , ونسبة أعداد الميتين من الأمهات والمواليد , ونسبة الحاصلين على الخدمات العامة من كهرباء وصرف صحي ومياه نظيفة , ونسبة العاطلين , وعدد ساعات الإنتاج للعاملين , ومستويات الفساد والشفافية والأمراض والأوبئة .... وغيرها الكثير والكثير من تلك النسب والمعايير , التي تكشف حقيقة ما تم انجازه وتحكي جدوى ونجاح ما تم فعله . وللأسف فإن تلك الأرقام تحكي عهد صالح بأنه الأسوأ بين عهود الدكتاتوريات العربية , وبأن اليمن في عهده تربعت في قاع القوائم التي تحكي مستويات الرفاهية , وتسيدت رأس القوائم التي تحكي مستويات الفشل والتخلف .ووحده رقم ما يملكه الرئيس تفوق به على جميع ملوك وأمراء الخليج . لقد عشنا عهدا كارثيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة , وسيظل يعيقنا لسنوات قادمة حتى نبدأ بالتعافي من تبعاته وآثاره.