(1) أي محاولة لإصلاح النظام الحاكم في بلادنا إصلاحا جزئيا لا يمس جوهر اختلالاته؛ يشبه محاولة الحرث في البحر أو تلوين الهواء. وهذه البدهية ليست جديدة بل هي خلاصة تاريخ من التعامل المحلي والإقليمي والدولي مع العقليات التي تحكم اليمن، وثبت بما لا يقبل التشكيك أنها حالة ميؤوس منها، لا ينفع معها ترقيع ولا عملية قلب مفتوح، ولا غسيل كلى، ولا تنقية دم: لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في أي جانب آخر من جوانب الحياة في اليمن.
وليس تعديا القول إن أصل الخلاف المشتعل الآن هو وصول اليمنيين؛ ما عدا السلطة؛ إلى قناعة بأنه لم يعد هناك بصيص أمل في إمكانية أن يعي المتشبثون بالسلطة بضرورة إجراء إصلاحات جذرية تتم بمشاركتهم، وأنه لم يعد هناك من طريق إلا التغيير الشامل إن أردنا أن نضمن مستقبلا مأمونا لليمن: أرضا وإنسانا.
منذ 16 عاما بدأ تنفيذ برنامج شامل للإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية.. وهاهي اليمن بعد كل هذه السنوات ما تزال قنبلة موقوتة (!)، وما زالت تعاني تدهورا في أداء قطاعات رئيسية كالاقتصاد والتعليم والخدمات العامة، وتواجه أخطارا تبدأ من شبح الجفاف المائي وتنتهي بحروب داخلية ومطالب انفصالية، وبين هذا وذاك يكمن الداء العضال المتمثل في سرطان الفساد الشامل والعجز أو افتقاد الإرادة الصادقة لمواجهة كل هذه الأخطار! هذه الأزمة الشاملة لم يعد ينفع معها حلول جزئية تتجاوز أصل المشكلة، وهو هنا نخبة الحكم التي أصابها مرض الموت الذي لا يصلح لعلاجه لا طب شعبي ولا دواء خارجي.. وكما قيل في المثل اليمني الشعبي: إذا كان الوجع في الرأس فمن أين ستأتي العافية!
(2) خلال السنوات الماضية حاولت (العافية) أن تتسلل من أكثر من جهة لتصل إلى مكان الداء الحقيقي، لكن جماعة العوبلي؛ المستفيدة من تفشي الداء واستفحال أعراضها المميتة؛ أحكمت قرارها بأن ليس في الإمكان أفضل مما هو موجود.. ثم أوغلت في العناد وسدت كل باب يمكن أن تلج منه نسمة أمل بأن هناك في قمة السلطة من يعقل ولديه حاسة استشعار بالخطر الذي يقترب بسرعة إعصار تسونامي.. وكانت النتيجة المتوقعة كما حذر منها الكثيرون؛ بل أسرع وأقوى وأشمل لكل ساحات الوطن الذي قرر أبناؤه أن الوقت قد حان ليكون تقرير مصيرهم بأيديهم ويطووا صفحات مرحلة صارت من الماضي.
فشلت كل محاولة لإصلاح اعوجاج السلطة، وتعاملت النخبة الحاكمة مع النذر بعدم فهم، كما يرى الإنسان المصر على الغواية نذر الموت وعلامات النهاية فلا تلفت انتباهه، ولا توقظ في جسده الميت نبضة تدل على حياة!
ولعل من أخطر علامات النهاية البادية؛ أن السلطة وهي في الرمق الأخير لم تتعظ من أخطائها، ولم تحرص على تحسين شيء من ممارساتها، وتختم أيامها الأخيرة بعدد من الإصلاحات ولو لم تجد وقتا لتطبيقها على الوجه المطلوب..
لقد كان بإمكان الرئيس أن يعمل بصدق على إيقاف جرائم قتل المتظاهرين، والاعتداء على مخيمات الاعتصامات، ويقدم بذلك دليلا على أنه صادق في محاولة احتواء الأزمة.. وكان يمكنه أن يصلح العديد من الاعوجاجات في نظامه دون أن يشاركه أحد في شرف ذلك، ولكنه أضاع الفرصة الأخيرة واستسلم لبطانة الشر التي تحيط به وتصور له الأمور في البلاد على أنها على أفضل ما يمكن كما حدث في سير كل الحكام الذين لاقوا مصيرا لم يكن يخطر ببالهم!
وكان يمكن للرئيس أن يأمر أجهزة الدولة أن تتعامل مع المعارضين والمؤيدين بأسلوب واحد بلا تحيز ولا عداء لطرف؛ فيشعر معارضيه بأنه يعترف لهم بحق المواطنة فضلا عن حقهم كبشر؛ فإذا دعاهم بعد ذلك للحوار والتفاهم لم يكن هناك ما ينفر من الاستجابة له.. لكنه أساء التعامل منذ البداية وغرته القوة وصرخات الأتباع ضد المعارضة وهتافاتهم المؤيدة له!
وكان يمكن للرئيس أن يأمر أجهزة إعلامه الرسمية أن تلتزم الحياد لمرة واحدة - وأخيرة- فتكون عامل تقريب وتهدئة.. ولكنه ظن أنها مجرد عاصفة ستنتهي قريبا وسيصحو غدا أو بعد غد وقد عادت الأمور إلى نصابها، وانتهت الاحتجاجات، وعاد مجلس الراعي يمارس عمله كما هو معهود عنه، وطوى الناس لافتاتهم وقلعوا خيامهم وعادوا إلى مقايلهم يمضغون القات ويسهرون ثم يستيقظون للذهاب إلى أعمالهم، والعاطلون عن العمل منهم يغرقون في الأماني وأحلام الهروب إلى السعودية!
أشياء كثيرة وقرارات تاريخية - بمعنى الكلمة وليس بالمعنى الذي تستخدمه السلطة في وصف كل شيء يعمله الرئيس – كان بإمكان الرئيس أن يفعلها لو راقب بدقة نهاية مبارك وابن علي وتعلم من أخطائهما، وفهم أن ما حدث لم يكن إنفلونزا ولا حمى ولا مؤامرة خارجية؛ لأن الشعوب لا يمكن أن تكون كلها مريضة دون الحكام وأنصارهم فالأوبئة لا تفرق بين معارض ومؤيد.. ولا يمكن أن تنخرط في حركة عمالة بمثل هذا الزخم الملاييني.. كما أن العملاء لا يقدمون دماءهم دون مقابل ولا يسترخصون الموت، ولا يسهل شراءهم لا بأقل ولا بأكثر مما لوح به الرئيس من مغريات.. وفي كل الأحوال فلم يعرف التاريخ مستعمرا أو عدوا لشعب يحرضه على إصلاح بلاده ونبذ الاستبداد ليحل محله حكم الدستور والقانون والعدالة والمساواة والحرية.. ويريحه أن يتحكم في السلطة قيادات مجروحة الشرعية تضطهد شعوبها وهي كذلك تبادلها الكره والنفور.
(3) مع تجذر الثورة الشعبية تلقى النظام نصيحة من جهة أجنبية بأن يعمل على إصلاح أداء وسائل إعلامه؛ بعد أن تأكد أنها أضعف نقطة في جسد النظام، وتضره أكثر مما تنفعه. وتردد يومها أن (الصديق) أحضر إلى اليمن فريقا من خبراء الإعلام الأسود لإدارة المعركة الإعلامية ضد الثورة.
وبالفعل بدأ ظهور بعض التجديدات الإعلامية في أداء الإعلام اليمني الرسمي المشهور بالتبلد والغباء؛ رغم المحاولات الكثيرة التي بذلت لاستقطاب العديد من الخبرات المحلية والأقلام البارزة وإغرائها بالانضمام إلى موكب التصفيق وتمكينها من أخطر الأجهزة الإعلامية، وشراء ذمم بعض المستقلين وتأليبهم على المعارضة.
والتجديد المذكور ليس المقصود به ذلك الازدياد الهائل في عدد الأكاذيب والتلفيقات على غير ما هو معتاد؛ ولكن المقصود هو ظهور تقنيات إعلامية مشهورة في الآلة الإعلامية الغربية، ومحورها التظاهر بالانفتاح الإعلامي وبث تغطية خاصة للأحداث الدموية التي ترتكبها أجهزة الأمن اليمنية في حق العزل بدلا من غض الطرف عنها، ولكن مع قلب الحقائق ونسبة الجرائم للمعتصمين، وتقديم بعض المشاهد التمثيلية مثل إظهار صورة رجل يلبس ملابس الحرس الجمهوري تحت ملابسه المدنية كأنموذج على ما يروج له الإعلام الرسمي بأن هناك أشخاصا يرتدون ملابس الحرس الجمهوري للإساءة إلى سمعته الناصعة! قبل وصول الدعم الإعلامي الأجنبي ربما من غرفة العمليات (إياها).. تعامل الإعلام اليمني الرسمي مع فعاليات المعارضة بعقلية منادي السيارات الذي يكذب ويوهم الناس أن السيارة امتلأت ولم يبق إلا راكب واحد لتنطلق في مشوارها.. ثم يكتشف الناس أن السيارة ما تزال فارغة.. وأن الجالسين داخلها هم زملاء السائق من سائقي السيارات الأخرى التي تنتظر دورها، ولكنهم يتجمعون داخل السيارة ليوهموا الآخرين أن العدد يكاد يكتمل ولم يبق إلا القليل!
والذي حدث أن مسؤولين كبارا؛ مثل رئيس الجمهورية نفسه ووزير الداخلية؛ صدقوا كلام المساعدين والعُكفة أن أعداد المشاركين في فعاليات المعارضة قليلة حتى جعلوا اللواء مطهر المصري يظهر في قناة عالمية ليقول إن عدد المشاركين لا يتجاوز الألف.. ثم كانت الكارثة الكبرى بظهور رئيس الجمهورية نفسه أمام العالم ليقول إن المشاركين في فعاليات المعارضة (ما بين 100-120-150)!
لا شك أن قيادات السلطة اكتشفت أن المعلومات التي أعطيت لها عن مسيرات واعتصامات المعارضة مجرد أكاذيب وفبركات إعلامية اعتاد عليها إعلاميو السلطة دون أن ينتبهوا أن التغييرات الإعلامية محليا وعالميا تسهل خلال ساعات قليلة جدا معرفة الحقيقة.. وهو الأمر الذي حصل بالفعل وسبب للنظام فضيحة مدوية.
(4) في رصيد الفشل الإعلامي الرسمي أمثلة كثيرة؛ فمثلا جاء في تقرير وزارة الداخلية – وهو عمل حزبي إعلامي – المقدم لمجلس الدفاع الوطني مساء السبت الذي شهد أول صدام دموي في الاشتباكات التي حدثت جوار جولة القادسية في ساحة التغيير بصنعاء؛ (أن المعتصمين هاجموا رجال الأمن - الذين سعوا إلى فك الاشتباك بين المعتصمين والمواطنين – بالأسلحة البيضاء والسكاكين والخناجر والأعيرة النارية وقنابل المولوتوف المتفجرة (طبعا.. أي قنابل لابد أن تكون متفجرة.. هل سمعتم أن هناك قنابل للضحك والبرع؟) التي تم تكديسها في بعض الخيام.. علاوة على الحجارة!
من سوء حظ السلطة، وحسن حظ الشعب، أن أحدا يومها لم يتحدث عن قنابل مولوتوف متفجرة أو صامتة.. ولو كان لدى المعتصمين قنابل مولوتوف كما زعموا لكان هناك قتلى بين رجال الأمن ولتدمرت المصفحات.. وقبل كل ذلك لسمع الناس أصوات انفجارات القنابل التي تختلف عن القنابل المسيلة للدموع التي ليس لها صوت قنبلة!
مجلس الدفاع الوطني نفسه تحول إلى نكتة، وكانت صور اجتماعاته تظهر وكأن الاجتماع يتم في مقيل رغم الطاولة الضخمة التي يتحلق حولها كبار القيادات العسكرية والسياسية للدولة، الذين كانوا يبدون ساهمين مطنطنين، بعضهم بملابس ارتداها بسرعة بعد أن تم استدعاؤه لحضور الاجتماع سريعا - أو (حملة) كما بلغوه في الهاتف- فجاء المتعوس ليسمع محاضرة تجعله يردد همسا: ربنا ارفع عنا العذاب..
وفي مثل هذه الحالات لا يستحسن تعكير مزاج المخزنين بالحقائق وإعلامهم بأن المواطنين - المتهمين بأنهم بلاطجة وعملاء- هزموا بالحجارة قوات الحرس الجمهوري أو الأمن المركزي وردوهم على أعقابهم رغم الرصاص الحي والقنابل السامة المسيلة للدموع والخانقة.. والمصفحات الضخمة.. والمياه المندفعة بالضغط القوي، والبلاطجة الداعمين للأمن تأكيدا لشعار السلطة: الأمن والبلاطجة يد واحدة ضد الشعب! (تطورت المنغصات مع استمرار الثورة حتى وصل الأمر إلى أن يتهم المصدر الأمني المتظاهرين يوم اعترضتهم قوات الأمن في جولة عصر أنهم اختطفوا ستة من رجال مكافحة الشغب وهو الاسم الكودي للبلاطجة المجمعين من الحارات ومقرات المؤتمر!).
الله يخيبكم... شباب في مقتبل العمر لا يحملون عصيا ولا أسلحة، ولم يتدربوا في الصحراء، ولم يأكلوا ثعابين ولا عقارب، ولا تحميهم مصفحات.. ثم ينجحون في دحر قوات مدججة بالأسلحة والبلاطجة؛ بل وتقولون إنهم خطفوا مجموعة من الأشاوس!
كيف بالله سيكون وقع مثل هذه الأنباء على أعضاء مجلس الدفاع الوطني الذين ربما توقعوا أنهم استدعوا لتلقي انتصار الشرعية على الخيام ودخولها منتصرة إلى حي الجامعة الحصين؟ على أية حال؛ الرئيس حسم المسألة وأوقف اجتماعات المجلس واختفى من الوجود.. ولكن بعد أن صار محلا للتنكيت وخاصة عندما كان أعضاؤه يزيدون وينقصون، ويضاف إليهم كل جلسة أعضاء آخرين فصار مثل اللجنة الدائمة: تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة!
(5) السلطة التي طالما اتهمت المعارضة بالزج بالمساجد والعملية التعليمية في الخلاف السياسي نست أنها تجمع المؤيدين لها في جامع الصالح - حتى ولو كان حق الرئيس- ويظهر التلفاز الغبي الحدث وكأنه دلائل انتصار للشرعية.
وفي اللقاء الذي قالوا إنه جمع الرئيس مع النساء - تم في ساحة جامع الصالح كما ظهر في الخبر.. ربما لضمان أجواء روحانية ولطرد الشياطين بدليل غياب عدد مهم من القيادات- كانت هناك لافتة باسم مكتب التربية في مديرية بني حشيش أو جبل حبشي، ولم تثر اللافتة استياء أحد من المؤيدين لحيادية التعليم ولا من مذيعي الفاضية اليمنية الذين يكادون يموتون كمدا وحزنا على انتهاك الدستور والقانون!
المثير للضحك أن لافتة أخرى ظهرت باسم (جمعية القابلات) مؤيدة للرئيس والشرعية! ما هذا؟ ما دخل النسل بالسياسة؟ وأيهما أكثر التصاقا بالحقوق: المساجد والمدارس أم غرف الولادة والختان؟
(6) تبرير الرئيس للجريمة التي ارتكبت بحق المتظاهرين أمام المدينة الرياضية بأنهم كانوا ينوون اقتحامها هو نداء لكل أنصاره بقتل المعارضين دون خوف من حساب فوراءهم رئيس جمهورية يحميهم ويدافع عنهم.. وما نقص يكمله عبده في المؤتمرات الصحفية!