(1) أقرب وصف لأداء وممارسات السلطة في بلادنا هو أنها دولة (هوشلية) ليست (عادلة) ولا (حازمة ظالمة).. فهي خليط من الظلم والفوضى، وربما لذلك يكثر أبواق النظام من الحديث عن الشرعية الدستورية ودولة النظام والقانون ليقنعوا أنفسهم قبل الشعب بوجود هذه المعايير.
ويمكن ملاحظة صفات الدولة الهوشلية التي تحكمنا في صور كثيرة لأدائها في مجالات متعددة؛ لكن يكفينا ما حدث منها منذ بدأت البشائر الأولى لسقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك؛ فقد تراجع النظام فجأة عن كل خطواته التي أثار بها أزمة سياسية حادة وتحدى بها المعارضة باتجاه إجراء الانتخابات رغم أنف المعارضين.. وبدأت الآلة السياسية والإعلامية تحاول لملمة الخيوط المبعثرة ولكن في الوقت الضائع فقد كانت رياح ثورة التغيير قد بدأت تهب بقوة في اليمن.. ولات حين مناص!
(2) ارتكب النظام أخطاء جديدة على سبيل مواجهته لتحركات المعارضة، لكن كان أحد أكبر أخطائه أن (الرئيس) تصدر بنفسه الحملة السياسية والإعلامية في مواجهة الثورة الشعبية لأسباب عديدة؛ منها أن (الرئيس) عرف أنها الجولة الأخيرة من المواجهة والذين معه لا يصلحون لإدارتها فضلا عن قيادتها بطريقة تؤدي الهدف منها، فهو يعرف نوعية هذه العناصر وماضيها وأغراضها الشخصية من الانضمام إلى صفه.. ولأنها الجولة الأخيرة فقد كان لابد من استثمار المكانة التقليدية لمنصب الرئاسة لدى العامة والبيئات التقليدية التي لا ترتاح للتصادم مع الدولة بأي حال..
ومع أن هذا الأمر حقق زخما إعلاميا لكن كان الجانب السلبي الخطير لتصدر الرئيس المواجهة للدفاع عن نظامه أنه وضع نفسه وهيبة الرئاسة في فوهة المدفع، وأباح اسمه وتاريخه ومكانة المركز السيادي الذي يحتله لحملات الطرف الآخر التي بادلت شراسة اتهامات الرئيس وإساءاته للمعارضة والمعتصمين بشراسة أشد وأنكى: فلم يكن في الصورة إلا (هو).. ولم يكن يتولى عمليات الحشد والتحريض والإساءة وتبرير سفك الدماء إلا (هو).
تصدر الرئيس قيادة الحملات الإعلامية والسياسية بدلا من أن يقف كقائد في مركز قيادة، وتراجع مساعدوه إلى الخلف؛ إما لأنهم لا يستطيعون الوقوف بجانبه في الصورة.. وإما لأنهم غير مقتنعين بخوض المواجهة التي بدت وكأنها مواجهة شخصية يدافع فيها رجل عن حق شخصي وملكية خاصة، وزاد الطين بلة أن الأجهزة العسكرية والأمنية التي تصدرت المواجهة العسكرية والأمنية كانت في معظمها تحت قيادة أبناء الرئيس وإخوانه وأبناء إخوانه وأبناء منطقته وأنسابهم حتى بدا الأمر على حقيقته: (عائلة) تدافع عن وجودها وامتيازاتها وليس نظاما سياسيا يدافع عن مبادئه وشرعية اكتسبها من انتخابات نزيهة! وهو الأمر الذي أفلحت المعارضة في إبراز مساوئه للرأي العام في الداخل والخارج، وطالبت بإزالة الحكم العائلي الذي استولى على مقدرات الدولة العسكرية والمدنية، وحول (الجمهورية) إلى (ملكية) مقرفة!
ولا شك أن الطريقة التي قاد بها (الرئيس) المواجهة السياسية والإعلامية قد أساءت إلى ما تبقى من هيبة الدولة في النفوس؛ فقد ارتكب إساءات بحق مواطنين بالملايين. واستخدم كل أسلوب كان يظن أنه يحقق هدفه؛ بما فيها الإساءة للمعتصمين بأنهم بلاطجة ومرتزقة ولليمنيات المعتصمات واتهامهن بطريقة مشينة بالاختلاط مع الرجال، ولم تفلح لقاءاته بالنساء بعد ذلك في التخفيف من غلطته؛ فمضمون الاتهام كان شائعا على ألسنة أنصار النظام من قبل كلام الرئيس وبعده في الصحافة المؤتمرية وفي الشوارع على ألسنة البلاطجة وأعوان النظام!
كذلك؛ أساء الرئيس إلى هيبة (الرئاسة) عندما كان ينبري إثر المذابح التي حدثت ضد المعتصمين إلى تبريرها بحجج لا تليق به كرئيس ومسؤول عن تطبيق الدستور والقوانين وحماية أرواح المواطنين، وتسكين الفتن والمشاكل وليس إثارتها وتأجيجها.. واهتم بتنظيم لقاءات متوالية مع مجاميع من رجال القبائل وخاصة تلك المحيطة بالعاصمة ليحدثها عن الأخطار والمؤامرات التي تستهدف البلاد وهم معها.. وكانت مفردات خطاباته تنضح بالتحريض والإنذار بأن اليمن لا طريق أمامها إلا (هو) أو الحرب الأهلية والصوملة.. وحشدت الدولة البلاطجة في الأحياء وتم توزيع السلاح عليهم وبعضهم كان يشارك جهارا في عمليات قمع المعتصمين وتظهر صورهم في التلفاز وهم يطلقون الرصاص على إخوانهم المواطنين دون حياء أو خوف من قانون!
(3) ومع أن الدولة دولة.. والمعارضة معارضة؛ إلا أن (الرئيس) واجه الاحتجاجات الشعبية ضد نظامه بأسلوب لا يمت بصلة لمفهوم الدولة؛ ففضلا عن المواجهات الدموية ضد المعتصمين؛ رغم سلمية احتجاجاتهم؛ فقد راحت أجهزة الدولة بقيادة الرئيس تمارس الأفعال نفسها، فتقيم الاعتصامات والمسيرات والمهرجانات وصلاة الجمعة؛ ظنا منها بأنها تفشل فعاليات المعارضة وتجردها من قوتها، ولم تفهم أنها بذلك قد أسهمت في دفع البلاد إلى مرحلة غامضة هرولت بالدولة إلى منحدر خطير، وأباحت قتل المواطنين وقصف منازلهم بقسوة دون تفريق بين مذنب في ميزانها أو بريء لا ذنب له إلا أنه يسكن بالجوار أو مرّ في منطقة مغضوب عليها مصدقا شعارات الأمن والاستقرار!
وهاهي الدولة تعاقب الشعب كله بحرمانه من ضروريات الحياة كالبترول والغاز والكهرباء وتحيل حياته إلى عذاب ثم تلقي بالمسؤولية على المعارضة غير منتبهة إلى أن الدولة التي تعجز عن حماية الشعب وتوفير حاجياته اليومية لا تستحق أن تبقى ساعة واحدة في الحكم فهي بذلك تفقد شرعيتها.. إن كان معها شرعية أصلا؛ فما بالنا إن كانت شرعيتها فالصو عيار صفر في صفر! هذه الحال التي تدهور إليها حال البلاد ربما استغلها المدبرون لحادثة مسجد الرئاسة إن لم يكونوا قد دفعوا الأمور إليها؛ فليس هناك أفضل من هذه الأجواء لتنفيذ جريمة بحجم ودقة وخطورة حادثة مسجد النهدين عندما ضرب أبرز أركان الدولة بعملية ستظل غامضة في تحديد هوية مرتكبيها، وكيف تمكنوا من تنفيذها في قلب دار الرئاسة الذي هو أكثر الأماكن المدججة بالحراسات حيث يأمن الرئيس على حياته وحياة أسرته. أما في أهدافها فربما استغل (الفاعلون) حالة انهيار الدولة الهوشلية وأرادوا بعملية دقيقة أن يتخلصوا من طرفي المواجهة ليخلو لهم الجو ليعلنوا قيام سلطة جديدة بدعوى إنقاذ البلاد ويفرضوا سيطرتهم على أنقاض مذبحتين: مذبحة جرت في مسجد دار الرئاسة، وأخرى كان مخططا لها أن تستهدف قيادات ورموز المعارضة العسكرية والمدنية وساحات الاعتصامات..
والراجح أن فشل الجزء الأول المتمثل في قتل المصلين في دار الرئاسة؛ فضلا عن غياب مجموعة من كبار القيادات السياسية؛ قد أفشل الخطة بكاملها.. لكن (الدولة) بأبرز أركانها دخلت غرف الإنعاش، وضربت أستاراً من الغموض والأكاذيب حول ما حدث وما جرى لها، وهو غموض كان يقصد منه تحقيق هدفين: الهدف الأول: إبقاء الوضع الدستوري للرئاسة على ما هو عليه دون الاضطرار لإجراء عملية نقل السلطة آليا كما يحدده الدستور في حالة شيوع حقيقة الحالة الصحية للرئيس التي تجعله غير قادر على أداء مهامه. والهدف الآخر: يمكن فهمه استنتاجا من دقة عملية التفجيرات وملابسات الزمان والمكان والحاضرين التي قد يؤدي انكشاف حقائقها إلى انفجار سياسي ضخم آخر داخل النظام نفسه.. فالتعتيم، وإخفاء الحقائق، والتأخير في التحقيق وعدم استقلاليته، وتعمد الترويج لروايات متناقضة سيؤدي غالبا إلى طمس الحقيقة وخاصة أنه من غير المعقول أن يكون تنظيم القاعدة هو من يقف وراء العملية ثم لا يصدر عنه ما يعلن عن تبنيه بعد مرور قرابة شهر؛ فالقاعدة لا يعرف عنها الزهد في مثل هذه الحالات، وفي العادة فإن الحوادث التي لا تتبناها جهة ما تكون من نوعية (زيتنا في دقيقنا)!
الدولة الهوشلية ركزت اهتمامها فقط على ضمان عدم حدوث نقل للسلطة وانشغلت بعض أجهزتها في محاولة استئناف تنفيذ الجريمة بطريقة أخرى؛ من خلال توجيه اتهامات إعلامية لقيادات في المعارضة بالوقوف وراء الجريمة وصرف الأنظار عن الفاعلين الحقيقيين! وعادت حليمة المؤتمرية إلى عادتها القديمة وكأن شيئا لم يحدث في مسجد الرئاسة.. وكأن الدولة نفسها ليست في غرفة الإنعاش.. وفي دولة ثانية! (4) مسار الأحداث منذ نهاية فبراير الماضي كان يؤكد أن الدولة الهوشلية على وشك خسران كل شئ.. فمع توالي الأحداث الدموية وإصرار النظام على الحل الدموي عجز عن إدارة أموره بطريقة تحفظ ماء الوجه؛ فكان إعلان حالة الطوارئ بمثابة (نكتة) الثورة.. ثم كان إعلان إقالة الحكومة لسد الباب على الوزراء الذين أرادوا النجاة بأنفسهم من لعنة التاريخ؛ وها هي الأيام تمر وتتوالى الشهور ليجد اليمن نفسه بلا حكومة منذ ثلاثة أشهر.. قبل أن يجد نفسه بلا رؤساء للجمهورية والبرلمان والحكومة ومجلس الشورى!
ولأن الشرعية الدستورية كذبة كبيرة؛ فهاهو النظام المتمترس وراء شعارها يرفض أن يلتزم بها ويحقق انتقالا سلميا للسلطة يحفظ لليمن الإطار الشكلي القانوني للدولة، وتصر مراكز القوى العائلية والحزبية المصلحية أن تظل الأمور كما هي قبل صلاة الجمعة في بداية الشهر، وتصر قيادات حزبية وعائلية ومصادر مجهولة على رفض (تطبيع) الوضع السياسي في البلاد بطريقة سلمية حتى.. عودة (الرئيس) ولو كان الثمن: انهيار البلاد.. وزيادة معاناة الشعب! وهذا هو الفرق بين الدولة.. والمزرعة الخاصة
* للتأمل: (إن حركة الأمة لا يمكن أن تتوقف لأكثر من لحظة).. (إدي ستيفنسون العضو الأقدم في الحزب الديمقراطي الأمريكي، متحدثا في أول اجتماع للحكومة برئاسة الرئيس الجديد بعد يوم واحد من مقتل الرئيس كينيدي وقبل إتمام إجراءات دفنه!). صحيفة الناس