وصل الى نيويورك قبل أسبوعين وفد يمني برئاسة ألأستاذ سيف العماري وكيل وزارة المغتربين في الجمهورية اليمنية في زيارة للمغتربين اليمنيين في الولاياتالمتحدةالامريكية , حيث شملت الزيارة مختلف مناطق التواجد اليمني. ولاية ميتشيجن التي استبقت قدوم الوفد بتحركات استثنائية نشطت فيها حركة الاتصالات واللقاءات والمشاورات والتكتلات بصورة ازدهرت معها "المقايل" على نطاق واسع .
(متعهد) الوفود وارى أعضاء الوفد فور وصولهم في أحد الفنادق , وأعد لهم , كالعادة برنامج للمقابلات الشخصية التي أعتاد أن يختار شخوصها من الأنصار والموالاة , باعتبارهم واجهات الجالية وزعاماتها فحسب , دون أن يبقى للزائر أي خيار , ولا قدرة على التمرد أو الاعتراض ولا حتى في مجرد مغادرة الفندق للنزهة أو التسوق بدون مرافقة المتعهد أ وموافقته , وبهذه الاستحكامات يتم التحكم بحركة القادم ولقاءاته , و يتم تلقينه وتوجيه قناعاته في الاتجاه الذي يريده المتعهد و يحدده سلفا.
ولكن القادم هذه المرة تمرد على القاعدة وقفز عن المألوف , وتكررت مغادرته للفندق بمعية مواطنين ! , وإذا بالمتعهد يحتج على هذه التجاوزات الخطيرة للبروتوكولات والأعراف والتقاليد المرعية , ويهدد بإخلاء مسئوليته من هذه الزيارة ونتائجها , و...!ا
هذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها مسؤول يمني رفيع الى هذا الوسط الاغترابي , بل ان وزراء يصلون من وقت لأخر , وأبعد من ذلك أن الرئيس اليمني كثيرا ما يأتي الى أمريكا وان لم يصل الى ميتشيجن ولكن فرسان التطلعات من الحالمين والواهمين والمراهقين ... يتقاطرون الى حيث يقيم -واشنطن أو نيويورك – , وفي كل هذه الأحوال تنعقد لقاءات جماعية وفردية يجتهد المغتربين خلالها أن يأخذوا صورا تذكارية أكثر من أن يقدموا تصورات وأراء , وان قدموا شيئا فإنهم لا يقدمون في الحقيقة إلا تناقضاتهم وخصوماتهم وجهلهم , وبسبب من ذلك وغيره , فان غالبية تلك اللقاءات تتحول الى مناسبات لتوبيخ الجالية وتعنيفها , ولا أحد يذكر بأن قضية من القضايا التي طرحت في تلك اللقاءات قد أخذت ما تستحق من العناية , كما لا يذكر أحدا بأن وعدا من الوعود التي قطعها أولئك المسؤولين قد أنجز , إلا ما أقترن منها بتسويات خاصة فذلك ليس في وارد هذا الموضوع .
ومع يأس الجميع من العون الرسمي إلا أنهم يندفعون دائما بتأثير قوى خفية ليكررون نفس الملهاة مع كل قادم جديد و كأن لسان حالهم يقول: ألف دكان على كف الرحمن .
الجديد هذه المرة أن رئيس الوفد القادم شخصية معروفة في أوساط المغتربين اليمنيين في أمريكا على نطاق واسع كون هؤلاء المغتربين يتحدرون من المناطق الوسطى التي ينتمي إليها هو أيضا , وله علاقات قرابة وصداقة بمئات الأفراد والأسر المنتشرة في طول الولاياتالمتحدة وعرضها , وهو شخصية شعبية تتميز بالتواضع والصبر والصراحة والجد , ولعل هذه الأسباب هي المسئولة عن الزخم الغير مسبوق الذي واكب زيارة هذا الوفد والالتفاف النادر للمغتربين حوله عشرات اللقاءات التي تواصلت ليلا ونهارا على مدار الساعة يوميا في المكاتب والفندق والمنازل والمساجد والقاعات والطرقات والهاتف أتاحت الفرصة لكل فرد أن يقول لرئيس الوفد ما يريد أكثر من مرة , والكل مرتاح لهذه الفرصة بصرف النظر عن جدوى وأهمية ما قيل .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي المهمة التي جاء من أجلها هذا الوفد أصلا ؟، رئيس الوفد ركز في لقاءاته على المؤتمر العام للمغتربين اليمنيين الذي سينعقد في صنعاء في أكتوبر القادم , والآمال المعلقة على هذا المؤتمر في تعزيز التوجهات الجديدة لحكومة صنعاء في اتجاه دعم قطاع المغتربين اليمنيين دون أن يبين دوافع الحكومة نحو هذا الجديد المستجد من توجهاتها , مع ان المعلوم ان الوزارة قد تجاوزت القطاع الاغترابي منذ سنوات بعيده فيما يتعلق بموقفه من المؤتمرات العامة للمغتربين وغيرها , عندما انساقت وراء سمسرة تعيث بالجالية اليمنية في ميشيجن (وغيرها) فسادا و عبثا باعتماد قائمة تظم مجموعة من الأسماء الدائمين –أحياء أو ميتين – لتمثيل المغتربين دون اعتبار لأبسط دواعي التحري و الموضوعية في الاختيار .
فإذا عرفنا أن نفس القائمة قد حزمت حقائبها للسفر المعتاد للمشاركة في رحلة السياحة المجانية على حساب الشعب اليمني الجائع و باسم مؤتمر شكلي لا علاقة له بالمغتربين ولا بالوطن لا من قريب ولا من بعيد , فانه يتضح بأن مهمة الوفد الزائر ليس لها علاقة بالتحضير للمؤتمر.
الموضوع الثاني الذي ركز عليه الوفد الزائر تمثل بالتبشير بقيام هيئات الجاليات اليمنية في مناطق التواجد الاغترابي, بموجب لائحة تنظيمية صدرت بقرار من رئيس مجلس الوزراء, رئيس الوفد طالب المغتربين أن يستعدوا (…) خلال الستة الشهور التالية لهذا الحدث .
وهو خبر مثير ويبعث على التفاؤل والارتياح , ولكن سرعان ما يتضح من مراجعة اللائحة المنظمة بأنها تتسم بالغموض في كثير من جوانبها وبالقصور في جوانب أخرى, إضافة الى تناقض الفكرة كلية مع الواقع من كافة الوجوه خصوصا منها ما يتعلق بالكفاءات والإمكانات اللازمة لتمويل وإدارة هذا الكيان المبعثر في أصقاع الأرض , وحيث تتواضع الموارد المادية والبشرية اليمنية في الداخل والخارج عن الوفاء بمتطلبات الحد الأدنى لهذا الطموح , فان الأمر لا يحتاج الى فطنة واسعة لأدراك المقاصد الخفية للحكومة اليمنية من وراء هذا التوجه, وعلى ضوء هذا الإدراك يمكن القول بأن حكومة صنعاء تخطط لإقامة أطر (مأمونة) للمغتربين في أمريكا وبلدان الديمقراطيات تحديدا .
ونعتقد ان هذه هي المهمة ( المستهدفة ) من مجيء الوفد وزارة المغتربين اليمنيين برمتها مجرد ظاهرة موسمية تظهر في الحكومة حينا وتختفي حينا , بمعنى ان نظرة الارادة الرسمية العليا في اليمن لا ترقى بقطاع المغتربين الى مستوى الثابت الوطني الذي يؤهله للانخراط في استراتيجية البلاد وخططها التفصيلية -هذا إن وجد شيء من هذا القبيل - والوزارة بسبب حضورها الموسمي المتذبذب في التشكيلات الحكومية , تجعل القائمين عليها محدودي الإيمان برسالتهم , محدودي الثقة بمستقبلهم وبأهمية دورهم , قليلي الاعتداد بكفاءاتهم , الأمر الذي ينعكس بالضرورة على الأداء بالسلب والتراخي , ويكون في نفس الوقت باعثا على الارتياب والتردد في تعامل الأطراف الرسمية والشعبية معها , أو قل الإهمال بتعبير آخر , الأمر الذي يحد من فاعليتها ويقلل من فرص نجاحها في أداء مهامها.
والأخطر من ذلك ان هذه الأحوال غالبا ما تؤسس لحالات الانفصام التدريجي بين المواطن المقيم والمواطن المهاجر لم يتناول الأخ الوكيل القضايا اليمنية الساخنة , بل والخطيرة جدا , مثل قضية الحراك الجنوبي أو المعارك الحربية الدائرة بين الجيش اليمني والمتمردين في محافظات صعدة وعمران وحجة وربما الجوف , وتفاعلاتها و تأثيراتها المختلفة على الصعيد الداخلي وانعكاساتها وردود الفعل الإقليمية إزائها , والأّفاق المستقبلية المترتبة على ما يجري وهي قضايا أصبحت تطل باليمن على طاولات التدويل , والمغتربين يتابعون تفاصيلها أولا بأول بحسرة وألم شديدين , فإذا كان رئيس الوفد قد تجنب قدر الإمكان إثارة الموضوعات(الساخنة) تلك , فان المتحلقين به قد جاروه الى أبعد من ذلك , فلم يزعجوه بالتعرض لأي قضية من قضايا الفساد (الباردة) . اللقاءات كما أسلفت كانت ودية يغلب عليها الطابع الشخصي , وأيضا كانت الحوارات شعبية تقليدية , وفي وضع كهذا فان الذي يجري هو التلقين والتوجيه من طرف والاستماع من الطرف الأخر .
وبهذه الطريقة تمكن الأستاذ سيف العماري من إيصال رسالة محددة الى جميع المغتربين نصت صراحة بأن ما يجري في صعدة (تمرد) بدعم خارجي ولمصلحة طرف خارجي , ولابد من مواجهته بحسم واجتثاثه من جذوره بلا هوادة حفاظا على وحدة البلاد وسيادتها وأمن مواطنيها وسلامتهم –كما قال- هذه في تقديري هي الشق ( العاجل ) لمهمة هذا الوفد خصوصا وان أعضاء الوفد لم يتواجدوا معا إلا في مناسبات نادرة , فإذا كان رئيس الوفد قد أهتم بأبناء المناطق الوسطى الشمالية بصفته من تلك المنطقة كما أسلفنا , فان عضو الوفد الأستاذ غسان أحمد مدير عام مكتب الوزير قد نشط في تنفيذ برنامج مستقل ركز على المغتربين من أبناء محافظته (شبوة) بالإضافة الى الضالع وأبين , وركزت عضو الوفد الأستاذة بيجم العزاني مدير عام القطاع النسوي بالوزارة في برنامجها المستقل أيضا , على المرأة اليمنية وتفعيل دورها في المهجر.
تأليفة هذا الوفد وتقسيم المهام على أعضائه على النحو الذي أسلفنا والجهد المضني الذي بذله كل واحد منهم يشكل حالة متفردة لم أعرف لها مثيلا فيما مضى .
الأمر الذي يؤكد مدى حساسية الحكومة اليمنية وحرجها من تنامي دور بعض القوى في الوسط الاغترابي اليمني في الاتجاه المضاد وما تحقق لها من قضمات متتالية في كسب أنصار الى جانبها وتأليبهم ضد النظام اليمني بما مكنهم من إيصال أصواتهم الى منظمات أمريكية وشخصيات نيابية على مستويات مختلفة في المجتمع الأمريكي , كما يتضح من هذا الجو بأن إدارة أوباما تختلف كثيرا عن إدارة بوش في حدود ومستوى الحماية والرعاية للنظم الشرق أوسطية, و طالبت دول المنطقة العربية باعادة النظر في كثير من الاساليب والممارسات التي أضرت بمصداقيتها وانحرفت بواجباتها بعيدا عن متطلبات شعوبها , وإدارة أوباما مافتئت تؤكد اهتمامها ومناصرتها لحق الشعوب في الحرية والعدل .
والمعروف ان معظم القوى العربية , الليبرالية منها والإسلامية , وعلى امتدادها الإسلامي والإنساني , تقدم منذ سنوات تفسيرا لحالة العداء الشعبي المتنامي في الأقطار العربية والإسلامية للولايات المتحدةالأمريكية , يقوم هذا التفسير في مجمله على سببين , أولهما تجاوز العلاقة التحالفية الأمريكية مع إسرائيل ضد العرب الى مستوى التبني الكامل للمطامع الإسرائيلية وأجندتها في المنطقة . وثانيهما الحماية والدعم الأمريكيين للنظم العربية المستبدة والفاسدة ضد شعوبها . ودمج السببين في علاقة بينية يضاعف من الغضب والاحتقان الشعبيين , هذه الرؤية تلقى قدرا متناميا من التفهم والتأييد في الأوساط الرسمية والشعبية في المجتمع الأمريكي , والمنظمات الدولية , والتحول التدريجي الرسمي يسير بخطى تصالحية في تعاطيه المستجد مع هذه الرؤى , هذا ما يتضح بجلاء في أكثر من موقف وصعيد.
ولكن يبقى الفرق بين الأداء الرسمي اليمني وخصومه في المهجر الامريكي كالفرق بين أداء الجيش اليمني وجماعة التمرد في الشمال , فعلى مدى ست سنوات والبيانات العسكرية والسياسية تدعي سقوط المدن والمواقع والعتاد والمتمردين في يد الجيش بين قتيل وجريح وأسير , بينما الواقع يؤكد نفوذ المتمردين وتمدد وجودهم ليشمل مناطق جديدة بمرور الوقت , وتتأكد مصداقيتهم أكثر وهم يعرضون الأسرى من قوات الجيش بالكتائب والألوية , والمعدات والعتاد العسكري من عربات ودبابات وراجمات صواريخ , بل وطائرات.
الجهد الرسمي اليمني بوضعه الراهن لا يمكن التعويل عليه في حسم قضية , أياً كانت , ذلك ان المهمة التي يهتم بها الغالبية تتركز في خانة المصالح الشخصية , وبحثهم الدءوب في أي ظاهرة أو كارثة على نصيب من منفعة أو كسب , وهو في الأساس جهد مهلهل يعاني من علل واختراقات لا حصر لها , ووفد عابر بمهارة وحنكة هذا الوفد قد يحدث بعض الأثر الوقتي ولكنه لا يستطيع أن يطمس الحقائق , ولا يغير القناعات , ولا يعدل السلوكيات.