قبل أكثر من عقدين كتب د. عبد الله النفيسي مقاله المثير عن مستقبل التغيير الكبير في الجغرافيا السياسية لدول المنطقة وهو خلاصة لقراءاته وتحليلاته لدراسات أجرتها مؤسسات أميركية عن مستقبل دول الخليج العربي وهل ستبقى هذه الدول بخارطتها السياسية الحالية أم ستتغير بعد ثلاثة عقود؟ بحسب خلاصة المقال, وجَزمت الدراسة بأن التَشكّل الجديد سيفضي إلى تحول دول المجلس إلى ثلاث بدلا من ست دون توضيح صريح من هي الدول التي ستذوب حدودها وتنتهي وما هي حدود الدول الجديدة ومسمياتها؟ وذكر د. النفيسي فيما بعد بأن أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح استدعاه طالباً منه شرحا أكثر للدراسة وما هي اقتراحات د. النفيسي؟ وكيف يكون الاستعداد لهذه المرحلة إستراتيجياً بحسب المصلحة الوطنية للكويت؟ وأشار الدكتور النفيسي على الأمير أن تسعى الكويت للدخول في اتحاد كونفدرالي مع إحدى دول المجلس. وهو ما لم يتم وقد ذكر في حينه أن الكويت قد سعت لذلك ولم تستمر. على كل حال هذه الدراسة التي صدرت قبل أحداث كبرى في الخليج هي ضمن دراسات أميركية عديدة لا يمكن أن تعتمد كدراسة تُفضي بالضرورة إلى واقع ترسمه، خاصة بعد تعثّر المشروع الأميركي في العراق واضطراب قدرات سيطرته في آسيا ومنطقة الخليج العربي, إلا أن سيناريو التغيير الذي ذُُكر لا تزال مبررات قيامه متزايدة ليس في مسألة النزاعات الحدودية وحسب ولكن في قضايا إستراتيجية أخرى يهيمن عليها حراك دول المجلس الانفرادي نحو مسارات مختلفة وبرؤية يحكمها الفزع والاضطراب أكثر من الرؤية المستقلة والمصلحة الإستراتيجية, ولعل من أهم القضايا نزاعات الحدود التي برزت مؤخراً وخاصة بين الإمارات والسعودية ولذا سنستعرضها كأنموذج لهذه الأزمة.
ولقد تطورت قضية الخلافات المتصاعدة بين السعودية والإمارات وبدأت تخرج إلى السطح في وسائل الإعلام مؤخراً وكان من أبرزها مقال صحيفة الخليج الإماراتية للأستاذ عبد الخالق عبد الله الذي ردّ على ما نشرته وسائل إعلام سعودية غير رسمية من أن سبب توقيف العمل بالسفر بالبطاقات من الطرف السعودي هو الرسم المثبّت عليها والذي احتوى خريطة دولة الإمارات العربية المتحدة وفيها تبرز جليا الحدود القديمة (حسب الموقف الإماراتي والقطري القديم) التي تمتد من الإمارات إلى قطر دون اختراق للسعودية يفصل بين الدولتين عند مفرق العديد، وقالت صحيفة الخليج أن السعوديين درسوا البطاقة قبل ذلك ولم يعترضوا عليها وإنما هناك أسباب أخرى منها الغيرة بين الدولتين بحسب تقرير الصحيفة.
على كل حال فإن هناك قضايا عدة برزت بين الدولتين كاختلاف فرعي ورئيسي أحياناً كمقر البنك المركزي الموحد للاتحاد النقدي الخليجي الذي انسحبت منه الإمارات، وهناك أيضا قضايا ذات صبغة اجتماعية وإعلامية ترتبط بعضها بمشاريع مشتركة مع الولاياتالمتحدة ظهرت في الآونة الأخيرة يبدو أنها ساهمت في تأجيج الخلاف بين العاصمتين, وبالعموم فإن قضايا عديدة تمر على علاقات الدول الخليجية ومساراتها السياسية والاقتصادية التي بدأت تفترق باطراد وتدفع مع الأسف نحو سيناريو تفكك مجلس التعاون أكثر من وحدته, لكن قضية الحدود مهمة وستبقى مركزية في تقرير وضعية العلاقة بين دول المجلس وهدوئها واستقرارها وستستمر حاضرة عند كل أزمة سواء هذه الأزمة مرتبطة بالحدود أو بغيرها.
وهذه القضية التي تضمنت خريطة الإمارات الجديدة تثير من جديد مسألة النزاع الذي احتدم بين قطر والمملكة العربية السعودية إثر احتجاج الأولى الشديد على ما اعتبر أنه تنازل لحسم الخلاف الحدودي بين الإمارات والسعودية بقرار من الشيخ زايد تتقدم المملكة بموجبه نهائيا إلى المنطقة الممتدة بين قطر والإمارات وساحلها الخليجي, مما تسبب في حدوث مواجهة دامية مؤسفة في منطقة الخفوس استوجب علاجها سنوات من المحادثات انتهت إلى موافقة قطر على ترك اعتراضها وسحبه والتعامل مع الواقع بحسب الحدود الجديدة.
ولذلك فان إثارة هذا الملف في هذه المنطقة يثير حساسيات عديدة كان من المهم أن تُتجاوز بغض النظر عن من هو صاحب الاستحقاق التاريخي في مواقع النزاع, والذي كان يُعزز هذا التوجه حديث الجميع المتكرر عن روابط الوحدة والمصير المشترك إلاّ أنّ الواقع العملي لقضايا النزاع الحدودية لم يتجاوز هذا المنعطف الخطير وأثبت أنه يضم ألغاما بالإمكان أن تنفجر في أي لحظة لتوتير العلاقات الخليجية الخليجية.
وقضايا النزاع الحدودية ليست محتكرة في هذه المنطقة فقط فهناك الحدود البحرية بين الكويت والسعودية وما تبقى من ملف المنطقة المحايدة البرية وأيضاً اتفاقية الحدود بين سلطنة عمان والمملكة والشريط البري المتصل ببحر العرب وما قيل أنه ضُمن في الاتفاقية للمملكة مقابل التنازل عن مساحة من الربع الخالي لسلطنة عمان ولكن لم تتوضح الأمور بجلاء حتى الآن.
واتصال قضايا الحدود بجغرافيا المملكة أمر طبيعي بحكم اتساع رقعتها الجغرافية وطريقة الإنجليز في ترسيم الحدود التي كانت تقوم على تجزيئات تفصيلية تُبقي مسألة النزاع حولها قائماً مع إعادة التذكير بأن تشكّل الدولة الوطنية في الأقطار الست حديث وموروث من العهد العثماني والانتداب الإنجليزي, ولذا فباستثناء الحدود بين السعودية والبحرين وهي حدود بحرية وحُسمت مبكرا فبقي هناك تفصيلات حدودية مهمة تندفع على المشهد وتُعقّد العلاقات بين دول المجلس. إن الإشكالية الإضافية في قضايا النزاع الحدودي هو بروزها مجدداً في وقت حساس للغاية تبرز فيه إرهاصات العهد الجديد للخليج الذي يحمل مستقبلاً جديداً لا يُعرف أين ينتهي به المسار إثر تبدلات المنطقة الضخمة وإقرار الولاياتالمتحدة بالقطب الإيراني كشريك أساسي في منطقة الخليج راضية أو مرغمة، وآثار هذا الاستقطاب في صياغة السياسة الخارجية لدول المجلس التي أخذت تتباين وترتكز في علاقاتها مع واشنطن بصورة فردية كلياً والتنافس بين دول المجلس على تنسيق المواقف مع المحور الدولي.
إضافة إلى افتراق دول المجلس في طبيعة علاقاتها مع السلطان الجديد للخليج وهي إيران بعد ما برز التقدم الكبير في العلاقات بين الأخيرة وبعض دول المجلس, كل ذلك مع حشد من الصراعات الداخلية وعدم الاستقرار الاجتماعي واتحاد دول المجلس على إدراة وضعها الداخلي في ظل هذه التعقيدات عبر إدارة اللعبة لترسيخ النفوذ للنظام الحاكم أمنيا وبإشغال القوى الداخلية بأجندة عقيمة فيما يُستبعد العمل الإصلاحي الوطني كلياً وتترك القضايا على هامش المناورة الخطرة والاختراق المركزي للمشروع الأجنبي الشامل, وهي إشارات مهمة تُطلق السؤال الكبير متى ينهار مجلس التعاون الخليجي وهل ستتغير كلياً خارطته الحدودية.
هذا السؤال الكبير تحركه عوامل إضافية من الإشكالات ولعل من أهم هذه العوامل في تأزيم المشهد الخليجي اندفاع دول المجلس إلى مواقف متعددة ومتباينة بدأت تتزايد مؤخرا إثر قناعتها بقضيتين رئيسيتين الأولى انتهاء الوضعية التي كانت تحتاجها واشنطن من صيغة دول المجلس مجتمعة وبالتالي لم يعد وجود مجلس التعاون الخليجي حاجة أميركية والاحتياج القومي الداخلي لدول المجلس من خلال طموحات شعوبه ومصالحه العليا لا يكفي لصموده بحسب ما اعتادت عليه السياسة الخليجية.
والقضية الثانية ما أصبح يُدركه الساسة الخليجيون من أن الاعتراف بالشراكة الإيرانية الأميركية أصبح واقعاً في المنطقة بعد جولة الصراع والتوافق على المرحلة الانتقالية بين القطبين والتي تعززت مؤخراً برسالة أوباما إلى المرشد الإيراني, ونذكّر في هذا الصدد بالدراسة التي سبق أن نشرناها في الجزيرة نت عن تأثيرات الصفقة بين واشنطن وطهران على مستقبل الخليج خاصةً بعد أن اتضح أن الحملات الإعلامية بين القطبين لم يكن لها أي تأثير على مستقبل العلاقات بينهما والتوافقات الجديدة, وعليه فقد اندفعت دول المجلس منفردة تخطُّ لها برنامجا يؤمّن مستقبلها بين الشريكين دون مراعاة للموقف الجمعي المشكوك فيه أصلاً بعد سقوط الضمانة الأميركية بحسب ما اعتادت عليه دول المجلس, ومع تزايد أجواء الشك بين دول المجلس والبحث عن المصلحة الذاتية لأمن المؤسسة الحاكمة ترتفع احتمالات التصدع الكبرى, ولا يُغيّر من ذلك أجواء العلاقات العامة الودية مهما بدت حميمة -فنقد الخشوم– كما هو العرف الخليجي والاجتماع في مناسبات مختلفة وغيره لا يُغيّر من قواعد اللعبة المتأزمة في أروقة السياسة.
وبالتالي دخول الولاء المزدوج أو التحالف المزدوج لبعض دول المجلس مع الحالة الجديدة للخليج ستضفي تعقيداً كبيرا على علاقات دول مجلس التعاون, وخاصة مع الاضطرابات التي تحيط بالمنطقة في العراق واليمن وبرنامج القاعدة وصراعاتها وأوضاع الداخل غير المستقرة والملغى منها كليا برنامج الإصلاح الوطني, بمعنى أن قضية التواصل مع الشعب لتحقيق قوة قومية متحدة بشراكة شعبية حقيقية مع الداخل هي في الأصل مستبعدة.
ومما يساهم في تعقيد الموقف ويُشير إلى اضطراب السياسة الخارجية في الخليج ما برز مؤخراً من بعض الشخصيات في الأسر الحاكمة لاستدعاء التحالف مع إسرائيل لتحقيق ما يظنونه توازناً في داخل الحكم أو مستقبل الدولة سواء كان ذلك سراً أو جهراً تحت مظلات إعلامية, ويبدو هنا حجم الحماقة والقراءة السطحية لأولئك الساسة في تقدير قدرة تل أبيب على دعمهم مباشرة ليس لأنها لا تريد موطئ قدم أكبر في الخليج ولكن لكون أنّ المنطقة دخلت مداراً متوتراً لم يعد ينفع فيه مثل هذه التوجهات وإن تبنّاها الإعلام الغربي مرحليا ولكن سيُدرك السياسي المتهور لاحقاً أنه لا يُمثّل طرفا في قاعدة اللعبة الكبرى في المنطقة إنما مجرد كومبارس انتهى دوره بانتهاء تسويقه لآرائه وبالتالي ما قام به يرتد على موقفه الوطني في دولته ليزداد ضعفا وانكشافا ويُعرض أمنه الوطني والقومي للمزيد من فقدان الثقة من خلال سياساته. على كل حال فإن عواصف التغيير التي لا تهدأ واضطراب موقف دول المجلس وتمزقها بين القطبين أصبح حالة صاعدة كلها تشير إلى قرب انهيار مجلس التعاون الخليجي حتى مع المعالجات الموسمية السطحية, وأن هذا التغيير الذي سيترتب على التغيرات الكبرى المصاحبة لسقوط المجلس تدفع بالفعل كقراءة مستقلة إلى خارطة جديدة في الخليج لا ندري من هو القطر والنظام السابق فيه.
وقد يُطرح على هذا التصور سؤال مشروع وحيوي ولماذا تصل الأمور إلى هذا المستوى رغم الإمكانيات الضخمة لدول المنطقة, وهي إمكانيات حتى هذه اللحظة قادرة بالفعل على التحول إلى حلف إستراتيجي؟ والجواب باختصار ووضوح أنّ هذه الإمكانيات لا يمكن أن تُفعّل دون إرادة استقلالية عن الطرف الآخر الدولي ومن ثم فإن الثقة تقوم بين أطراف المجلس على قوة إرادته أولاً أما من ضيّع إرادته ولا يزال فسيفرض عليه الآخرون الأقوياء إرادتهم. هكذا كانت ترسم خارطة الخليج.