العدوان الأمريكي يستهدف الحزم بالجوف ب15غارة منذ الصباح    مجلس القيادة يؤكد دعم الحكومة لإنهاء التشوهات النقدية ويشدد على انتظام عملها من الداخل    الرهوي يناقش مع الوزير المحاقري إنشاء منصة للأسر المنتجة    بمتابعة من الزبيدي.. إضافة 120 ميجا لمحطة الطاقة الشمسية بعدن    الزعوري يبحث مع الأمم المتحدة تعزيز حماية وتمكين المرأة في اليمن    الكثيري يبحث مع فريدريش إيبرت فتح آفاق دعم دولي للجنوب    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    عطوان ..لماذا سيدخل الصّاروخ اليمني التّاريخ من أوسعِ أبوابه    مؤسستي الكهرباء والمياه بذمار تحييان الذكرى السنوية للصرخة    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    إلى رئيس الوزراء الجديد    كيف أصبح السيئ بطلاً؟    أرواحهم في رقبة رشاد العليمي.. وفاة رجل وزوجته في سيارتهما اختناقا هربا من الحر    القسام توقع قوة صهيونية بين قتيل وجريح بكمين مركب في خانيونس    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    وسائل إعلام غربية: صدمة في إسرائيل..الصاروخ اليمني يحرق مطار بن غوريون    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    ورطة إسرائيل.. "أرو" و"ثاد" فشلا في اعتراض صاروخ الحوثيين    تدمير المؤسسة العسكرية الجنوبية مفتاح عودة صنعاء لحكم الجنوب    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    تطور القدرات العسكرية والتصنيع الحربي    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    صنعاء .. طوابير سيارات واسطوانات أما محطات الوقود وشركتا النفط والغاز توضحان    العشاري: احراق محتويات مكتب المعهد العالي للتوجيه والارشاد بصنعاء توجه إلغائي عنصري    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لكي لا نتعفن مثل حيوان نافق!
نشر في المصدر يوم 01 - 11 - 2011

في يوليو الفائت، أطلقت دعوة لإعادة النظر في المعاني المستوحاة من المثالين التونسي والمصري ومعاييرهما، لكلمات مثل: النصر والنجاح والفشل والكسب والخسارة، كخطوة أولى في طريق الإنجاز. وقلت: أن ترعى وتضمن الأمم المتحدة والقوى العظمى ودول الإقليم عملية سياسية تفضي إلى تغييرات عميقة تطال بنية الدولة والنظام السياسي والانتخابي وتسبقها أو تتبعها انتخابات رئاسية، لهو نصر مبين للثورة. فمجرد أن تجرى انتخابات ليس فيها الرئيس صالح مرشحا ولا أي من عائلته، ليس بالأمر الهين. حتى لو احتفظ صالح بتأثير مؤقت على المرشح الفائز، إلى أن يتم إرساء موازين قوى جديدة.
ولا زلت أحمل القناعة نفسها تقريبا رغم كل شيء. المؤتمر الشعبي العام أعلن بطريقة شبه رسمية عن مرشحه للانتخابات الرئاسية، عبدربه منصور هادي. وتقول المعلومات أن الارياني قدم مقترحات للسفراء الأجانب تتضمن قبول صالح بأن يتولى النائب الإشراف على إجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة ومعظم الصلاحيات التنفيذية. وإلى جانب محتويات المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، أجازف إلى اعتبار أن رفض هذه الحلول هو محض انتحار، لا يسعني تخيل نتائجه.
ليست الغاية هنا زرع اليأس والتثبيط، لكنها دعوة جادة للمراجعة ورسم الاتجاهات والأولويات والأساليب، في ضوء حيثيات الجغرافيا وأحكام ومعطيات التاريخ، وفي ضوء ما يبدو أنها الخصائص العامة المشتركة للحقل الاجتماعي الذي تتكثف فيه أحداث الثورة، ناهيك عن حقائق موازين القوة.
قبل بضعة أيام كتبت رسالة لأحد أصدقائي الذي يشاطرني الكثير من وجهات النظر حيال الشأن العام، قلت له أن الثورة هي علاج الحالات الحرجة، ومثل أي عقار طبي، الجرعة الفائضة قد تقتل المريض! وكأي علاج آخر، تنقسم إلى أصناف بحسب تفاوت مفعولها، وكل صنف يتألف من عناصر تختلف وتتفق.
ومن عالم الطب يمكن لمن يحدد مصائر المجتمعات والدول استعارة أشياء من قبيل التشخيص الجيد، والمقادير المناسبة، والتعاطي المناسب بجرعة مناسبة، والتوقف عن التعاطي في الوقت المناسب.
وإذا كان من شأن الثمرة أن تسقط عندما يتجاوز نضجها الحد المطلوب، فإن حكم الرئيس صالح كان يبدو لبعض الوقت مستوفيا لهذا الشرط، أي أنه كان ناضج كفاية ليتهاوى بالسرعة التي كنا نتصورها. كاد هذا أن يحدث، بل حدث جزئيا، غير أن عوامل تدخلت فمنحته عمراً إضافياً وغير مستحق.
ويأتي على رأس هذه العوامل، جهل الثوار بالتاريخ وبخصائص الحقل الاجتماعي الذي تدور الأحداث في إطاره أكثر من سواه. أقصد هنا شمال اليمن، وعلى وجه الخصوص صنعاء والمناطق المحيطة، وأحيانا تعز. فهذه الجغرافيا هي المنصة الأبرز التي لم يكن مصادفة احتضانها للحدث الثوري الراهن وهي تتأهب الآن لاحتضان نهاياته أكانت سعيدة أم حزينة.
وهي الجغرافيا ذاتها التي شهدت على مدى العقود الماضية حركات وطنية وانقلابات وثورات وأشباه ثورات، حالف الحظ بعضها في حين حصد البعض الآخر بؤس الخسران. لقد تبين لي أن القاسم المشترك بين الثورات والحركات التي فشلت هو أن المخططين للثورة كانوا يدعمون انسلاخ جانب من نخبة الحكم على مستوى العائلات والسلالات المتنافسة، وتوجيهه لإسقاط جانبه الآخر- أتحدث عن ثورات شمال اليمن.
هناك سمة مشتركة أخرى بين الثورات التي أخفقت، وهي أنها كانت قبل أوانها بطريقة أو بأخرى، أي أنها كانت استجابة لحوادث لم تساهم في صناعتها، فتتجه لتبنيها وتؤسس عليها نوايا وتطلعات الثوار، وهي إلى جانب هذا كله، كانت ضحية الشائعات والأوهام وأخطاء فادحة في الحسابات.
شائعة موت الإمام يحيى، مثلا، دفعت صحفاً عربية إلى نشر أن عبدالله الوزير تولى الحكم، ولما تأكد لهم بأن الإمام لم يمت وجد الثوار أنفسهم في مأزق، وتحت ضغط الشعور بالخطر والإحباط قرروا قتل الإمام والسير في كشف مخططهم وتنفيذه، فالتقط الرأي العام ما يحدث على أنه صراع بين عائلتين متنافستين هما آل الوزير وآل حميد الدين، أكثر من كونه ثورة. اغتيال الإمام يحيى ومعه رئيس وزرائه وحفيده بدا قاسياً، ولسوف يهز مشاعر عامة الناس، وربما ساهم في إضعاف التفافهم حول الثورة.
غالبية الجيش انحاز لمن بيده الخزائن، فالثوار لم يضعوا أيديهم عليها من البداية، وأغرى الإمام احمد القبائل بالذهب والنقود، وفتح شهيتهم لنهب صنعاء.
مثال آخر: حركة 55، وسوء فهم آخر جعل الموسيقى العسكرية تصدح في تعز بمناسبة تنازل مزعوم للإمام أحمد عن السلطة لأخيه عبدالله، طبعاً قبل أن يعود العلماء وينتزعوا من الإمام تنازلاً صريحاً ما لبث أن التف عليه وأحهز على ثورة كررت نفس أخطاء ثورة 48.
الثورات التي أخفقت واجهت إلى جانب هذا وذاك، مرارة خذلان الدول المجاورة والعالم. أتعرفون أن موقف آل سعود لعب دوراً مهماً في إجهاض ثورة 48 وتأجيل نصر ثورة سبتمبر؟ ولمن يرغب في فهم لماذا يتصرف الرئيس صالح بتهافت يبعث على الخزي مع السعودية، حتى أن أتباعه أطلقوا على جمعتين أسماء متعلقة بالسعودية، آخرها جمعة «الأمير سلطان»، فعليه أن يراجع مراسلات الإمام أحمد للملك عبدالعزيز بعد اغتيال والده عام 48، وكيف أنه بالغ في التذلل لدرجة انه طلب من الملك أن يعتبره واحدا من أبنائه، وحذره من أن الثوار إخوان مسلمين وأن حركتهم «الهدامة» لن تقتصر على اليمن وحدها.
ثم إن برقيات الاستغاثة التي كان يطلقها عبدالله الوزير للجامعة العربية لم تلق آذاناً صاغية. كان يتوسل إليهم إنقاذ صنعاء من القبائل المتوحشة، بحسب وصفه، وإغاثة الأطفال والنساء، وطلب منهم في برقية أخرى إرسال طيران حربي يحول بين الثوار وسقوط صنعاء، وتهيئة أجواء التحكيم، لكن الطلب هو الآخر قوبل بالتجاهل التام، ثم كان ما كان.
على أن ثورة سبتمبر حاولت تجنب هذا الخطأ، وكانت الأسماء المطروحة لقيادة الثورة من خارج دائرة النخبة التي كانت تحتكر الشرعية السياسية ذات المرجعية الدينية، ومع ذلك واجهت هذه الثورة تحديات جسيمة كادت أن تطفئ جذوتها، لولا تدخل القوات المصرية، التي كانت بمثابة «ناتو» تلك الحقبة.
من يدرس الأخطاء التي وقعت فيها تلك الحركات من الصعب ألا يخاف. ولا بد أنه من الحماقة بمكان، الاستنكاف الذي يبديه المتصدرون للمشهد، عن مراجعة سجل الأحداث تلك بشكل منهحي وبصفاء ذهن لاستخلاص الدورس وفهم ديناميات الصراع في مناطق الثورة والسمات الشخصية والنفسية التي تميز ابناءها والأمور التي كانت ترسم حركتهم في المجال العام. مثل ذلك الاستنتاج الإنثروبولوجي القيم الذي يفترض بأن القبائل المحيطة بصنعاء لا تشارك عادة لوقت طويل في حركات ثورية ذات مضمون تجريدي صرف، بل تنخرط بحماسة في سبيل غايات حسية أكثر وقريبة من احتياجاتها الأساسية.
عندما يتعلق الأمر بصناعة مستقبل أمة، النية الطيبة وحدها لا تكفي. في واحدة من محاكماته، يقول اللقية، وهو أحد منفذي محاولة اغتيال الإمام أحمد في الحديدة والتي يقال أنه مات متأثراً بمضاعفات الجروح التي أصيب بها: «كنا نريد أن نزيح هذه الصخرة عن الطريق ثم نعمل أي شيء».
يعلق البردوني على كلام اللقية بهذه الطريقة: فقد رأى هؤلاء الضباط الثلاثة إمكان التغيير الثوري في غياب الإمام أحمد، دون أن يفطنوا للواقع العام الذي كان الإمام أهم ثمراته، ودون أن يفطنوا لبقية القوى بما فيها ولي العهد بصنعاء.
ويتساءل البردوني: فهل كانوا يثقون بالجيش وباستعداده لمواجهة الواقع بعد قتل الإمام؟ «ربما قام الجيش في صنعاء وفي سائر المراكز بواجبه لو تم قتل الإمام وربما ينقسم إلى جيشين كما حدث في عام 55»، يرد البردوني. بالطبع لم يقم الجيش بواجبه ولم ينقسم!
هذا لا يعني أن ثورة هذه الايام ستجني نفس المصير بالضرورة، هناك فوارق نسبية بالتأكيد على صعيد الأساليب والسياقات المحلية والدولية، لكنها لن تحصد النجاح المأمول الذي تطرحه الشعارات، في أحسن الأحوال قد تنتهي بتسوية يخرج بموجبها صالح عن السلطة ويحتفظ بمكانة سياسية في المؤتمر، وفي أسوأ الأحوال قد تنتهي بكارثة لا أول لها ولا آخر.
الحكم على ما يحدث حالياً، ضرب من التهور، لكن «لشعب يريد محاكمة السفاح» ليس برنامجاً سياسياً لثورة مهما كانت المسوغات. نغفل من المثال المصري والتونسي دور الجيش كمؤسسة وطنية حافظت على قدر كبير من الاستقرار وضبطت إيقاع الصراع، ونغفل من المثال الليبي على علاته، دور حلف الناتو. ومع ذلك نواصل ممارسة القص واللصق بهستيريا لا تكل ولا تمل. هل نحن جاهزون للقيام بما يحتاجه تنفيذ هذه المطالب؟ هل حسبنا مدى إمكانية بلوغها، وشروطه الموضوعية؟
أي أخوتي، لست بمشفق على الرئيس صالح، ولقد سئمت تكرار أنني لا تربطني به منفعة ولا عاطفة. أنا مشفق على بلدي من المنحدر السحيق الذي تدفعونا إليه وبأطيب ما في العالم من نيات.
باختصار شديد، إن تعثر الثورة نتيجة الحسابات الخاطئة والواقع غير المواتي وعوامل أخرى كثيرة، لا يعني أنه بقي للحكام فرصة للبقاء حكام، هذا غير ممكن، حتى لو ضمرت الثورة وتلاشت. الخطر الآن محدق باليمن كدولة وليس بالسلطة الحاكمة ولا بالانتفاضة الشعبية.
في جميع اللحظات التي أمعن النظر فيها تجاه مكونات المشهد اليمني العام وملابساته، أنتهي إلى الخلاصة نفسها، والتي مفادها أن اليمن تواجه حاليا، وربما خلافا لبقبة دول «الربيع العربي»، إفرازات وتداعيات ما يسمى «فشل الدولة». العالم هكذا يرى ما يحدث، وحدهما الثورة والحكم لا يرغبان في رؤية الأمور على هذه الشاكلة. لو اقتصرت المهمة على اسقاط نظام حكم مستبد يستخدم جهاز الدولة لبسط نفوذه في أنحاء البلاد، لما انتاب أحد كل هذا القدر من المخاوف والحسابات الدقيقة واستحضار العواقب.
نحن دولة شاخت في سن مبكرة، وقلة قليلة من يتسنى لهم تخيل ما يعنيه فشل الدولة في حالاته القصوى. لا تتمحور القضية هنا حول من سيحكم، بل ماذا يمكنه أن يحكم؟ بقدر من التبسيط، دعونا نتفق على إلقاء اللائمة على حكم الرئيس صالح في بلوغ اليمن إلى هذه الحالة، على الرغم من تدخل عوامل ومعطيات أخرى، لكن أليس من حسن التدبير أن نقوم باستئصال هذا الداء بطريقة لا تقود إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى حد الوفاة؟
لمن يود معرفة خلفية موقفي المحكوم عليه بالتعقل المفرط وربما تم وضعه في دائرة الاشتباه، أعترف مجددا بأن تصوري المتشائم لمآلات الوضع في اليمن بالذات هو الذي جعلني أتصرف طيلة الشهور الماضية وأكتب بطريقة تحمل على الظن بأنني ثوري أقل مما يجب! ومن سوء الحظ ان لا أحد رسم سيناريو مغاير ومقنع للمصير الذي تحزم اليمن أمتعتها إليه. أتجاهل عادة تفاؤل المغفلين المبني على آمال وتهويمات ليس لها ما يسندها.
الفشل التام للدولة يا سادة، يعني بلغة الباحثين الجدد في مصائر الأمم وتحولاتها: اختفاء الدولة من الخريطة، أو نشوء دويلات متعددة على أنقاضها، أو الفوضى والضياع الكامل. أو، وهذا ما آمله، أن يكتب لنا، نحن اليمنيين، النجاح في إعادة بناء الدولة الوطنية اللامركزية حيث تسود الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، وحيث العدالة والمواطنة والقانون والعمل والإنتاج.
وللمرة للألف، أكرر ما ذهب إليه الأمريكي فريدمان عن كيف أننا بحاجة إلى الزعماء الشجعان، زعماء من طراز نيلسون مانديلا، ذلك النوع من الرجال الأفذاذ الذين يتمتعون بضبط النفس ونفاذ البصيرة والجرأة والصبر و"الحياد السامي" بالتعبير النقدي لسوزان سونتاغ. القرار الأممي خطوة في الاتجاه الصحيح، أتمنى أن تتعاطى معه الأطراف المعنية بمسؤولية وحسن نية. لا يتملكني الخوف من احتمالية حدوث تدخل دولي مباشر على غرار ليبيا والعراق، ما يفزعني هو أن يتركنا العالم نتعفن مثل حيوان نافق.
لا أقصد أنه لو لم تقم ثورة لربما كنا تجنبنا فشل الدولة. أتذكر أنني كتبت مقالة في أكتوبر 2010، أي قبل سنة بالتمام من الآن. كانت المقالة تنطلق من أخبار تحركات إنشاء ما سوف يطلق عليه «ندي أصدقاء اليمن» لتشرح ما ترمز إليه اليمن بالنسبة للمجتمع الدولي، والكيفية التي ينوي بها التعامل مع هذا البلد العليل الذي دخل عمليا غرفة العناية الفائقة.
فشلت الحكومة اليمنية في استيعاب كل الأفكار والسياسات التي كان المعنيون بالشأن اليمني يطرحونها بين فينة وأخرى. في لحظة معينة بدا وكأن القنوط سيطر على المهتمين الدوليين بعد أن أدركوا كم أن جهودهم عديمة النفع، وأن من دواعي الفطنة وبعد النظر، دراسة خيارات أخرى على أساس أن الدولة في هذه البقعة من الأرض التي أكسبها بعض الاهتمام ما يشكله تنظيم القاعدة من خطورة على الأمن العالمي، تسير حثيثا إلى الزوال.
راحت الخارجية الأمريكية تصغي باهتمام للأصوات التي كانت تقلل من خطر فشل الدولة في اليمن، تلك الأصوات التي تستند في وجهة نظرها إلى نماذج سابقة تجشمت خلالها واشنطن عناء الحيلولة دون انهيار دول مثل باكستان، لكن جهودها كانت تتكلل بالفشل. اثبت بعض الخبراء أن مقدار ما يستفيده تنظيم القاعدة من الدولة الضعيفة أكثر من الدولة الفاشلة، بمعنى ان سيناريو فشل الدولة قد يحتل أفضلية في المستقبل.
وفيما يخص اليمن، ذكرت أن صانع القرار الأمريكي أخذ يدرس مؤخراً مسح سوسيولوجي لليمن توصل إلى التقليل من تداعيات فشل الدولة في اليمن على الأمن القومي الأمريكي. فاليمن، طبقا للدراسة، يتمتع ببنية اجتماعية عصبوية قادرة على إنتاج قانونها الخاص وإدارة شؤونها بمعزل عن الدولة المركزية. واستطاع الباحث، بحسب المعلومات، تقليص المخاوف الأمريكية من خلال تمييزه بين نظامين اجتماعيين متباينين: النظام الاجتماعي الأفغاني، والنظام الاجتماعي اليمني.
أريد القول أن الثورة ليست بأي حال وراء كابوس فشل الدولة. كان هذا قدرا يتربص بنا حتى لو لم تندلع ثورة، على أننا فيما لو حققنا انتقالاً سلمياً للسلطة، سنكون مدينين بالفضل للثورة في تخليص اليمن من السقوط الرهيب في بئر الهلاك. كنت أريد تذكير النخبة والناشطين في الثورة بهذه الحقائق لكي تكون في الحسبان على الدوام عند اتخاذ القرارات وصياغة الخطاب السياسي والشعارات. أعرف ان أمرا كهذا لا يكاد يغيب عن أذهان سياسيين مثل الدكتور ياسين والآنسي والارياني، لكن لا ضير من تحفيز الوعي لدى جميع اليمنيين بحقيقة ما هم عليه.
الثورة وضعت اليمنيين وجهاً لوجه مع العلل التي تهدد وجودهم وآمالهم ومستقبلهم. لكنها مثلما منحتهم فرصاً عظيمة، كشفت لهم هول المخاطر التي كانت محدقة ببلادهم بشكل لا مرد له. نحن نتعامل مع مريض في لحظاته الحرجة، وهذا يستدعي غاية الحذر وبذل كنوز من الحصافة والتأني والرفق. وما كتبته ليس دعوة للتراجع، بقدر ما هي مساهمة في توصيف الحالة من منظور أوسع. وظني أن الثورة كما يحلو لي أن أفترض، هي حاصل فعل آخر القدرات المناعية في جسد يوشك أن يفارق الحياة، لهذا آمل أن نتصرف بطريقة لا تحول الثورة إلى سبب آخر في الوفاة.
إن التبسيط والتضليل الذي يمارسه بعضنا يثير اشمئزازي. هذا كل ما في الأمر.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.