بين عشية وضحاها انقلب العاملون في الإعلام الرسمي على حساب هذا الشعب المنكوب إلى منظرين للتدين ومروجين للطاعة العمياء لولي الأمر المزعوم، وقد عرفناهم لعقود من الزمن، ينتظرون سبة أو هفوة من غيرهم يطيرون بها فرحاً، وإلا افتعلوا مادة إعلامية يقتاتون عليها إلى شطر ليلة لا وتر فيها، في مجالس على الهواء يخلطون فيها الحابل بالنابل، وقد كانوا لا يعرفون كتاب الله إلا في تلك المقاطع التي يفتتح بها البث الرسمي لهذه القناة أو تلك، أو ما يسمى أخيرا بقنوات الضرار التي أنشئت لتأصيل مفاهيم الذلة ونزع الحقوق وكبت الحريات، على غرار جمعيات الضرار ومساجد الضرار واستقدام أئمة المساجد من خارج البلد للضرار، تثبيتا منهم للطغيان، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل بكل أنواع القبائح الإعلامية والمحرمات الأخلاقية، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى في طاعة ولي الأمر، وأهل الإيمان والحكمة يعلمون إنهم لكاذبون.. وبعد مضي ما يقارب تسعة شهور على انتفاضة الشباب المباركة في جميع أرجاء وطننا الحبيب، ما زلنا يوميا نسمع الحديث الممجوج والمكرر لدى هؤلاء الإعلاميين الذي لو حصرت مفرداته لأحاطت بها ورقة تنزعها من دفتر ابنك المدرسي أو مذكرة ملاحظاتك اليومية، وهي لن تخرج عن مصطلح «ولي الأمر» وما يلحق به من المصطلحات التي يقصد منها التأثير على العاطفة الدينية الأصيلة في نفوس العامة من أبناء الإيمان والحكمة.. كان لنا رجاء أن يكون للمهنية الإعلامية دور في دفع هؤلاء إلى اللحاق بإخوانهم في ساحات التغيير والحرية، وكنا نود لو سكتوا على الأقل وكفوا عن الخوض في بعض المواضيع التي كان ضيوفهم فيها بعض أدعياء العلم الشرعي أو بعض طلبة الكليات الذين «تزببوا قبل أن يتحصرموا», فظُلموا في الحديث عن أطروحات لو سئل عنها الراسخون في العلم لتوقفوا خشية أن يكونوا من الظالمين أو في ركاب الظالمين برهة من الزمان.
لقد أخذ علماءَ الأمة الحذرُ الشديد في مناقشة المواضيع التي تُبنى عليها حقوق العامة، ولقد اهتم علماء الفكر الإسلامي اهتماماً شديداً ببيان علاقة الولاة بالعامة، وتوضيح صفاتهم وحقوقهم وواجباتهم تجاه من يلونهم، حتى رفض بعض العلماء مصطلح «سلطات الوالي» أو «سلطات ولي الأمر» احتياطاً منهم وسداً لذريعة الطغيان من هذا الوالي أو ذاك في يوم من الأيام، وفضلوا أن يقال في وثائق الشعوب ودساتيرها «واجبات الوالي» أو «واجبات الرئيس أو الأمير» ليلتزم بأدائها تجاه أمته أو شعبه كاملة غير منقوصة، وليس له فضل على أحدهم إلا بما أعطاه الله بهذه الولاية من الهيبة والوقار والتمكين. وقد أكثر الإعلام الرسمي في الفترة الماضية من عمر هذه الثورة المباركة من التطبيل لمصطلح «ولي الأمر» من غير وعي، وهو مصطلح شرعي ولا ريب, وجيء يومئذ بجمعية علماء اليمن ليفعلوا فعلتهم في بيانهم الممقوت, وما أكثرهم بعلماء بشهادة الحاضرين منهم، وقالوا بقول غيرهم من أصحاب المصالح الدائمة والمنافع المؤقتة والخائفين من عدالة أبناء اليمن. فأين ولي أمرهم مما ذكره علماء الأمة في واجبات الوالي وشروطه وصفاته؟ إنه ليدهشك عندما تقرأ هذا النص في شروط الوالي في كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي, وتعجب كيف غفلت الأمة عن هذه المعاني العظيمة التي كانت من المسلمات في تأريخ أمة الإسلام، يقول رحمه الله في صفحة 66: «والشرط الخامس: العدالة، وهي معتبرة في كل ولاية، والعدالة - أي في الوالي - أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم, متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه, فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته، وتصح معها ولايته، وإن انخرم منها وصفٌ منع من الشهادة والولاية، فلم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم». وقال رحمه الله بعد ذكر واجبات الإمام أو الوالي : «وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة، ما لم يتغير حاله .. والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته, والثاني: نقص في بدنه، فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين : أحدهما ما تابع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منها فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات، وإقدامه على المنكرات، تحكيماً للشهوة، وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها, فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد». وهؤلاء الإعلاميون في القنوات الرسمية اليوم، ومن معهم من ضيوف حلقاتهم، مجمعون على وجود الفساد من أعلى قمة في هرم النظام اليمني إلى أسفلها، ولا شك أن هذا الفساد ناتج عن تقصير ولي الأمر في أداء واجباته التي من أوضحها حفظ حقوق الناس وإقامة حدود الله على البغاة والمفسدين، ولن ينكر الصغير والكبير من أهل اليمن المظالم الواقعة في كل دوائر هذا النظام والموثقة من سنين، وهي برهان كاف على عجز علي عبدالله صالح الواضح في التحكم بمقاليد الأمور في البلد أو على تواطؤ منه على هذا الفساد الحاصل، فضلا عن معرفة العقلاء من أهل اليمن بصفات هذا الرجل التي لا تجعله موثوقا في ولاية الناس ورعاية مصالحهم، وإذا كان الماوردي (رحمه الله) تحدث عن مجرد الشبهة التي تجرح العدالة فإن الشبهات تواطأت على صاحبنا، بل أصبحت حقائق وأرقام تتحدث عنها المنظمات والهيئات المراقبة للوضع في اليمن, والله المستعان. يقول الإمام الغزالي رحمه الله في «الإحياء»: «إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان». ويقول الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» وهو يتحدث عن مخالفة الخليفة لأحكام الشريعة وعدم خضوعه لأحكامها : «فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن زاغ عن شييء منهما منع من ذلك, وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يُؤمن أذاه إلا بخلعه خُلع وولي غيره»، وقال أيضا في معرض كلامه عن عدم خضوع الحاكم للشريعة: «والواجب إن وقع منه شيء من الجور، وإن قلّ, أن يُكلم الإمام في ذلك ويمنع منه, فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو الأعضاء, ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه وجب خلعه, وإقامة غيره ممن يقوم بالحق». نقلت هذه الكلمات وأنا أعلم أن كثيرا من مفكرينا وعلمائنا قد بينوا ضوابط مصطلح «ولي الأمر», ومدى توفر هذه الضوابط في الحالة اليمنية، سواء بالكتابة أو بالمشاركات الإعلامية المسموعة والمرئية، خصوصاً في معرض ردهم على بيان ما يسمى بجمعية علماء اليمن، ولكنه البلاغ الواجب والمكمل الذي يفتح المجال لإنشاء القناعات الكافية والمؤثرة لنصرة حقوق هذا الشعب المكلوم.. وإيمانا منا بأن القلوب بيد الله جل وعلا يصرفها كيفما شاء سبحانه، فإننا نأمل منه توفيقا لمن فيه خير أو بعض خير من إخواننا الإعلاميين في دوائر النظام ومن يرتاد حلقاتهم وقنواتهم من طلبة العلم والمثقفين ليلحقوا بإخوانهم في الساحات للعمل على إبدال الجور بالعدل، والحرب والدمار بالسلام والبناء ليمن جديد يسوده التعاون على البر والتقوى. المصدر أونلاين