أن تزور مخيم المزرق للنازحين في مهمة استطلاعية وتعود في اليوم نفسه من تلك المنطقة التهامية الحارة والنائية إلى صنعاء، فتلك مهمة لا شك ستكون شاقة. فجر الخميس الماضي انطلقت من صنعاء بمعية اثنين من الأصدقاء، وعند الظهيرة كنا في مخيم المزرق. حين غادرت صنعاء كانت لدي معلومات كثيرة لكنها غير مترابطة، عن معاناة النازحين جراء الحرب المستعرة في صعدة، وأوضاع المخيمات التي أُعدت لإيوائهم، والآن بعد زيارتي لهم بإمكاني أن أسرد لكم حجم المعاناة الحقيقية التي يعيشها النازحون؛ وأن ترى غير أن تسمع. صادفت زيارتنا للمخيم اليوم الذي حُدد لتوزيع المخصصات الشهرية من المواد الغذائية على نازحيه. ما إن دلفت المخيم حتى رأيت جموع ساكنيه يقفون طوابير طويلة في الشمس بانتظار استلام مخصصاتهم الغذائية أمام بعض الخيام التي أُعدت لذلك. كان الجو خانقاً والازدحام على أشده، وكان الحر هو سيد الموقف؛ والشمس تصب على رؤوس أولئك البائسين سوط عذاب إضافي. تقع منطقة المزرق في أقصى الشمال الغربي لمحافظة حجة نحو 40 كيلو متر شرقي حرض ويبعد نحو 40 كيلو متر جنوب غرب محافظة صعدة. في مكان غير بعيد عن خط الحدود اليمنية السعودية. - يعد مخيم المزرق من المخيمات الآمنة مقارنة بغيره من المخيمات المتواجدة في محافظتي صعدة وعمران نظراً لبعده النسبي عن أقرب نقطة تدور فيها رحى المعارك بالملاحيظ. يضم كثيراً من الأسر يتجاوز أفرادها 8000 نسمة. غير كثيرمن الأسرتتواجد حول مخيم بحسب المصادر الرسمية ،أما مصادر المنظمات الإنسانية فتقول إن عدد الأسر أعلى من ذلك بكثير حيث يصل إلى 7 ألف أسرة يتجاوز عدد أفرادها أكثر من 40 ألف نسمة أغلبهم من منطقة الملاحيظ وغافرة وبقية مناطق مديرية الظاهر القريبة من موقع المخيم الذين يغلب عليهم الطابع السلمي لسكان تهامة، فضلاً عن اللهجة والسحنة والمذهب. أما بقية الأسر النازحة فتنحدر من ذويب منطقة حيدان ومناطق أخرى. تعمل في المخيم عدد من المنظمات الإنسانية الدولية مثل برنامج الغذاء العالمي، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، منظمة الصحة العالمية، منظمة أوكسفام، منظمة رعاية الطفولة بالشراكة مع منظمة الإغاثة الإسلامية، بالإضافة إلى بعض المنظمات المحلية مثل جمعية رعاية الأسر اليمنية والصحة الإنجابية، بحسب صلاح عيظة، مراقب ميداني، الأممالمتحدة. وطبقاً لآخر الإحصائيات الرسمية، فإن عدد الأسر التي تعيش في المخيم حالياً نحو 1400 أسرة يشكلون أكثر من 8000 نسمة، يقطنون في حوالي 1200 خيمة. وهو عدد يتجاوز المعدل العالمي الذي يفترض أن لا يزيد سكان كل مخيم -حسب مدير المخيم عن 7000- نسمة، حسب معايير الأممالمتحدة. ووفقاً لمدير المخيم محمد علي الأدبعي، فإن المخيم ما يزال يستقبل الكثير من الأسر بشكل شبه يومي، موضحاً أن إدارة المخيم أجرت مسحاً أسرياً للنازحين داخل المخيم وخارجه في القرى المجاورة، يومي 5، 6 أكتوبر الجاري. وبناء على نتائج المسح فإن عدد الأسر المتواجدة داخل المخيم حتى تاريخ إجراء المسح بلغ 1198 أسرة، وتوافد عليه بعد هذا التاريخ 1114 أسرة ليصير مجموعها حتى تاريخ 11 أكتوبر الجاري 1312 أسرة. وأضاف الأدبعي: "يوم أمس (الأربعاء الماضي) تم تسكين 30 أسرة". مشيراً إلى أن استمرار تدفق الأسر يمثل ضغطاً تراكمياً على المخيم؛ ولذا فإن السلطة المحلية بمحافظة حجة بالتعاون مع المنظمات الدولية تقوم بالإعداد لإنشاء مخيم ثانٍ وقد جهزت الأرضية المعدة لذلك على بعد عشرة كيلو مترات شرقي المخيم الحالي باتجاه حرض. وهي الآن في طور الإعداد والتحضير وتجهيز المواد اللازمة لإنشائه. صمم المخيم على شكل مربعات مرتبة هندسياً تقام عليها الخيام بحيث تتيح استيعاب المزيد منها بشكل تصاعدي. وقال نائب مدير المخيم جبران الدريني إن الحكومة في البداية قدمت الخدمات الأساسية من حراسة وخدمات أخرى كالحمامات السريعة عبر المؤسسة الاقتصادية العسكرية. فضلاً عن المطبخ السريع عبر الدعم الشعبي من المحافظات علاوة على الدعم الذي قدم عبر المنظمات الدولية، كالدواء والخيام. ومن ثم تم تجهيز حمام لكل أسرة عبر اليونيسيف وأوكسفام. يتم إعطاء 3 فُرش لكل أسرة. ورغم أن المنظمات الإنسانية الدولية تحدد في مثل هذه الحالات خيمة مستقلة إلا أننا وجدنا أن بعض الخيام تغص بالأسر حيث يستوعب بعضها من ثلاث إلى خمس أسر. وأرجع مدير المخيم أسباب ذلك إلى إصرار بعض الأسر على استيعاب أسر يمتون لهم بصلة قربى أو نسب أو مجورة، إلى حين يتسنى لهم الحصول على خيم خاصة بهم. وقال إن ذلك يتم بشكل طوعي وإنه خلق حالة من التجمعات المتآلفة اجتماعية والمنسجمة قبلياً أو قروياً، ما قسم المخيم إلى حارات تشبه الأحياء السكنية في المدن. - يوجد في المخيم مركز صحي تشرف عليه وزارة الصحة مدعوماً من منظمة الصحة العالمية، مضافاً إليه الخدمات التي تقدمها جمعية الصحة الإنجابية وجمعية رعاية الأسرة اليمنية. - تقدم للنازحين حصص غذائية شهرية هي عبارة عن حبوب قمح (غير مطحون) وأرز وزيوت، مقدمة من برنامج الغذاء العالمي، بالتنسيق مع السلطة المحلية بحجة. ألغي المطبخ العام الذي كان موجوداً في المخيم، بناءً على رغبات النازحين الذين فضلوا أن يستلموا حصصهم الغذائية مباشرة، بحسب مدير المخيم. على مقربة من المخيم تتناثر عدد من الخيام هنا وهناك لبعض الأسر (الميسورة ربما) الذين رفضوا السكن في المخيم حفاظاً على خصوصيتهم الأسرية وابتعاداً عن التزاحم، حسب الرائد محمد الفيل، ضابط أمن المخيم. الذي قال إن المشاكل تكاد تكون منعدمة في المخيم فيما عدا بعض المشاجرات العادية بين السكان والتي توجد في أي محيط اجتماعي، مشيراً إلى أن المشاكل التي يعانون منها في إدارة المخيم تتمثل في استعجال النازحين بتلبية مطالبهم بسرعة مما يشكل إرباكاً لإدارة المخيم. - عند وجودنا عند ضابط أمن المخيم، قاطعنا عدد من القادمين يمثلون هيئات الحماية في مفوضية النازحين، أغلبهم من جنسيات عربية، وأبدو تبرمهم من عرض صور النازحين وأسماءهم الحقيقية سمبرا وقالوا إن ذلك يشكل خطراً على حياة النازحين. وسألو عن وجود سلاح في المخيم، فأخذهم بعيداً عنا، وعندما التقينا إستفسرنا منه لماذا يسألونه عن السلاح، فقال إنهم يريدون أن يطمئنوا لوجود سلاح في المخيم لكي يضمنوا حماية العاملين والتابعين لهم أولاً وحماية اللاجئين ثانياً.
ولدى دخولنا غرفة مدير المخيم (كونتيرا) ابتدرتنا امرأة تسير في عقدها السادس: "يا ابني كلمهم قالوا إن اسمي مش موجود في الكشوفات. أمانة إن لي من رمضان والله ما استلمت ولا نحاسة (تقصد قدر)". وأضافت رافعة بطاقتها الانتخابية (دليل هويتها): "هذي بطاقتي اسمي سمبرا علي حسين حبيش أنا أرملة ومعي ثمانية أيتام ولا ستلمت حاجة من رمضان". قصة الحاجة سمبرا تلخص بعض معاناة النازحين في المخيم الذين تاهت أسماؤهم عند استلام مخصصاتهم الغذائية ربما بسبب تشابهها أو عدم تطابق الألقاب في الهويات مع تلك الموجودات في كشوفات المساعدات. رغم ذلك فقد قلل نائب مدير المخيم لشؤون التغذية جبران يحيى الدريني من شأن ذلك معللاً وقوع مثل هذه الأخطاء بعدم معرفة الذين قاموا بإعداد الكشوفات بألقاب تلك المناطق: "مثل هذه المشاكل ستعالج، مشكلتنا الآن في الزحمة وإلحاح كل نازح على معالجة مشكلته في الحال"، قال الدريني. وأضاف إن لدينا من الخيام والغذاء ما يكفي ولكن المشكلة تكمن في الازدحام على طلب الخدمات. عن أوضاع النازحين وكيفية نزوحهم تلخصها أحاديث بعض من استطعنا الالتقاء بهم: حسن سالم مصلح من أروى .. الجريحة بني ذهل بالملاحيظ، قال إنهم فروا عندما دخل الحوثيون المنطقة بعد أن انسحبت القوات الحكومية بدون مواجهة، وأضاف أنهم فروا خوفاً من الحرب والاشتباكات: "نزلنا من عزلة المروة باتجاه عزلة المجدعة في السعودية، أخذتنا الدوريات السعودية إلى بتول ثم إلى نقطة الجمارك اليمنية في الملتزمات، وبعد ذلك أخذتنا السلطات اليمنية إلى المخيم". أما قاسم مصلح فقال إنهم تفاجأوا بانسحاب قوات الجيش يوم الأربعاء 27 شعبان من مواقعه في الملاحيظ بمجرد أن أطلق الحوثيون قذيفتين قرب المجمع الحكومي ونزول 5 أفراد من الحوثة إلى الوادي. وأضاف أن ذلك صدم أهالي المنطقة: "إحنا استقبلنا النازحين من جبال مران ولمدة خمس سنوات من الحرب الأولى وتركنا للحكومة أرضنا بلا مقابل ومزارعنا يعملوا فيها المواقع للجيش ولكنهم صدمونا بالانسحاب المفاجئ"، قال قاسم مغتاظاً. وأشار إلى أن أهل منطقته مسالمين وغير مسلحين وأنهم لا يريدون الحوثين ولا يحبونهم: "كنت أتمنى أن معي حتى بندق إسرائيلي أملي راسي من الحوثة وأشفي غليلي منهم"، قال مصلح. وتحدث بنبرة تحسر عن بيته وممتلكاته التي تركها: "كان معي 70 عود نحل وبأكثر من مليون أدوات ومواطير وآبار لا أدري أين مصير بيتي وأملاكي"، أضاف مصلح. عندما كنت أستمع إليه لا أدري لماذا تذكرت قصيدة الراحل محمود درويش الذي يتحدث فيها عن مأساته كلاجئ وذكرياته عن بيته الذي تربى فيه: "للعدو الذي يشرب الشاي في بيتنا فرس في الدخان...". إلى أن يقول: "فناجين قهوتنا لا تزال على حالها هل تشم أصابعنا فوقها". أما ناجي حسين الغافري، فقال إن الحوثيين استولوا على قمم الجبال: جبل قمامة والعشة والجرشعي وأن الأهالي يسكنون بطن وادي قراش ما بين جبلين يسيطر على أحدهما الحوثة وعلى الآخر الحكومة فكانوا عرضة للضرب من الجانبين، فاضطروا للنزوح: "طلبوا مننا الحوثة عدم النزوح وأن نبقى في بيوتنا لأنهم يشتوا يتقدموا إلى ميدي واحنا ما وافقناش لأننا ما نبغيهم، هربنا"، قال الغافري. أما محمد جبران جابر –غافرة- فقال إنهم زحفوا من كثافة الضرب عندما دخل الحوثيون البيوت وتمترسوا فيها وفجروا بعضها واستحلوا المحلات. وعن تواجد الدولة في غافرة، قال إن الدولة غير متواجدة في منطقته قبل دخول الحوثة إليها وبعد دخولهم. أغلبية النازحين الذين التقيناهم اشتكوا من توزيع القمح وهو غير مطحون، وقالوا إنهم يعانون جراء ذلك لأن أقرب طاحون إليهم في حرض ولا توجد لديهم وسائل لنقله إلى هناك. وقالوا إن الدعم الغذائي جيد والرعاية الصحية جيدة في المخيم. علي حسين جابر أبو زيد تحدث إلينا عن كيفية فرارهم من منطقة غافرة وإن أخته "سلامة" سقطت على مؤخرة رأسها جراء إطلاق الحوثيين لدانة مدفع هاون فقدت بعدها شعورها وذاكرتها، كان يحدثنا وطفله أنور وبقية الأطفال يلعبون وقد ألفوا المكان غير آبهين بما حولهم. عندما قابلنا سلامة حسين (16 عاماً) كانت تلخص مأساة إنسانية كبيرة كنا عندما نسألها عن اسمها أو أي شيء لا تتفوه إلا بكلمة "فكري" (اسم شقيقها الصغير) ولا تستطيع نطق كلمة سواها. كنا نحدثها وهي تضحك ببله ولا شعور مرددة اسم فكري" لقد فقدت الشعور والإحساس بكل من حولها" أوضحت أمها وأضافت: "الآن هي ولا تعقل شي ولا تحس بشي". سلامة وإلهام علي هيجان الذويبي (6 سنوات) من منطقة حيدان، التي أصيبت بنفس حالة سلامة وللسبب نفسه (انتقلت مؤخراً إلى صنعاء للعلاج)، حالتان إنسانيتان وجانب من جوانب مأساوية الحرب والدمار. كما توجد في المخيم طفلة أخرى أصيبت بشظايا في رجلها هي أروى صالح (10 سنوات) من منطقة المروى بالملاحيظ. وهي الآن تعاني آلامها المبرحة في المخيم، ومن المفترض أن تتلقى العلاج مع مواطنتها سلامة في صنعاء.
