يختلف الأستاذ/ أنيس حسن يحيى؛ الرمز المعروف في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية والحزب الاشتراكي اليمني؛ وهو ينتقد الإصلاح عن عديدين غيره اتخذوها مهنة وطلبا للرزق السريع، أو تبريدا لأحقاد مذهبية تاريخية، أو ستارا ثوريا لتصفية حسابات قديمة بأثر رجعي؛ فالأستاذ يملك من التجربة ما يجعله ينتقد بأسلوب منصف يذكر للمنقودين ما يعترف لهم به من الإيجابيات، و يذكر ما يراه سلبيات دون إسفاف. وفي أكثر من صحيفة نشر الأستاذ مقالا بعنوان: (تحالف الإسلاميين وقوى الحداثة في اليمن) تضمن عددا من المسائل ذات الطابع الفكري والسياسي حول اللقاء المشترك والإصلاح؛ بعضها فضلت أن نناقشها في مقال خاص ينشر في صحيفة (الثوري) هذا الأسبوع بإذن الله.. وبعضها نناقشه هنا لاتصاله بما كنا قد بدأنا التطرق إليه في الأسبوع الماضي؛ فالأستاذ يعيب في مقاله على الإصلاح عددا من المواقف أو الممارسات التي ينسبها إليه، ومن واجبنا ومن حقه أن نبسط الوجه الآخر لها حتى تتوازن الصورة أمامه.. ومع أنها من نوعية تلك الاتهامات الرائجة في بعض وسائل الإعلام التي يروجها عناصر الحلف غير المقدس الذين أشرنا إليهم في الأسبوع الماضي؛ إلا أن مكانة الأستاذ توجب ألا تهمل ملاحظاته. وأول ما يعيب (الأستاذ) على الإصلاحيين هو (وجودهم الطاغي) في الحياة السياسية اليمنية، الذي يثير مخاوف لدى الجيران (هل يقصد السعودية؟) والغربيين الذين يرقبون بحذر ما يجري في بلادنا، وكذلك يثير مخاوف أوساط شعبية يمنية واسعة؛ خشية أن تسود مفاهيم لا يمت للعصر بصلة! الحديث عن مخاوف الجيران (أي السعوديين) من الحضور الكبير للإصلاحيين يتناقض مع المسلسل المكسيكي الطويل الذي تابعه اليمنيون منذ خمسين عاما عن ارتباط الإسلاميين بالمملكة، وتمثيلهم لرأس الحربة الذي يتسلل منها الفكر الوهابي الظلامي إلى اليمن، وهي تهمة لا يعلم إلا الله وحده كم درت على أصحابها وكم أكلوا بها وشربوا.. وكم أضلوا بها وأفسدوا.. فلما حصحص الحق.. اكتشفنا أن (السعودية) خائفة من الحضور الطاغي للإصلاح بدلا من أن تفرح وتقول (الحمد لله.. صبرنا ونلنا، وبعد الصبر بانشرب من الحالي). الحديث عن المخاوف السعودية بهذا الشكل يحتاج إلى بحر من الحداثة حتى يمكن تقبل مناقشته وليس فقط قبوله، فهذا يشبه أن يقال إن الغرب يخاف من تزايد شعبية الليبراليين، أو أن إسرائيل لا تنام الليل رعبا من وصول أنصار التطبيع إلى الحكم في أي بدل عربي! أما مخاوف الغرب من تزايد شعبية الإصلاح فأقل أهمية؛ لأن الغربيين أكثر براجماتية وأقدر على التعاطي مع المستجدات التي تثير قلقهم كما يحدث الآن في مصر وتونس؛ مع ملاحظة أن العلاقات بين الإصلاح وممثلي الغرب الرسميين والشعبيين ليست سيئة، بل نقول إن هناك إعجابا غربيا بسياسات الإصلاح ومواقفه العقلانية والمنفتحة مع الآخر داخليا وخارجيا بشكل عام. ولا يمنع ذلك من وجود بعض التحفظات والاختلافات فهذه طبيعة الأشياء. نأتي الآن إلى الزعم القائل بأن هناك أوساطا شعبية (!) واسعة (كمان؟) تخشى أن يؤدي الحضور الطاغي للإصلاح إلى سيادة مفاهيم لا تمت للعصر بصلة! ففي العادة تصدر المخاوف؛ حقيقية أو مفتعلة؛ من الإسلاميين عن أوساط نخبوية وليست شعبية، أما الأوساط الشعبية فعادة يميل أفرادها إلى الإسلاميين وأطروحاتهم.. بدليل أن الاتهامات –أو الاتهامات النخبوية لاكتساح الإسلاميين لأي انتخابات- تركز على أنهم يدغدغون مشاعر البسطاء أي الأوساط الشعبية.. ثم إذا كان أصحاب هذا الاتهام مقتنعين بكلامهم فعليهم أن يبوسوا أيديهم (وش وقفا).. فطالما هناك أوساط شعبية واسعة تخاف من الإسلاميين؛ فمعنى ذلك أن حظهم في أي انتخابات قادمة سيكون ضعيفا ولن يحصلوا على أغلبية! على أن ما يبدو جليا في الواقع أن الإصلاح لديه بالفعل حضور شعبي قوي وواسع، ويحظى بتأييد كبير في الأوساط الشعبية، كما يوجد في المقابل معارضون له لكن ليس من منطلق الغيرة على العصرنة والحداثة لأن هذه كما سلف مربوطة بالنخب.. والنخب عادة ليست شعبية بل في كثير من الأحيان منفصلة ومعزولة عن الأوساط الشعبية.. ثم أن الإصلاح جزء من تحالف تاريخي مع قوى حداثية بحسب تعبير الأستاذ نفسه.. فمن أين تأتي المخاوف إذا؟ وفي كل الأحوال ففي كل حزب يوجد ما يمكن أن يثير مخاوف أو تحفظات ولكن بدون.. أوساط شعبية واسعة! على العموم؛ يفترض في (الأستاذ) أن يكون مسرورا للحضور الطاغي للإصلاح في الحياة السياسية وفي الثورة الشعبية؛ فهو في الآخر مكسب للقاء المشترك باعتباره أحد أعضائه، ومكسب للثورة الشعبية باعتباره أحد مكوناتها الأساسية. ولا يجوز أن ينزعج أحد –باستثناء النظام وحلفائه العلنيين والسريين!- من امتلاك الإصلاح لقدرات تنظيمية وإعلامية ومالية كبيرة طالما أنها تُسخَّر لمصلحة انتصار أهداف الثورة الشعبية، وصمودها في وجه الطوفان الجهنمي للنظام الذي يُسخر كل إمكانيات الدولة لكسر الثورة وتصفيتها وتفتيت قواها، والمراهنة على الزمن لبث اليأس والخذلان في صفوف الثوار!
(2) (الأستاذ) أيضا يعيب على الإصلاح (اندفاعه كثيرا في تهميش الآخرين من مكونات اللقاء المشترك..) مما يهدد وجود المشترك وقد يتسبب في انفراطه! المفارقة هنا أن (الأستاذ) تحدث كثيرا في المقال معجبا باللقاء المشترك، والتعاون الوثيق القائم بين مكوناته، وصموده في وجه المؤامرات والتحديات.. بل يشهد بأن المشترك مرشح لمزيد من الصمود في المستقبل المنظور لأنه تحالف قام على أسس موضوعية وليس رغبات وأهواء شخصية! لاحظوا التناقض الموجود في العبارتين.. إذ كيف يمكن أن يجتمع الاندفاع في التهميش مع الصمود والتصدي، ومتانة التحالف في اللقاء المشترك؟ في الغالب (الأستاذ) صدّق ما يقرأه في وسائل الإعلام إياها.. ولو تأمل في الإطارات السياسية التي شكلها اللقاء المشترك (ومنه الإصلاح) لوجد حرصا شديدا على ضم كل الفئات الراغبة في الاصطفاف وراء مشروع التغيير الجذري: من اللجنة التحضيرية للحوار إلى المجلس الوطني.. ووصولا إلى تمثيل هذه الفئات في حكومة الوفاق الوطني.. وبعضها تثير الدنيا ضد طغيان الإصلاح وهي تحتاج إلى سنوات طويلة جدا ليس فقط للحصول على وزارة بل لدخول مجلس النواب، وينطبق عليها الوصف الشعبي الساخر إنها لا تملك حتى ما يمكنها من دخول ملعب الظرافي أو سينما بلقيس! وفي ساحة التغيير لا يوجد تفرد من أي حزب في أي من اللجان العاملة فيها.. ولو زار (الأستاذ) ساحة التغيير في صنعاء؛ لرأى عجبا عجابا من تنوع الشعارات واللافتات.. وسيكتشف بنفسه أن غير الإصلاحيين هم الأكثر حرصا على إبراز لافتاتهم المميزة لمواقفهم، ولصور زعاماتهم ولو لم يكن لها ولا لمشاريعها السياسية علاقة بأهداف الثورة في بناء دولة ديمقراطية قائمة على احترام الدستور والقانون، والتعددية الحزبية، والتداول السلمي للسلطة، وبسط الحريات العامة.. إلخ. والذي يقرأ سلسلة الاتهامات عن طغيان الإصلاحيين في ساحة التغيير بصنعاء يظن أنهم يحكمونها حكما ستالينيا.. وبإمكان الأستاذ أن يتجول وقت الصلاة مثلا ليرى بعينيه أن مصيبة الثورة الشعبية ببعض المندسين داخل صفوفها ومصيبتها بالمهووسين المرضى ب فوبيا الإصلاح أكبر من مصيبتها بالنظام! ونيابة عن (قوى الحداثة)؛ حذر الأستاذ أنيس حسن يحيى الإصلاح من الجنوح إلى إلغاء الآخر وتغييبه أو تهميشه كما يجري –حسب زعمه- اليوم في عدد من الساحات! والحقيقة أن (قوى الحداثة) المزعوم أنها تحذر ليست وحدها ولا حتى الأعلى صوتا في ذلك.. فمن سوء حظ الأستاذ أن النظام وأجهزته السياسية وأبواقه الإعلامية تتبنى من بداية الثورة عقيدة أن الإصلاح يلغي الآخر، ويغيبه ويهمشه! ولو كان يطلع على صحف النظام لهاله مقدار الحرص السلطوي على نقاء الثورة، والحفاظ عليها من هيمنة الأحزاب وخاصة الإصلاح.. ولمصمص شفتيه عجبا من وصلات البكاء وخمش الوجوه التي أداها أتباع النظام وهم ينعون الثورة وأهدافها بسبب الإصلاح! وتحولها إلى هدف واحد –زعموا أنه ليس الأصلي- هو تغيير النظام والمطالبة برحيل الرئيس! والذي يقرأ تحذير (الأستاذ) للإصلاح من تهميش الآخرين في الساحات؛ سوف يظن أن الإصلاحيين يمنعون الآخرين من تصدر المسيرات، وفتح صدورهم للرصاص، أو من التصدي للمصفحات ومسيلات الدموع وعربات رش مياه المجاري.. أو يمنعونهم ويهمشونهم من تنظيف الساحات والوقوف ساعات الليل والنهار صيفا وشتاء في حراسة مداخل الساحات، أو من المشاركة في تقديم خدمات النظافة والأشغال التي تحتاجها الساحات، أو من حق نصب الخيام، وتنظيم المحاضرات والندوات مهما كانت مضامينها.. وطوال شهور كم سمعنا ميني مسيرات تجوب الساحة تسيء للآخرين وتتهمهم بالخيانة والعمالة، وبأنهم، ثوار مداكي.. واتهم ممثلو المجلس الوطني في حكومة الوفاق بأنهم لصوص مثل الطرف الآخر! ولعلم الأستاذ؛ فكل هذا البكاء والنحيب والهدار عن التهميش يقصد به (المنصة الرئيسية) فهي وحدها التي نجحت وصمدت وجمعت حولها الأغلبية؛ لأنها مثلت الاتجاه الغالب الرافض للمزايدات وتكرير أخطاء الثورات السابقة.. بينما البعض أرادها أن تكون (هايد بارك) يقول من فوقها ما يشاء ولو كانت شتما للذين أقاموها والذين يسروا له أن يصعد فوقها! هذه هي القصة الحقيقية للتهميش.. وكم حاول مندسون ومغفلون أن يهجموا عليها ويخربوها.. وكم صرخت صحف النظام من المنصة والمسيطرين عليها لأنها كانت البؤرة التي وحدت أغلبية الثوار وأسهمت في حفظ تكتلهم، وتمنت لو تبتلعها الأرض في غمضة عين (كما تمنى المجرم إسحاق رابين يوما أن يستيقظ من النوم وقد ابتلع البحر قطاع غزة من الوجود). (3) في المقال اهتم الأستاذ (أنيس حسن يحيى) باستعراض ما وصفه بالتعددية الفكرية الموجودة في الإصلاح على الطريقة الشائعة في الإعلام، كالحديث عن السلفيين والوهابيين (وكأن هناك فرق بين المصطلحين!) والوسطيين المعتدلين الذين يمثلون الأغلبية. والإصلاح حركة إسلامية، ولا يعيبه تعدد المدارس الفكرية الإسلامية داخله طالما أنها تلتزم بالمبادئ الأساسية الواردة في أدبياته الفكرية والسياسية، والأكثر أهمية أن تدار هذه التعددية بسلمية واحترام لمبدأ الأغلبية. ولسنا ندري حقا: لماذا أرهق الأستاذ نفسه في الإشارة لذلك مع تحفظنا على دقة ما طرحه وتعبيره عما هو موجود؛ فقد كان يفترض فيه، وهو المعجب باللقاء المشترك الحريص على استمراره وتطوره أن يغض الطرف عن ذلك طالما أنه ليس من المسائل الأساسية؛ فلم يقل أحد أنه مطلوب من أحزاب اللقاء المشترك أن تتقولب كلها في قالب فكري وسياسي واحد.. ثم إن مثل هذا الاستعراض قد يدفع شبابا إصلاحيين متحمسين لتقليد الأستاذ، والحديث عن قوى الحداثة التي يراهن عليها بطريقة تشبه الحديث عن الحزب الاشتراكي اليمني على المنوال الآتي: [الحزب الاشتراكي أكبر قوى الحداثة، ويوجد فيه اتجاه غالب يؤمن بقيم الديمقراطية والوحدة، ويعتز بالهوية الإسلامية، ويؤمن بالمرجعية الإسلامية، والانتماء العروبي لليمن.. لكن توجد داخله مجموعات صغيرة متشددة تعيش الماضي وتقاوم بشدة توجهات الأغلبية المعتدلة.. ومن هذه المجموعات تيار (يا لطيف الألطاف نجنا مما نخاف)، وتيار (ربنا ارفع العذاب إنا موقنون)، وتيار (حوالينا لا علينا)، وتيار.. (قد الغرق أهون)!] وكما يلاحظ الأستاذ فإن مثل هذه التقييمات لا يستفيد منها إلا الخصم المتربص بنا المندس في أوساطنا؛ الذي يسعده أن يبرز كلام الأستاذ عن السلفيين والوهابيين داخل الإصلاح، وكلامه عن تماهيه مع القبيلة، وعجزه عن بناء دولة يمنية عصرية، وعن اتهامه للإصلاح بإلغاء الآخر وتهميشه! خلاصة الكلام.. إن الكلام سهل، وترديد الاتهامات والتشكيكات في حق الآخرين أكثر سهولة، والنقد ليس حراما كما أن تفنيده ليس حراما، لكن وكما قالوا إن لكل مقاما مقال، فكذلك لكل مقال أجل!
عن صحيفة الناس لقراءة مقال أنيس حسن يحيى (اضغط هنا).