كنا قد أقمنا في الحلقة الأولى من هذا المقال تشبيها مجازيا بين الإنسان ككائن بيولوجي والدولة ككائن اجتماعي من منطلق أن الخلية الجذعية السليمة لتخلّق الكائن البشري السليم تتطلب أن تتزود بتوازن محكم من كروموسومات كل من الرجل والمرأة، وكذلك الأمر بالنسبة "للخلية الجذعية" للدولة التي تتخلّق بحضور مجالين فاعلين ومتوازنين وهما المجال المؤسسي والمجال التنظيمي اللذان نشير إليهما اختصارا بالمؤسسات والتنظيمات. يتعين علينا في البداية أن نحدد وبإيجاز الإطار المفاهيمي لهذين المجالين حتى نستطيع أن نتقدم بفهم وخطى واثقة خطوات نحو متطلبات ومقومات الدولة اليمنية القادمة التي قدَم من أجلها الشباب وجميع فئات المجتمع اليمني في ثورتهم كل هذه التضحيات. نقصد بالمؤسسات هنا قواعد اللعبة في المجتمع، وبعبارة أخرى هي مجموعة الضوابط والقيود التي يصممها المجتمع، ويجمع عليها لتكون بمثابة الدليل الحاكم والمرشد للعلاقات والمصالح السائدة بين أعضائه. هذه المؤسسات تتكون من الدساتير والقوانين والنظم والأحكام المكتوبة وغير المكتوبة. ومن بين أهم مهام تلك المؤسسات هي خفض درجة عدم اليقين في سير العلاقات والمعاملات والمبادلات بين أفراد المجتمع وتقليل كلفتها (Transaction cost) إلى أقصى درجة الأمان. إن عدم اليقين في هذا السياق هو محصلة لكل من تعدد وتعقيدات العلاقات والمصالح الاجتماعية وآلية النظام السياسي الحاكم والتي يبرمجها العقل الاجتماعي في بنية ثقافية وسلوكية سائدة ويضع لها الحلول من منطوق تلك المصالح وآليات نظام الحكم السائد، وبعبارة أخرى هو غياب المعلومات وعدم وضوح التعليمات المؤسسية الشفافة التي تجعل جميع الأطراف على بينة من أسس ومبادئ العلاقات والتفاعلات والمبادلات والحدود المرسومة التي يمنع على كل طرف تجاوزها. لنوضح معنى ذلك بمثال مبسط من الحياة اليومية: يتوقف سائق المركبة عندما تضيء له إشارة المرور باللون الأحمر "قائلة" له يجب عليك التوقف للسماح للمشاة أو للعربات السائرة في الاتجاه المعاكس بالمرور.. يفهم سائق المركبة الأمر ويتوقف حتى تأذن له تلك الإشارة بالمرور لأنها قاعدة مجمع عليها ونافذة بسلطة القانون، وهي تجنب السائق والمشاة التردد في العبور وتخفض كلفة الوقت وكلفة السير وعدم اليقين في السير وتحول دون وقوع الصدام والحوادث. وينطبق الأمر على أعقد المعاملات السائدة في المجتمع. المثال الآخر هو وجود بئر ماء يسقي أراض زراعية لعدد من المزارعين. فإذا لم يكن هناك قواعد وأحكام تنظم استغلال موارد هذه البئر بطريقة عادلة ومقبولة ومتفق عليها من جميع المستفيدين، فإن النزاع ما يلبث أن يقع بينهم وقد تصل النتيجة إلى القتال وهلاك البئر بما فيه، وبالمحصلة خسارة جميع المزارعين. فالمؤسسات إذن هي قواعد اللعبة التي تضبط وتنظم العلاقات وتضع الحدود والقيود لمسار تلك العلاقات والمعاملات. فالهدف من قواعد اللعبة هو تعريف وتحديد السبل التي تتم بها اللعبة. ولكن لا معنى لقواعد اللعبة من دون فريق اللاعبين التي نطلق عليهم المجال التنظيمي أو بعبارة مختصرة التنظيمات. وهدف الفريق كما هو معلوم هو كسب اللعبة في نطاق قواعدها. وهو لا يتمكن من كسبها إلا بمزيج من الاحتراف والمهارات، والاستراتيجيات المتبعة والتنسيق. تشمل التنظيمات كل من الهياكل السياسية (الهيئات التشريعية، الأحزاب السياسية، المحاكم والهيئات القضائية وغيرها) والهياكل الاقتصادية (مؤسسات الأعمال، نقابات العمال واتحادات الأعمال، الشركات الخاصة والشركات العائلية، التعاونيات ..الخ) والهياكل الاجتماعية (المساجد، النوادي، الجمعيات الخيرية وخلافه) الهياكل التعليمية (المدارس، الجامعات، مراكز التدريب المهني والفني) ، الهياكل الأمنية والعسكرية (وزارات الداخلية والدفاع، وحدات الجيش والأمن، أقسام الشرطة والاستخبارات وغيرها). العلاقة بين المؤسسات والتنظيمات أو قواعد اللعبة واللاعبين أشبه بالعلاقة بين الحيوان المنوي للرجل وبويضة المرأة اللتان بتلاقحمها تنشأ الخلية الجذعية، وهي التي تحدد بداية تخلّق الكائن البشري ومسار نموه وتطوره. وبنفس المعنى يتحد اتجاه تطور الدولة وتطورها على أساس الدرجة المحكمة وعالية الدقة لمحتوى المؤسسات والتنظيمات وطبيعة العلاقة بينهما. فإذا كان اللاعبون لا يحترمون قواعد اللعبة أو لا يجيدون ممارستها فان المحصلة النهائية هي خسارة اللعبة المتفق عليها. والمهمة الأولى الآن على مسار الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هي صياغة دستور لدولة مدنية ديمقراطية حديثه يشترك في تحديد معالمه ومرتكزاته الأساسية كافة أطراف وفئات المجتمع اليمني. وينبغي أن يراعى عند إعداد الدستور بشكله السياسي والاجتماعي منطوق ومحتوى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ومصالح كافة فئات المجتمع مسترشدين من تجارب الدول الناجحة في هذا المجال ومعتبرين من الدول الفاشلة ومن التجربة اليمنية بشكل خاص، وبشكله القانوني من خلال إحكام صياغة مبادئه وأحكامه بما لا يتيح مجالا للغموض والنفاذ للسلطة الحاكمة تفسير معانيه بالطريقة التي تستهويها. وهذا يقتضي بالضرورة تشكيل لجنة لصياغة الدستور تتألف من مجموعة من خبراء القانون الدستوري يمنيين وغير يمنيين من ذي المهارات الرفيعة مشهود لهم بالالتزام والمساندة لمفاهيم وقيم الدولة المدينة الديمقراطية. والأهم من ذلك هو تشكيل ممثلين عن الفئات الاجتماعية وفي مقدمتهم شباب الثورة، وكذلك ممثلين عن الأحزاب السياسية والنقابات والمهن والمنظمات الاجتماعية والجماهيرية، ورجال الأعمال والشخصيات الاجتماعية النافذة المعروف بحبها وولائها لوطنها ومناصرتها للحقوق المدنية وحقوق الإنسان على امتداد الساحة اليمنية كلها دون إهمال أو تجاوز وانتقاص لطرف. ولكن هذا ليس إلا المطلب الأول لتخلّق الدولة المنتظرة. فالمطلب الثاني والهام هو طبيعة اللاعبين ومدى احترافهم واحترامهم لقواعد اللعبة، أي احترامهم للدستور والقوانين والنظم والأحكام التي تم صياغتها بمشاركة وإجماع أغلبية أعضاء المجتمع على أساس قواعد الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق والفرص والواجبات دون تمييز، وممارسة أنشطتهم طبقا للقيود والضوابط التي تقررها تلك المؤسسات. ولكن ممارسات "اللاعبين الاجتماعيين" لا تنبع من أسس دوافع ومنطلقات ومبادئ أخلاقية صرفة ولكنها تتقرر وفقا للمصالح والمفاهيم ومراكز القوة التي يتحلون بها. بعض من تلك المصالح والمعتقدات الأيدلوجية ومراكز القوة التي تمثلها فئات اجتماعية بعينها لا تتفق ولا تنسجم مع مبادئ وأسس الدولة المدنية الديمقراطية. يمكن أن تسعى هذه الجماعات والفئات إلى تقويض تلك الدولة أو احتوائها وإفراغها من مضامينها الحقيقية. نجاح مثل تلك القوى أو فشلها يعتمد على درجة تنظيم القوى والفئات الاجتماعية الملتزمة لمبادئ وأسس وقيم الدولة المدنية والمساندة لبقائها، وعلى مركزها في خارطة القوى الاجتماعية. وهنا يتطلب من جميع هذه الفئات والشرائح الاجتماعية وخاصة الشباب الذين فجروا شرارة الثورة أن يشرعوا من الآن العمل على تنظيم صفوفهم وتعزيز مصادر قوتهم وإنشاء شبكة علاقات وارتباطات مع بقية القوى والفئات الاجتماعية المناصرة للدولة المدنية وخلق سياج منيع وصلب لحماية هذه الدولة من الارتداد والانتكاس إلى الخلف وهي ما زالت في طور التخلق والنمو، حتى تصل إلى درجة النضج والتطور وتصبح دولة فاعلة وقادرة على الصمود والاستمرار. الدولة المدنية الديمقراطية هي الدولة الوحيدة الفاعلة والكفؤة والتي يعتبر وجودها ضروري لتأمين مقومات العيش الكريم، وإحقاق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع وصيانة الحريات العامة والخاصة، وإرساء القواعد والأسس للتعايش السلمي والخلاق بين أعضاء المجتمع، وبدون هذه الدولة - كما رأينا وجربنا- يتعذر تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي والسياسي. ولكنه ينبغي لنا أن ننبه ونحن في طور المرحلة الانتقالية، وحتى لا نقع فريسة خيالنا وأحلامنا غير المنطقية وغير الواقعية أن هناك فرق بين الدولة القادرة وبين الدولة الكفؤة. فهناك دول على الخارطة الدولية تتمتع بالقدرة والكفاءة في نفس الوقت. فالكفاءة والقدرة ليسا شيئا واحدا. الكفاءة صفة مميزة لجميع الدول المدنية والديمقراطية، بينما القدرة هي جزء من المقومات والمعطيات الحاضرة للمجتمع ولكنها ليست قدرا مقضيا. ولإيضاح هذه المسألة، فإنه يشار إلى دولة ما بأنها تتمتع بالقدرة وذلك عندما تكون قادرة على تنفيذ الأعمال والبرامج والسياسات العامة بكفاءة مثل الحفاظ على القانون والنظام، وتأمين الرعاية الصحية والتعليمية لمواطنيها وإنشاء البنى الأساسية وخلافه. أما الكفاءة فهي نتيجة استخدام هذه القدرة لتلبية طلب المجتمع على تلك الاحتياجات. فقد تكون الدولة قادرة ولكنها لا تتسم بالكفاءة إذا كانت لا تستخدم قدرتها لصالح المجتمع. كما هو الحال في اليمن قبل الثورة، وسوريا ومصر، وروسيا ونيجيريا ودول عربية أخرى كثيرة تتمتع بالموارد والقدرات ولكنها لا تسخر إلا النذر اليسير لصالح شعوبها. إن الطريق إلى دولة أكثر كفاءة، هي الدولة المدنية الديمقراطية، وهو طريق خط سيره ليس مستقيما على الدوام فقد يمر بمنعطفات حرجة وفي حالات أخرى مؤلمة. والطريق الذي تمر به اليمن هو هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والتحديات وهو خط سير غير مستقيم على الدوام لتنوع وحجم التحديات التي ورثناها من النظام السابق وما قبله كما أوضحنا ذلك في الحلقة الثانية من هذا المقال. إن التحديات والنزاعات الواسعة النطاق وعميقة الجذور المشار إليها في حلقتنا السابقة هي التفسير المقبول لفشل "الدولة اليمنية" لكن تلك التحديات والنزاعات ليست مما يتعذر التغلب عليه. والتغلب على تلك التحديات ومصادر النزاعات تلك يتطلب تغييرا جذريا وعميقا وشاملا في المجالين المؤسسي والتنظيمي ويحتاج إلى توظيف أفضل للقدرات والطاقات البشرية الكامنة في المجتمع، والأهم هو وجود إجماع وطني ومساندة فاعلة ومنظمة من قبل كافة فئات وشرائح المجتمع للدولة المنتظرة. إن معرفة وإدراك القدرات الحالية للدولة اليمنية التي ستتخلّق بعد الواحد والعشرين من شهر فبراير الحالي لا يعني قبول بقائها على حالها خلال المرحلة المقبلة ولكنه يساعدنا في تقبل تدرجها في معالجة تلك المشكلات والتحديات. إن المرحلة السياسية الانتقالية تضطلع بمهمة إصلاح أو بالأصح إعادة تركيب الدولة وتخليقها من جديد من أجل زيادة قدرتها المؤسسية عن طريق إعادة هيكلة المجالين المؤسسي والتنظيمي. وهنا ينبغي أن تركز الدولة الجديدة على ما تملكه من قدرات على إنجاز المهام العاجلة لإخراج المجتمع من أزمته الراهنة والنهوض به نحو المرحلة المقبلة، وبعد ذلك يمكن لهذه الدولة أن تعيد تقييم ما أنجزته لتتقدم خطوة إلى الأمام بالتركيز على بناء المزيد من القدرة وهي مهمة من مهام الأجل المتوسط والطويل. ولأننا نعرف ونعترف أن قدرات الدولة اليمنية الجديدة ستكون ضعيفة للغاية بسبب الحمولة التاريخية الثقيلة الموروثة فإنه يتعين على ساسة الدولة الجديدة أن يتبعوا استراتيجية ذات بعدين. الأول يتلخص في أهمية وضرورة إقناع المجتمع بقبول تعريف جديد لمسئولية الدولة من خلال إشراك المواطنين ومجتمع الأعمال والمجتمعات المحلية في توفير السلع والخدمات، حتى يمكن رفع العبء والجهد عن كاهل الدولة ذات القدرة المحدودة. فاللامركزية تحقق الكثير من المنافع كما هو مشاهد من تجارب بلدان في أمريكا اللاتينية والصين والهند وغيرها. إن التنافس بين المحافظات والمدن والمحليات يحتم عليها وضع سياسات وبرامج وممارسات أكثر كفاءة. هذا لا يعني بالمطلق إنقاص دور الدولة في بلد يعاني مجتمعه من التمزق والتشتت كاليمن وهو ما لم يحدث في تأريخه المعاصر، ومجتمع يفتقر إلى أبسط الاحتياجات الإنسانية. وللحفاظ على جسد الأمة اليمنية متماسكا فإن الوفاء بنطاق واسع من الاحتياجات ومداواة الجروح الاجتماعية يتطلب في البعد الثاني للاستراتيجية السعي لأن تؤدي الدولة المركزية مهامها بشكل أفضل وأوسع. حيث ما زالت تحاصرنا مزالق كثيرة في حال اندفعنا دون وعي وإدراك وتحت ضغط الغضب السياسي نحو اللامركزية المفرطة. وتتلخص هذه المزالق في التالي: 1) زيادة التفاوت- فالفجوة بين المناطق المختلفة قد يتسع ويتوسع أكثر مع التفاوت الحاصل في طبيعة توزيع الموارد الطبيعية وطبيعة التحديات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحاضرة في المناطق المختلفة من البلاد، 2) عدم استقرار الاقتصاد الكلي- إذ قد تفقد الحكومة المركزية السيطرة على سياسات الاقتصاد الكلي، إذا أدى عدم الانضباط المالي على المستوى المحلي مما يستدعي التدخل المتكرر من جانب المركز للحفاظ على هذا التوازن ولكن بثمن سياسي باهظ 3) خطر الاستيلاء على المحليات : هناك خطر جدي على أن تقع أجهزة وسلطات الحكم المحلي تحت سيطرة مصالح خاصة أو أيدلوجيات متطرفة أو متعصبة تقود إلى إساءة استخدام الموارد وسلطة الإلزام مما يقود بالنهاية إلى تفكك المجتمع والدولة.