(1) في التراث الشعبي اليمني حكاية ظريفة عن شخص كان الناس ينادونه دائما (يا حاج أحمد) مع أن اسمه (الحاج علي).. وحاول الرجل إفهامهم اسمه الصحيح دون فائدة ودون أن يبدو عليهم استعداد للفهم.. وفي يوم شكا الأمر لأحد كبار القوم شارحا له مشكلته مع الذين يصرون أن يسموه (أحمد) مع أن اسمه (علي)، واستدل بقصة أبيه الذي نذر إن جاءه ولد ذكر أن يسميه (علي) تبركا باسم الإمام علي بن أبي طالب، فلما رزقه الله بالولد الذكر؛ أقام ضيافة كبيرة للأمراء والتجار وأعلن لهم أن الله استجاب لدعائه ورزقه ولدا ذكرا أسماه (علي). ولما انتهى (الحاج علي) من رواية مشكلته مع الناس يصرون على أن ينادوه (الحاج أحمد) وليس (الحاج علي).. هزّ كبير القوم رأسه وهو يقول: (والله قصتكم عجيبة يا حاج أحمد)!
(2) تنفع الحكاية السابقة لتكون مدخلا للحديث عن بعض مظاهر الانتخابات الرئاسية المصرية وأبرزها حملات العداء غير المسبوقة التي تشنها مختلف القوى السياسية: الليبرالية والعلمانية والماركسية والقومية – ومن خلفهم وأمامهم وعن يمينهم وشمالهم فلول نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك- على حزب الحرية والعدالة الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين أقوى الأحزاب المصرية.. وهي حملة تجسد فيها _ كل التراث المعروف للأجهزة الاستخباراتية للأنظمة العربية البوليسية – التي هلكت أو التي ما تزال قائمة تدير معركتها الأخيرة في مصر- ضد الإسلاميين وبكل ما فيه من أكاذيب وافتراءات وتلفيقات وتأليف للأخبار المفبركة والقصص الخيالية دون حياء أو حتى شعور بقيمة الحبر الذي تكتب به. حالة من الجنون الإعلامي غير مسبوقة تبدو في أن القائمين بها اصطفوا كلهم دون استثناء متناسين خلافاتهم؛ بل ومتناسين أن جزءا منهم هم فلول نظام مبارك المخلوع؛ وكلهم يعزفون نفس الأكاذيب ويرددون نفس الاتهامات، ويروجون لنفس الإشاعات والأخبار المفبركة دون أن تشذ جهة واحدة في تهمة ما أو كذبة ما أو تقييم ما! وصحيح أن الإعلام المصري – بتاريخه الطويل ووسائله واسعة الانتشار- قادر على سحر العيون واسترهاب الناس مثل سحرة فرعون بالضبط؛ إلا أن أداءه هذه المرة رغم عنفوانه – أو هديره بتعبير الصحفي الشهير/ محمد حسنين هيكل- بلغ ذروة السحر الفرعوني وشارك فيه حتى مجموعة من الثائرين ضد الفرعون السابق كراهية في (موسى وهارون) وأتباعهما. وكما تعب (الحاج علي) وهو يحاول أن يقنع الناس بأن اسمه (علي) وليس (أحمد).. فقد حدث الأمر نفسه بين الإسلاميين والقوى السياسية حول قضايا مثل الدولة المدنية، والخيار الديمقراطي، والاعتراف بالآخر، والتداول السلمي للسلطة، وضمان الحريات والحقوق، والمواطنة المتساوية بين جميع فئات المجتمع وخاصة مع المسيحيين.. ومع أن الإخوان وقعوا مع جميع الفئات السياسية والدينية على وثيقة الأزهر التي تضمن وجود كل تلك الحقوق في الدستور، بل وزادوا عليها وثيقة أخرى أصدرها التحالف الديمقراطي الذي ضم عددا كبيرا من الأحزاب بما فيها الوفد وحزب الكرامة وغد الثورة والإخوان، وهو التحالف الذي قاده الإخوان في الانتخابات التشريعية وتمكن من إيصال مسيحيين ونساء إلى البرلمان.. ومع كل ذلك فما تزال القوى المعادية للإخوان – الغاضبة من حصولهم على الأكثرية وليس حتى الأغلبية في البرلمان- توجه في اليوم ثلاث مرات تساؤلات واتهامات ضد الإخوان عن حقيقة مواقفهم من الدولة المدنية، والحقوق والحريات، وحقوق المسيحيين... إلخ ولسان حالها يقول بعد كل ما أوضحه الإخوان: والله قصتكم عجيبة يا حاج أحمد!
(3) كان التحالف الديمقراطي بقيادة حزب الحرية والعدالة – الذراع السياسي للإخوان- هو الأكبر من نوعه الذي خاض الانتخابات التشريعية.. بعد أن رفضت أحزاب الثورة خوض الانتخابات في قائمة موحدة، وأصرت بعض الأحزاب الأخرى على خوضها إما منفردة أو في تكتلات خاصة -حتى حزب الوفد فعل ذلك رغم أنه كان الحليف الأقرب للإخوان الذين منحوه وضعا مميزا في التحالف كان يمكنه من الحصول على مائة مقعد باعتراف رئيسه السيد البدوي بدلا من 35 مقعدا التي حصل عليها- وفي البرلمان لم يحتكر الإسلاميون (الإخوان والسلفيون والوسط وغيرهم) كل شيء رغم أنهم يمثلون 75% من قوام العضوية وأشركوا الآخرين في رئاسة اللجان. وفشلت محاولة تقديم مرشح واحد يمثل الثورة في الانتخابات الرئاسية لمواجهة الفلول (أو بقايا النظام باليمني) ورغم كل ذلك فإن اتهامات رفض الآخر، وتفتيت الصف الثوري، ومحاولة احتكار السلطة والتكويش على كل شيء هو المعزوفة الأكثر شيوعا عند خصوم الإسلاميين ولسان حالهم يقول: (والله قصتكم عجيبة يا حاج أحمد)! حتى الجمعية التأسيسية لوضع الدستور ضمت ممثلين من جميع الفئات بمن فيهم الممثلون انتخبهم مجلسا الشعب والشورى بأغلبيتهما الإسلامية.. ومع ذلك صنعوا منها أزمة (يتجرعون الآن مرارتها بسبب تأخر وضع الدستور عن انتخاب رئيس جمهورية جديد مما يعني أنه سيحكم بالصلاحيات الواسعة الموجودة في الدستور السابق).. عنوانها: عدم تمثيل الجمعية لكل الفئات، حتى سخر منهم مصري قائلا (الأزهر انسحب، والكنيسة، والوفد، والتجمع، والكرامة، والمصريون الأحرار، وعمرو حمزاوي، والنقابات.. فكيف يقال إنها لا تمثل الجميع؟).. بينما الحقيقة أن الخلاف كان حول نسبة التمثيل وليس عدم التمثيل لكنهم لا يجرؤون أن يقولوا ذلك لكيلا تنفضح الحقيقة. وعلى أية حال وافق الإسلاميون على إعادة تشكيل الجمعية سدا للخلاف كما يريد خصومهم؛ رغم أن الإعلان الدستوري الذي تحكم به مصر نص على أن مجلس الشعب والشورى ينتخبان أعضاء الجمعية من جميع الفئات دون تحديد نسبة مشاركة لأي طرف! وفيما يختص بالدستور؛ فغالبية الأحزاب والقوى بمن فيهم الكنيسة يعلنون صراحة قبولهم أن يكون الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع مع الحفاظ على حق المسيحيين في الاحتكام لشرائعهم (عند لقاء الرئيس الأمريكي السابق كارتر بممثل الكنيسة المصرية أكد هذا الأخير هذه النقطة بجلاء).. ومع كل ذلك ما يزالون يرفعون شعارات: لا للدولة الدينية.. وهم يقصدون طبعا المادتين المذكورتين.. فلا يوجد في الدستور شيء آخر له علاقة بالدين يمكن أن يكون سببا في اندلاع أزمة! وفي برنامج د. محمد مرسي – مرشح الإخوان- في الانتخابات الرئاسية؛ وفي مبادرته بعد فوزه بالمركز الأول وخوضه جولة الإعادة مع رموز نظام مبارك (الفريق أحمد شفيق)؛ وضوح كامل بأن هدفه الانتصار لأهداف الثورة المصرية، وتجسيد كل معايير الدولة الديمقراطية الحديثة بما فيها تحويل الرئاسة إلى مؤسسة يشارك فيها قيادات من المعارضة والمستقلين والشباب والنساء والمسيحيين، وتشكيل حكومة ائتلافية موسعة، وإشراك كل قوى الثورة في سلطات الحكم المحلي: محافظين ومجالس محلية حتى تشارك جميع قوى الثورة في إدارة البلاد. ومع كل تلك التأكيدات، وكل تلك التنازلات.. ما يزالون يرددون أن على الإخوان إقناعهم بأنهم لا يريدون التكويش على الدولة والسلطة والقبول بمشاركة الجميع في وضع الدستور وإدارة الدولة.. وكالعادة كان لسان حالهم يقول: قصتكم عجيبة يا حاج أحمد!
(4) وحده مرشح الإخوان طولب بأن يعلن الكيفية التي سيتعامل بها مع المرشد العام للجماعة في حالة فوزه برئاسة الجمهورية وكأنه أول مرشح حزبي في التاريخ يصل إلى السلطة، وكذلك طولب بإعلان استقالته من حزبه ومن جماعة الإخوان المسلمين بعد فوزه في الجولة الأولى إن أراد كسب تأييد بعض القوى الحزبية والناشطة سياسيا في جولة الإعادة! ومع أن المرشح الإخواني أعلن منذ البداية أنه سيستقيل من رئاسة حزبه إن فاز في الانتخابات، وأنه سيتعامل مع مرشد الجماعة وأعضائها كتعامله مع أي مواطن مصري، وبادر د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين إلى إعلان إعفاء د. مرسي من بيعته له حتى لا يبقى شيء من الحرج والتساؤل في قلب إنسان.. ومع كل ذلك إلا أن فرقة حسب الله المصرية ظلت تنفخ في هذا الموال الغريب عن طبائع الأمور دون توقف وتصورها للشارع المصري وكأنه قضية القضايا التي لن تقوم لمصر قائمة إلا إذا تحققت وعرف الناس كيف سيتعامل مرسي مع حزبه وجماعته ومرشدها! المحزن المؤسف في جماعة الحاج أحمد هو انضمام الصحفي المصري الشهير إليها، وترديد نفس المعزوفة عما سيفعله د. مرسي مرشح الإخوان مع وزارة الداخلية، والجيش، والكنيسة والأزهر، والمحكمة الدستورية العليا، والتعليم، والإعلام، والثقافة! ولم يكن ينقص هيكل إلا أن يتساءل بجدية طبعا عما سيفعله مرسي إن فاز مع معضلة الصرف الصحي والانتماء الديني.. وأتخيله ينفث سيجاره الشهير ثم يقول: (سيبك بقى من الجيش والأمن والكنيسة والأزهر وخليك في المعضلة الكبرى التي سيواجهها الإخوان عندما يفوز مرشحهم بالرئاسة.. خذ عندك مثلا معضلة الصرف الصحي فهل سيعمل الإخوان على إعادة تشغيلها وفقا للانتماء الديني: مسيحي ومسلم أو يتركوها مختلطة كما عرفتها مصر منذ عرفت الصرف الصحي.. بمعنى أن مصر والجماعة الوطنية المصرية لم تعرف أبدا التفريق بين الصرف الصحي المسلم والصرف الصحي المسيحي والاثنان عاشا متسامحين طول عمرهم مختلطين مع بعض في أنابيب واحدة، والخوف الآن أن يعمل الإخوان على فصل صرف المسلم عن صرف المسيحي وخلق مشكلة طائفية جديدة بعد أن كان المسلمون والمسيحيون في مصر يتعايشون صرفا صحيا دون أن يعرف أحد الفرق بين الاثنين وأيهما يتبع المسلم وأيهما يتبع المسيحي ووفقا لمبدأ: (الدين لله.. والصرف الصحي للجميع!).
وما المانع أن يحدث ذلك طالما كان لسان حالهم يقول: والله قصتكم عجيبة يا حاج أحمد!
(5) بعد كل ما قدمه الإخوان من ممارسات ورؤى اجتهادية – دون إنكار حدوث اجتهادات خاطئة منهم كما هو حال الجميع- حول إيجاد مشاركة واسعة في إدارة الدولة، ولتطمين الجميع تجاه أبرز القضايا الوطنية؛ بعد كل ذلك ما يزال البعض يصر على أن الحاج علي اسمه الحاج أحمد.. ولذلك فكرت في إحدى اللحظات أنه ربما لم يبق أمام الإخوان إلا إعلان الردة عن الإسلام واعتناق المسيحية أو اليهودية أو الإلحاد حتى يقبل بهم الراسبون في الانتخابات التشريعية والرئاسية، ويقتنعوا أنهم لن يقيموا دولة دينية وينقلبوا على الديمقراطية ويكوشوا على كل شيء! ومن خلال متابعة مفردات الجملة السياسية والإعلامية ضد الإخوان؛ التي يشارك فيها فلول نظام مبارك بقوة من يؤمن أنها الفرصة الأخيرة للنجاة؛ آمنت بأنه حتى ارتداد الإخوان عن الإسلام لن يقنع خصومهم الذين سيصرون على أنها لعبة لأن الإيمان في القلب ولسان حالهم يقول: (والله قصتكم عجيبة يا حاج أحمد)!