لدي ما أعتقد أنها مشكلة قديمة جدا. مشكلتي هذه بدأت منذ الصغر، حينما كنت أحاول جاهداً فهم ما يجري في مدينتي الصغيره "جُبَن" – محافظة البيضاء.. كانت "جُبَن"، التي ولدت وترعرت في جنباتها، مدينةٌ بسيطة، وهادئة. وكأي مدينه وقرية يمنيه كانت غنيه بالتاريخ والثقافة والفن والعادات والتقاليد الخاصة بها.. طفولتي كانت في ظروف صحويّة، كان يعيشها الشباب في المدينة، وكانت اليد الطولى آنذاك لطلائع القوميين وبعض الاشتراكيين.. ثم ما لبث أن اتى الأخوان "بالدعوة الجديدة".. لتبدءا مع مجيئهم حالة حرب فكرية وإعلامية، وأحيانا تصل إلى عراكات واشتباكات بالأيدي. هذه الحالة لم تتعود عليها المدينه ولم تكن ذات صلة، لا من قريب ولا من بعيد، بأسبابها. ومن ثمَ تشكل حزب المؤتمر، والذي يُعد – في اعتقادي - نسخة للحزب الوطني المصري، الذي أراد المؤتمر أن تُحكَم اليمن بنفس تلك العقليه والرؤية (المصرية)... فكان اصحابه اكثر الناس انغماسا وإستمراءً للفساد الإداري والمؤسسي في المدينه. كان نصف سكان مدينتي الصغيرة في المهجر، ونصفهم الآخر كانوا ما زالوا في الحقول، وكانت الحياه حينها ذات (طعمٍ وشم)، حتى أتت الصحوة العربيه والأسلاميه لتنقل هذه المدينة البسيطة نقلة نوعية ربطتها بالعالم العربي - مصر خصوصاً- ثقافةً و سياسةً وانتماءً للواقع العام. وكان ثمة مشكلة لم أكن لأفهمها، وما زلت، لأنها مازالت هي هي لم تتغير، ولا تتغير إلا لتزيدني حيرة الى حيرتي، هي مشكلة هروب النُخب المثقفة، والسياسية، والمتدينة، من مدينتي تحديداً ومن اليمن عموماً: هروب تلك النخب من الواقع الملموس والمحسوس، الذي تعيش فيه وتعاني وطأته ومشاكله وتتأثر به مباشرةً، الى واقع آخر تعيشه خيالاً عبر الكُتب والإعلام وميلها اللامبرر نحو الاهتمام والتعلق بتاريخ آخر، لتحاول بكل ما تستطيعه من قوة ربطه بتاريخ يُنسى ويهُمل...تاريخها: تاريخ اليمن السعيد! وأنا هنا، بداية، أود ان انوّه الى انني افتخر واعتز بانتمائي لأمتيّ الأسلامية والعربية، وأؤمن بوجوب تكاملهما. بيد أني في الوقت ذاته أؤمن أيضا ان هذا الانتماء لا يعني ان أعيش واقع دول أخرى، قد يصل بي التأثر بها الى استيراد مشاكلها حتى استطيع ان استخدم حلولها في بلادي... أؤمن ان التأثر بالأفكار لا يعني تجاهل خصوصية الواقع، بل يعني محاولة ترويض الفكره لخدمة وتطوير الواقع بما يتناسب وحال الناس الذين يعيشون فيه. في الواقع، مازلت اتذكر خطُباء وكتاب ومثقفين كانوا وما زالوا يتحدثون بكل نشوة معرفيه عن مشاكل سياسيه واجتماعية وأخلاقية، لم يكن لها وجود في مدينتي. وأتذكر انني عرفت وتعلّمت عن تاريخ مصر، مثلاً، اكثر بكثير مما عرفته وتعلّمته عن تاريخ اليمن... لقد كان تاريخ اليمن ثانوياً في المدرسة وفي المعهد وفي الكتب المتداولة. وإذا تحدث احدهم عنه فمن باب التهكم وذكر السوءات..! لكن وبالمقابل، كانت، في الوقت ذاته، ما تزال ثمة سمّه عامه توجد لدى كل يمني وهي الفخر بتاريخهم العريق، ومع ذلك كان يتم التغاضي عنه الا من رحم ربي. ومن هنا، فأني أرغب من المهتمين والخبراء - وربما سأحاول من جهتي القيام بذلك بين الحين والآخر في وقت لاحق، ما استطعت – الخوص في مدى إيجابية التغيير الذي شكّلته كل الأفكار الوافدة على اليمن منذ الثورات الأولى وحتى اليوم.. تتعلق الفكرة بمحاولة التفتيش وتحليل مدى إيجابية التفاعل مع هذه الأيديولوجيات في اليمن! والتساؤل عن عمق الشعور الوطني لدى معظم القيادات السياسيه والنخب المثقفه والشخصيات الدينيه! وأنا أزعم أني حاولت، وسأحاول أو سأسعى، إلى لفت الأنظار الى مدى الهوة بين "النظام السياسي المستورد"، الذي لدينا وبين واقع الحال الذي وصلنا اليه.