دفعني للكتابة في هذا الموضوع ، قراءتي لقصيدة مغترب يمني ، يصف فيها مكابدته وألمه المتصل بسبب تمزقه بين الرحيل والبقاء . بين الحنين للأصل ووفاء وعدل الغرباء الغير موجود في الأصل! أحسست بعذاباته وحيرته ، ولكني في نفس الوقت ، لم أغبط نفسي على عدم فراقي للوطن واختلاف وضعي عن وضعه! أتعلمون لماذا ؟! بالتأكيد تعلمون ، ولكن لمن لا يعلم ، سأحاول تفسير موقفي ، الذي قد يكون غريبا بالنسبة لهم .. هناك غربة حسية ، وهي أن تفارق من ألفت من الناس ، وما ألفت من المكان . لكنك تظل مرتبطا بشعورك بما فارقت ، ويكون هذا هو مصدر ألمك ومرارتك . لكن هناك غربة أشد وأقسى ! هناك غربة الشعور ! أنت في وطنك .. بين أهلك ، لكنك لا تجد وطنا ولا تجد أهلا ! كل ما تجده ، الألم .. الحزن .. المعاناة.. المكابدة والمكابدة ومزيدا من المكابدة ! لكن ماهو سر كل هذه الآلام ؟! السر بسيط ، ومعلوم ومعروف ، وواضح كوضوح الشمس في كبد السماء ، في عز الظهيرة ! السر ، أن الوطن مختطف منذ عقود ! مغتصب منذ عقود ! ومن قبل من لا يرقبون فينا إلَّا ولا ذمة ! من قبل عصابة .. مجرد عصابة ، ولا يجوز أن يطلق عليهم غير ذلك ! عصابة ، استباحت الأرض والبشر والحجر والشجر ! عصابة ، باعت كل شئ ! باعت دماءنا.. باعت أراضينا .. باعت كرامتنا ! لم تبق ولم تذر ! ويا ليتها اكتفت .. ويا ليتها قنعت !! وكيف للنار أن تشبع أو تقنع ! هذه العصابة ، حولت الوطن إلى سجن كبير ! سجن لكل الشرفاء .. سجن لكل من لا يجيد أساليبهم وحقارتهم وضحالتهم ! وحولت الناس ، إلى آلات .. مجرد آلات لا تعي ولا تفقه ! نصبت نفسها أصناما تعبد من دون الله ! وحولت الناس إلى عبيد لهم ، عبيد للمصالح .. عبيد للاحتياجات الآنية .. عبيد للمادة ! خدرتهم .. سلبتهم الإرادة .. لتبقى ارادتها وحدها !
وعندما استفاق النائمون ، وليس كل النائمين طبعا ، بدأت معاناة أخرى ، بدأت غربتهم ! إنها غربة من يدرك الظلام وسط من من لا تطيق نفسه غير الظلام ، ويحاول – عبثا – الإبقاء عليه! إنها غربة الأهل ، بين الأهل ! إنها غربة أن تملك الفكر ، بين من لا يجيدون غير التكفير ! إنها غربة الروح ، وسط الغلظة والكثافة ! عندما ينشأ الإدراك، تنشأ المعاناة والمكابدة ! تنشأ .. الغربة . إذا اكتشف العصفور في القفص أن الفضاء الواسع ينتظره ، كيف سيطيق غربته عنه ؟! عندما يشرق النور في النفس ، كيف ستقبل بالظلام ثانية ؟! عندما تدرك الروح بارئها ، كيف ستطيق غربتها عنه ؟! كيف ستستمر في عبادة الوثن والصنم ؟! كيف ستكون غربتك ، وأنت تعيش كل القبح ، رغم إشراق الجمال في روحك ! مع كل إدراكاتك بالعبودية المفروضة عليك ، كيف ستكون غربتك ، وأنت لم تتحرر بعد من سجنك وسجانيك ؟! لكن ، هناك حل واحد ووحيد ، لتحمل كل تلك العذابات أو ما أسميناها الغربة ! إنه الإيمان .. الإيمان فقط ! الإيمان ، أن للكون إله عادل رحيم خبير لطيف ! إله ، وعد بالنصر عباده المجاهدين ! إله لا يقبل باستمرار الظلم ، طالما وجدت نفوس رفضته و تحاربه ! الإيمان بأن كل قصص الأنبياء ، والمؤمنين الذين معهم ، مع قوى الكفر والظلام ، ليست إلا قصص غربة وغرباء! فلتكن غربتنا كغربتهم .. وجهادنا كجهادهم .. لم يقنطوا ولم يتراجعوا حتى أيدهم الله بنصره . عندها ، سيكون لغربتنا طعم آخر .. سيكون لها طعم الجهاد ، وطعم الحياة الحقة ! لذلك كانت الغربة صفة للمؤمنين عبر التاريخ . وطوبى للغرباء !