«لقد انتهت المعركة وخرجت القاعدة من زنجبار». هذا ما أخبرني به الناشط الانفصالي الذي يعمل ايضاً كسائق أجرة في هذه المدينة اليمنية الجنوبية. ضحكة ريبة كانت هي ردة فعلي الأولية ان لم تخني الذاكرة. منذ أن سيطرت جماعة «أنصار الشريعة» المسلحة على مساحات من محافظات أبين اليمنية العام الماضي، والمسؤولون الحكوميون يبالغون في مزاعمهم التي اتسمت بالثقة حول التقدم الذي تحرزه القوات الحكومية في معركتها لدحر المقاتلين المرتبطين بتنظيم القاعدة. لكن تأكدت اليوم التالي أن انسحاب المسلحين كان حقيقة. بعد أكثر من عام تمكنت القوات اليمنية ولو بشكل مؤقت على الأقل، من استعادة السيطرة على عاصمة المحافظة. بدأت جماعة أنصار الشريعة السيطرة على مدن في أبين الربيع الماضي، مستغلين في ما يبدو الفراغ المتنامي في السلطة، حيث انشغلت الحكومة اليمنية بالصراع على السلطة الذي فجرته الاحتجاجات المناهضة للحكومة والتي استهدفت رئيس البلاد آنذاك علي عبدالله صالح. كان الكثيرون في اليمن حينها يصفون المكاسب المتسارعة التي حققتها الجماعة، بأنها جاءت نتيجة للتراجع المتعمد للقوات الحكومية، زاعمين أن صالح قام عمداً بالتخلي عن المحافظة التي عرفت بكونها مرتعاً للنزعات الانفصالية والتشدد الإسلامي، وذلك في مسعى منه لتحويل الأنظار عن التظاهرات المطالبة بإسقاطه. والحقيقة أنه حتى الوقت الذي تم فيه تنصيب عبدربه منصور هادي الذي شغل منصب نائب الرئيس لفترة طويلة من الزمن، خلفاً لصالح، تم وضع حملة استعادة أبين جانباً نتيجة توتر المواجهة بين فصائل مؤيدة لصالح وأخرى مناهضة له في الجيش اليمني. وبعد فترة قصيرة من توليه منصب الرئيس، شرع هادي في شن هجوم لطرد المسلحين الذين على الرغم من قتالهم تحت راية مختلفة، إلا أنهم يخضعون رسمياً لقيادة ناصر الوحيشي، زعيم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية ومقره اليمن. مسنودة بالمقاتلين المحليين والاستخبارات والدعم الجوي الأمريكي، بدأت القوات اليمنية تدريجياً باستعادة المناطق خلال الأسابيع التي سبقت ما يسمى بتحرير زنجبار. حتى بعد أن انطلقت إلى أبين صباح اليوم الذي عقب إعلان القوات الحكومية انتصارها، كان من الصعب زعزعة إحساسي العام بعدم التصديق. قليل من الصحفيين هم من غامروا بالذهاب إلى جعار وزنجبار خلال العام المنصرم، إلا أن من تمكن منهم من دخول المناطق التي تقع تحت سيطرة أنصار الشريعة، عادوا بروايات عن ما بدا أنه سيطرة لا شك فيها للمسلحين. وبينما فسحت الصحراء الطريق للضواحي الريفية لمدينة زنجبار، التي كان يقطنها ذات يوم قرابة 20,000، أصبت بصدمة من مستوى الدمار المروع، وأعادتني الصدمة إلى الحقيقة. وعلى طول الخطوط الأمامية لما وصفه بعض المسؤولون العسكريون بعام من الاحتكاك بين المسلحين والقوات اليمنية، كانت جميع المباني مدمرة تقريباً. الكتابات على الجدران والتي تلقي بالمسؤولية عن الدمار على تحالف الحكومة اليمنية مع الكفار الامريكيين، تشهد على حرب الدعاية وتحوم بشؤوم على المزارعين الذين بدوا راضين عن أنفسهم وهم يعملون في الحقول المحيطة بحطام منازلهم. عندما وصلنا إلى مدينة زنجبار، كانت نقاط التفتيش التي يحرسها الجيش اليمني وحلفائهم من القبائل المحلية تشير إلى تصميم الحكومة على الاحتفاظ بسيطرتها، بالرغم من الأعداد الصغيرة من المدنيين الذي تجمهروا حول شوارع المدينة المدمرة – وهم نسبة صغيرة جداً من أصل عشرات الآلاف الذين أرغموا على الهروب من القتال – بدوا يقدرون خسائرهم، وإن كان كثير منهم قد عبر عن شعور متضارب من التفاؤل. حتى أكثر المدنيين تفاؤلاً صدموا بحجم الدمار. قد يكون الهجوم نجح في منع المسلحين من تعزيز سيطرتهم على المدينة، إلا أنه في نهاية المطافوعلى بعد 10 أميال شمال زنجبار، في جعار، وهي مدينة أخرى «محررة», اقتطع أنصار الشريعة قاعدة لهم، ونالوا تأييداً – أو على أقل تقدير، الامتثال إلى القوانين – من سكان المدينة الذين تعرضوا للإهمال فترة طويلة من الزمن، وذلك من خلال إحلالهم للأمن وتقديم الخدمات الأساسية. لكن في معقلهم السابق الذي أطلقوا عليه ذات يوم اسم «إمارة وقار الإسلامية»، بدا وكأن ليس للإسلاميين أي وجود – حتى وإن كانت آثارهم منتشرة في كل مكان. تحت ظلال الجدران التي كتبت عليها شعارات القاعدة التي لا مفر منها – الجدران – وبتناقض شرع العسكري الذي رافقني بالبحث وعن ماء بارد، مظهراً ثقة الحكومة في السيطرة على المدينة، ويبدو كأنه معزولاً تماماً من القلق المتنامي لدى سكان المدينة الذين يعانون من الحر الشديد. ونتيجة لمعاناتهم من انقطاع التيار الكهربائي والذي من غير المعروف متى سيعود، تراوحت ردود افعال المدنيين ما بين الحيرة والقلق، مبدين رضى عن نهاية حكم أنصار الشريعة مقترناً بتشاؤم عميق حول تحسن الوضع، وفي بعض الحالات مستهزئين علناً بتأكيدات العسكري الذي رافقني حول العودة الأكيدة للخدمات الحكومية. وأنا ما زلت واقفاً أعلى جبل خنفر الذي كان معقلاً للمسلحين في السابق، وطبقاً لجنود تحدثت معهم فقد كان هدفاً متكرر للغارات الأمريكية بطائرات من دون طيار، كان من الصعب الاختلاف مع عشرات الجنود المبتهجين الذين كانوا يحيطون بكبار الشخصيات الحكومية وهي تتجول في المنطقة. لكن كما اعترف لي أحد كبار القادة العسكريين، فإن المعركة أبعد ما تكون عن النهاية. الحرب مستمرة في شقرة وفي شبوة. هذا ما قاله وزير الدفاع اليمني محمد ناصر علي. وبعدها بأيام أعلنت الحكومة سقوط مدينة شقرة الساحلية، آخر معاقل المسلحين في أبين. لكن إلى الشرق في محافظة شبوة، حيث يتوقع كثيرون أن يتجه المسلحون إلى هناك، للاختباء في نفس الجبال الوعرة حيث يعتقد ان معظم قادة القاعدة في شبه الجزيرة العربية يختبئون هناك. أحد المحللين اليمنيين الذي رفض الكشف عن هويته قال بعد برهة قصيرة من بدء احتدام المعركة في أبين مطلع هذا الربيع، واصفاً الهجوم بأنه ناتج عن رغبة هادي في إظهار طلاقه القاطع مع الماضي «الأمر في نهاية المطاف متعلق بإيصال رسالة. وبغض النظر عن التأثيرات بعيدة الأمد للمعركة في المحافظة، فإن هادي سيتمكن من إيصال تلك الرسالة، حتى وإن كتبت تلك الرسالة بدماء يمنية بدلاً من الحبر». بعد أشهر قليلة فقط، لاحظ العديد من اليمنيين بتفائل أن هادي تمكن من تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً، مربكاً بذلك توقعات أولئك الذين طالما نظروا إليه كشخصية كبيرة فارغة. لكن وبالرغم من أن بعض المسؤولين الحكوميين هللوا لهزيمة القاعدة في أبين، الا أن هناك بعض الشك من عودة الجماعة للقتال يوماً ما. بالرغم أن المسلحين هربوا بأسلحتهم سالمين وغادروا السهول، تلك الاراضي التي يصعب الدفاع عنها جنوبأبين، إلا أن البعض يشكك في قدرتهم على إعادة تجميع صفوفهم في ملاذات أكثر عزلة في مكان آخر. وحتى في غياب المسلحين عن المشهد مؤقتا، يبدو أن عودة الهدوء إلى أبين أمر بعيد. المسؤولون الحكوميون حيوا دور ما يسمى ب«اللجان الشعبية»، وهي مجاميع قبلية مسلحة خاضت قتالاً إلى جانب الجيش ضد أنصار الشريعة. ويسعى الكثير من مقاتلي اللجان علناً إلى استعادة جنوب اليمن استقلاله، بينما ينظر اليهم البعض في المحافظة بأنهم ليسوا إلا مرتزقة مجردين من المبادئ. بالنسبة للمدنيين فإن أي شكل من أشكال العودة إلى الوضع الطبيعي يعد أمراً من الصعب تخيله. حتى قبل الربيع الماضي، كان سكان أبين يشكون من إهمال الحكومة المركزية لهم، وفي أعقاب انسحاب المسلحين ما زالت الخدمات الأساسية غائبة في معظم مناطق المحافظة. ومما رأيته، فإن حجم الدمار الذي أصاب اقتصاد أبين ونسيجها الاجتماعي يبدو شبه كلياً، وتقدر الخسائر المالية منذ العام الماضي بالملايين. وبينما يتلاشى التفاؤل الحذر وإذا ما استمر الاستياء بالتنامي، فلن يكون من الصعب رؤية تفجر العنف في أبين مرة أخرى، بغض النظر عن نوايا تنظيم القاعدة. دحر المسلحين أمر، وإصلاح أضرار العام الماضي أمر آخر تماماً. عند عودتي إلى صنعاء قال لي أحد السياسيين المعارضين «حتى وإن حققت انتصاراً بالأسلحة في هذه المعركة، إلا إننا نستطيع فقط كسب الحرب من خلال التطوير الاقتصادي وبذل جهود حقيقية نحو التنمية». عمل على تدمير زنجبار خلال عملية إنقاذها. يقول سعيد علوي، أحد سكان زنجبار، وهو يشير إلى الحطام الذي يحيط بنا «إن خروجهم من المدينة أمر رائع، لكنهم تركوا لنا خلفهم الدمار».
الصورة لرجل وطفلته يمرون من أمام دمار منزل في أبين (رويترز - خالد عبدالله).