مازلت عند رأيي في أن محاولات تسلل بعض العناصر المتمردة في شمال اليمن إلى الأراضي السعودية في قطاع جازان كان نتيجة لسوء في (تقدير الموقف) من جانب قيادتهم بني على فرضية اكتفاء المملكة بقوات حرس الحدود شبه العسكرية في مناوشتهم لفترة طويلة يتمكنون خلالها من تثبيت مواطئ قدم لهم على الجانب السعودي من الحدود الجبلية الوعرة بحيث يمكن استخدامها كمواقع تبادلية في حالة التعرض لضغط شديد من قوات السلطة الشرعية اليمنية. ولكن المفاجأة التي لم يتوقعها المتسللون كانت في حشد القيادة العسكرية السعودية لبعض وحدات القوات المسلحة من مختلف الأصناف المتكاملة بالأسلحة والعتاد المناسب للقتال في المناطق الجبلية لتتحول سفوح الجبال السعودية إلى مقابر للمتسللين مما أجبر الأحياء منهم للاستسلام أو الانكفاء مرة أخرى إلى داخل اليمن. ولم تكتف القوات السعودية بذلك بل قامت بفرض حصار بحري على خط الإمدادات الرئيسي للمتمردين اليمنيين عبر ميناء (ميدي) اليمني ودمرت عددا من زوارق إمداداتهم القادمة من القرن الأفريقي. ومع تزايد ضغط القوات اليمنية على مواقع تمركز المتمردين وانقطاع خط إمداداتهم القريب، لجأ قائدهم إلى الرمي بآخر أوراقه الإعلامية بالإعلان عن فتح جبهة جديدة مع المملكة في قطاع نجران والتمدد شرقا في محافظة الجوف اليمنية لتوسيع رقعة الانتشار مما قد يوحي لكثيرين بأن قوات التمرد كبيرة وقادرة على الحركة وعلى نقل المعارك بكل يسر وسهولة كيفما تشاء وقتما تشاء. والحقيقة أن الوضع يختلف تماما عما يحاول قائد التمرد الإيحاء به، فهو يعلم جيدا أن إمكانيات التسلل عبر الحدود السعودية في نجران أصعب منها في جازان لعدة عوامل طبوغرافية وعسكرية أخرى منها أن خط الحدود السعودية اليمنية الذي يفصل نجران عن اليمن أكثر استقامة من خط الحدود الذي يفصل اليمن عن جازان، كما أنه لا يوجد تداخل كبير للقرى والتجمعات السكانية في هذا القطاع، إضافة إلى أن المرتفعات الجبلية في هذا القطاع تتراوح في ارتفاعها فيما بين (1300 2400) متر فوق سطح البحر، وهذا ارتفاع محدود نسبة لمتوسط ارتفاع جبال جازان والجبال المقابلة لها على الجانب اليمني الذي يتراوح فيما بين (2400 2800) متر فوق سطح البحر. كما أن منافذ الحدود المشتركة محدودة وتحت السيطرة، والممرات الجبلية المشتركة المتجهة من الجنوب للشمال قليلة أهمها بطون أودية (شوك ونهوقة وسعد). ولذلك لا بد في البحث عن عوامل أخرى تقف خلف محاولات المتمردين للتحرك شرقا داخل محافظة الجوف اليمنية المحاذية لنجران.
ويبدأ هذا البحث في النظر لخارطة توزيع المحافظات اليمنية التسع عشرة حيث يمكن بسهولة تبين أن محافظة الجوف التي تعتبر رابع أكبر محافظة يمنية بمساحة تصل إلى (40) ألف كيلومتر مربع وتشكل حوالي 7.2 في المائة من مساحة اليمن هي امتداد طبيعي لمحافظة صعدة من ناحية الشرق وهي محاطة من الشرق أيضا بحدود المملكة ومحافظة حضرموت اليمنية ومن الجنوب بمحافظة (مأرب) المضطربة إضافة إلى محافظة صنعاء ومن الغرب بمحافظة عمران.
وهكذا يمكن أن نتبين أن محافظة الجوف اليمنية تحتل موقعا استراتيجيا مهما يمكن أن يحقق للتمرد مكاسب لا حصر لها في حال تمكنه من تثبيت أقدامه فيه بحيث يتمكن من الانتشار على مساحة أوسع من الأرض اليمنية تصعب كثيرا من مهمة القضاء عليه خاصة في ضوء تكتيكات حرب العصابات التي يتبعها، إضافة إلى تمكنه من الاستفادة من الحدود المشتركة المفتوحة باتجاه محافظتي مأربوحضرموت في توسيع دائرة التمرد، وتقريب المسافات للاستفادة بشكل أكثر فاعلية من خط الإمدادات الطويل الذي كشفت عنه الاستخبارات المركزية الأمريكية مؤخرا، والذي يبدأ من ميناء صغير على بحر العرب. وذلك للتغلب على مسألة النقص في الإمدادات بعد إحكام القوات البحرية السعودية للسيطرة على خطوط الإمداد القصيرة إلى ميدي وغيرها من القرى اليمنية الساحلية على البحر الأحمر.
ولكن إلى أي مدى يمكن للمتمردين تحقيق أهدافهم في محافظة الجوف؟ محافظة الجوف التي شهدت حضارة مملكة (معين) التاريخية هي محافظة مختلطة الطوائف ومستقرة منذ أمد بعيد، كما أن الحكومة المركزية مسيطرة عليها تماما والقبائل التي تقطنها تكن عداء شديدا للمتمردين ومسلحة حتى الأسنان وقادرة على خوض حروب العصابات وإحباط كافة الأساليب التي قد يلجأ إليها المتمردون. ولذلك حينما حاول بعض المتمردين التسلل إلى محافظة الجوف عبر مديريتي (خب) و(الشعف) في أقصى شمال غرب المحافظة قرب المنطقة الحدودية المواجهة لسد (نجران) كان رجال القبائل المعززين بقوات حكومية لهم بالمرصاد فتم القضاء على طلائع المتقدمين منهم ليجمعوا قتلاهم وجرحاهم وينكفئوا مرة أخرى نحو جبال صعدة الشمالية، وهذا يفسر الانفجارات وأصوات الأسلحة المختلفة التي يسمعها أهل نجران من وقت لآخر.
ومع وصول القوات اليمنية حسب آخر الأنباء إلى مشارف الحدود مقابل جبل الرميح السعودي، يمكن الجزم بأن التمرد يتخبط الآن ولا يعلم إلى أين يتجه وأعتقد بأن مساحة المناورة على الأرض أصبحت محدودة للغاية في وجهه ولم يتبق أمامه سوى الاستسلام أو الموت وفي الحالتين سيحتفل الشعب اليمني الشقيق قريبا إن شاء الله بالقضاء عليه وعودة اللحمة والاستقرار لليمن الواحد تحت راية الوحدة اليمنية العزيزة بإذن الله.