أطلق لخيالك العنان. فعندما يتعلق الأمر بالنزاع المحتدم في صعدة والشريط الحدودي السعودي، تصبح التحليلات أشبه ما تكون بلعبة الحظ. وبمعنى آخر: يلعب حسن الطالع، لا البراعة والعمق، الدور الحاسم في إثبات أكثر وجهات النظر صوابا ونفاذ بصيرة. وفي المعركة لكسب السمعة، سيكون من العبث أن نتفاجأ بأن الرؤى المتسمة بالسذاجة والابتذال هي التي تحظى، في نهاية المطاف، باجتذاب الأنظار، والاندهاشات، وتنهدات الإعجاب. على سبيل المثال، لن يتورد وجهك خجلا وأنت تفترض حتى أشد الاحتمالات غرابة وافتقارا للمنطق، كأن تقول، وأنت تقطب حاجبيك كما ينبغي للمحلل الذكي أن يكون، بأن قوات الباسيج الإيرانية ملتحمة الآن بضراوة على سفوح الدخان وبني مالك والحصامة، مع "المجاهدين" وفرقة الواجب السعودية، أو أن تفترض بأن عبدالملك الحوثي وناصر الوحيشي، أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، يتقاسمان إدارة العمليات من كهف التحكم والسيطرة. قبل شهرين، لسعت النيران أطراف المملكة الشاسعة والباذخة. لكن هل كان وصول النيران أمرا لا مرد له. ذلك ألا شيء أصعب من التصدي للرد بيقين في خضم أفق ملبد بكل شيء باستثناء الحقيقة والمعطى المحايدين. غير أنه إذا كان لا أحد بمقدوره معاينة ما إذا كانت المملكة هي التي فرضت على نفسها هذا التدخل أم لا، فإن ما لا يتأثر بتغير الحقائق هو أن الحكومة السعودية لم تحترس كفاية قبل أن تقرر ما هو الملائم والحكيم لمواجهة الموقف الطارئ، وأنها قد انساقت بخفة، وهي الشديدة البدانة الشديدة الكهولة، خلف العواطف السياسية المنفعلة والأهواء والغرور. فبدلا من أن تتصرف، وفي حسبانها دائما، كيف ترفع ذراعها من المرجل المستعر، غمستها إلى الزند. ولقد بات محتما عليها الآن أن تختار بين أن تفكر كيف تنتشل نفسها بوتيرة أسرع من الوتيرة التي وضعتها بها، وبين أن تغوص في العميق، مع ما في ذلك من مخاطرة قد تفضي إلى خسران محتمل لذراعها، أو في أحسن الأحول تحتفظ بها لكن وقد أصيبت بعاهة لا يمكن إصلاحها. كما قلت، ليس سهلا إثبات من البادئ بإلحاق الأذى بالآخر، الحوثيين أم السعوديين. رغم أن الحدث المؤسس المعلن هو مهاجمة مليشيا الحوثي لرجال أمن سعوديين انتهى بمقتل ضابط وإصابة 11 آخرين. وإذا صحت فرضية أن الحوثي تعمد استفزاز المملكة، فإن للأخيرة كامل الحق في الذود عن ترابها ورد العدوان، مع الأخذ بالاعتبار ما ينطوي على ذلك من مخاطر لا يمكن التنبؤ بصيرورتها. هذا بديهي وشرعي وحتى أخلاقي. وبصرف النظر، أكان الحوثي يفعل ما يفعل بإيحاء إيراني أم أنه كان يتصرف كزعيم عصابة لم يعد لديها الكثير لتخسره، فإنه كان على صانع القرار في السعودية النظر إلى المسألة من زاوية أن المراهنة على غالون النفط لإخماد الحرائق مثل المراهنة على إشعالها باسطوانة غاز الكربون مثلا. من وجهة نظري، مع عدم إحاطتي بملابسات الحدث، فإنه كانت توجد طريقة أفضل. ولا بد أن تكون هذه الطريقة غير تقليدية لمجابهة تهديد غير تقليدي. على سبيل المثال، كان على الحكومة السعودية، قبل أي شيء، أن تخضع "عدوان الحوثي" للدراسة المتأنية والتمحيص بعد أن تجمع كمية وافية من المعلومات لتستخلص الأجوبة المنطقية عن أسئلة حاسمة من هذا النوع: هل كان الحوثي يقصد بالفعل زعزعة أمن الجنوب السعودي وفقا لخطة مسبقة استوحاها من ذوي العمائم السوداء في طهران وقم، ضمن التجاذب الإيراني السعودي؟ إذا تبين، بشكل لا ريب فيه، أن الأمر كذلك، فإن الخطاب ينبغي أن يتوجه رأسا إلى هناك، إلى طهران، بأن عليها أن تكف يدها عن أراضي المملكة "قبل أن تبتر". وطبيعة الرد الايراني سيحدد الشيء التالي. فإذا هي قابلت اللهجة السعودية بتحد ونزق، فإنها تكون قد أسدت صنيعا للأخيرة التي ستجد نفسها مدعوة لخوض حرب تأجلت أكثر من اللازم. ذلك أنه من الكياسة أن أضع إرادتي وقوتي في مواجهة إرادة دولة بحجم إيران، مستمتعا بامتيازات هذا النزال المتمثلة باالمؤازرة والدعم الدولي اللامحدود، على أن أتورط في مجابهة مع عصابة بربرية "زئبقية" لم تكن لتوجد لولا رعاية الملالي. أما إذا جاء الرد الإيراني هادئا حاذقا، وعلى افتراض أن الحوثيين ينصاعون لأوامر طهران حرفيا، فإن الأخيرة ستتوج ردها بدعوة خلاياها اليقظة في صعدة إلى صرف النظر عن الخطة والمسارعة إلى الانسحاب الفوري من الأراضي السعودية. وبهذا تكون المملكة قد خرجت من الامتحان قبل أن تخاطر بالمساس بكرامتها. السؤال الثاني الحاسم، الذي كان على الحكومة السعودية دراسته: أكان الحوثي يتصرف فقط من تلقاء نفسه، وإلى أي مدى كان الرجل مدفوعا بالرغبة فقط في مناكدة وإيذاء السعودية بغية نقل النيران إلى أراضيها، واضعا نصب عينيه التداخل الجغرافي، والتماثل الاجتماعي وربما الطائفي بين مليشياته وبعض سكان جازان ونجران؟ في هذه الحالة، لو صحت، كان على السعودية أن تتخذ منظومة تدابير، يمتزج فيها السياسي بالأمني، كأن تكتفي بردع عسكري خاطف لأي توغل، بهدوء ودونما أي ضجيج مصاحب من شأنه المبالغة في تقدير إمكانات من تسميهم ب"المتسللين"، والاتجاه، بالتوازي، إلى مواطنيها على الشريط الحدودي لتعبئة إرادتهم ضد العدوان الحوثي، والاستجابة لمخاوفهم، والعمل على تفريغ أي احتقانات قد يكون أولئك السكان يضمرونها ضد حكومتهم ناجمة عن الإحساس بالتهميش والنسيان، للحيلولة دون توظيف الحوثي لها في مسعاه لاستقطابهم إلى صفوفه. أما إذا تأكد لها بأن الحوثي قد اتخذ من سماح المملكة المفترض للجيش اليمني باستخدام أراضيها لتسديد الضربات ضد المتمردين، ذريعة لشن هجماته على الأرض السعودية، فإنه كان الأجدر بالأخيرة أن تبادر دون تردد إلى سد هذه الذريعة، بأن تطلب، مثلا، من الحكومة اليمنية التوقف عن استخدام الأراضي السعودية لتجنيب نفسها الدخول في أتون حرب لا يبدو أن الأولى ولا الأخيرة في حاجة إليها، أو حتى يمتلكان القدرة على معالجة الاختلال الذي سينجم عنها. لكني أخشى أن السعودية نفسها هي التي كانت تنتظر على أحر من الجمر، الذريعة اللازمة لإعلان حرب وقائية على ما تظن أنها خلية نابضة من الجسم الإيراني حفرت لنفسها جذورا عميقة في صعدة. وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنها اقترفت حماقة لا علاج لها. ... الأضعف هو الذي يمتلك ترف تبسيط الصراع. هذه الملاحظة الأخاذة التي توصل إليها زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في إدارة جيمي كارتر، وأحد أبرز الأدمغة السياسية في واشنطن، تنطبق، بطريقة ما، على أسلوب المملكة المتشنج في تعاطيها مع الحوثيين. ويجب القول بأن مقاربة بريجنسكي جاءت في معرض الإشارة إلى ردة الفعل الهستيرية للولايات المتحدة في أعقاب هجمات ال11 من سبتمبر. لاحظ بريجنسكي كيف أن جملة مثل "الشيطان الأكبر" قادرة على تلخيص وجهة نظر الجماعات الإرهابية الأقل ميلا للتعقيد. لكن بالنسبة لقوة عظمى مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن هذا الصراع أكثر تشعبا مما يبدو عليه، وأن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي. فعلى صناع القرار دائما الأخذ في الحسبان تلك الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية التي لا تنفك تنتج هذا المزيج المهلك من اليأس والعدمية وشهوة الموت. يشرح بريجنسكي أيضا، كيف أن الإرهاب يشكل في الواقع أداة شرسة يستخدمها الضعيف في وجه القوي. ورغم أن كونه ضعيفا هي "خاصية لا تمنحه أية شرعية أخلاقية"، إلا أن "الضعيف يملك ميزة نفسية كبيرة: لديه القليل مما يخسره، ويعتقد بأنه يستطيع كسب كل شيء"، "ويمكنه أن يجد السند في الحماسة الدينية أو التعصب الطوباوي، وهو يعبر عن قناعاته بطريقة حادة نابعة عن فساد حالته"، على حد تعبيره. وطبقا للمفكر الاستراتيجي الأمريكي، في كتابه "الاختيار"، فإن بعض الضعفاء لديهم استعداد للتضحية بأنفسهم، "لأن حياتهم لا تكون ذات معنى إلا عندما يتسامون على وجودهم البائس من خلال أعمال انتحارية مصممة لتدمير محور كراهيتهم، وهكذا فإن يأسهم يولد حماستهم ويحفز إرهابهم". سأنقل فقرات كاملة من الكتاب. كتب بريجنسكي هكذا: "وبالمقابل يمكن أن يخسر القوي المسيطر كل شيء. وبخاصة ذلك الذي يقدرونه أيما تقدير أي رفاهيتهم، كما أن قلقهم يبدد قوتهم، فالأقوى يحافظ على حياته ويحب الحياة الرغيدة، والرعب متى انتشر بين الأغنياء يجعلهم يغالون في تقدير الإمكانات العقلية للخصم غير المرئي والضعيف أساساً. ويبالغون في قدرته المزعومة على الوصول إلى أهدافه، فيما يقوضون الإحساس الجماعي بالأمن، وهو إحساس ضروري جداً للوجود الاجتماعي المريح". قبل أن نقرأ العبارة التالية، تذكروا قرارات مجلس التعاون الخليجي في الكويت، والرطانة البلاغية عن مساندة المملكة ضد الحوثيين وتشكيل قوة تدخل سريع وما شابه: "ومتى انزلق القوي في ردود أفعال مذعورة مبالغ فيها، فإنه يتحول من حيث لا يدري إلى رهينة بيد الضعيف، ليس في استطاعة الضعفاء المتعصبين تحويل أنفسهم، لكن لديهم القدرة على جعل حياة الأقوياء بائسة، فقوة الضعف هي المكافئ السياسي لما يسميه الإستراتيجيون العسكريون «الحرب غير المتناظرة»". خذوا أيضا وأخيرا هذه الفقرة من كتاب بريجنسكي: "إن الثورة في الشؤون العسكرية التي تعاظم القوة المادية للمسيطر من الناحية التكنولوجية، توازنها في الواقع القفزة النوعية في القابلية الاجتماعية للتعرض للخطر، مما يزيد من مقدار الخوف الذي يتملك القوي من الضعيف". على أن النصر بالنسبة للجماعات الإرهابية يتحدد من خلال ردة فعل الهدف من الهجوم. فإذا هي تمكنت من إثارة الهلع في نفوس الأقوياء، فإن الزهو والتبختر سيجد طريقه إلى قلب زعيم الجماعة الإرهابية، الذي سيقابل هذا النصر بالتثاؤب وتمرير أصابعه ببطء على لحيته وبخشوع. وبكلمة؛ لا بد أن على السعودية أن تقوم بالمستحيل لانتشال ذراعها الناعمة من المرجل الآن، على الأقل كي يتسنى لها وضع المراهم اللازمة.