المشهد السياسي في اليمن لا يبشر بخير على الإطلاق. إذ أنه وعوضاً عن غياب النخبة السياسية المسؤولة والمنتمية إلى الناس، ثمة حالة غياب أخرى يسجلها المثقف (الكاتب والصحفي)، أو بالأصح هي حالة غيبوبة كبرى، حين تحولت الكتابة _في أحسن الأحوال_ من حالة نضال أو رسم لما يجب أن يكون عليه الواقع، إلى حالة احتراف أو عادة يومية. ذلك أنك تجد صحافتنا، وصفحاتنا على فيس بوك وهي مشغولة كل فترة بحدث، فلا فرق بينها وبين نشرات الأخبار أو «مقايل القات»، حين يسيطر عليها كل يوم موضوع، المهم موضوع تتجاهله حين يأتي موضوع آخر، تستوي في ذلك مجزرة دامية، أو انتهاك لحقوق الإنسان، في شأن محلي أو خارجي، مباراة كرة قدم، أو خلاف بين صحفيين، قفزة فيليكس أو حادث مروري في فيس بوك، لا فرق، كلها مواضيع للكتابة، وكلها تحتاج من الجميع لحماس مماثل، لقد تحولنا بشكل عجيب إلى مجرد ردود أفعال، ليس هذا وحسب، فحين تلاحظ ما يكتبه الصحفيون واتجاهاتهم، ستجد ما يسميه إدوارد سعيد ب(الموقف النصي)، الذي قد يفضي إلى جدلية مركبة، يحددها سعيد ب«جدلية الدعم» (ومعناها أن ما يقرأه القراء يحدد ما يخبرونه في الواقع، وهذا يؤثر بدوره في الكاتب فيجعله يتناول موضوعات حددتها سلفاً خبرات قرائه) (الاستشراق: ص171). كاتب يكتب ليرضي قارئه، وكاتب يكتب ليرضي اتجاهه السياسي وانتمائه، وكاتب يكتب لأجل بدل إنتاج فكري، وكاتب يرى في الثورة موسماً جيداً يمكنه أن يحشد فيه كل ما يمتلكه من المجاز والمجازات الأخرى المجاورة، وكيفما اتفق يتشكل الوعي في اليمن بهذه الطريقة السطحية واللامسؤولة وبخفةٍ لا متناهيةٍ، الأنكأ من هذا أنك تجد الطروحات المهمة لا تلاقي رواجاً على الإطلاق، أفكر كيف يمكن ل(أبو بكر السقاف) أن يشخص معظم مشاكلنا دون أن يعرفه أحد؟؟ بينما يمكن لمنير الماوري أن يلقى هذه الشهرة الواسعة، في حين يتجول أحمد غراب في الصفحات الأخيرة للصحف كي يصلي على النبي، ومحمود ياسين بتلك اللغة الروائية العالية يكتب مليون عمود صحفي عن السأم والسفر، قبل أن يتحول فجأة إلى اللاسفر المبرر.
ربما يجدر بنا أن نعيد النظر في موقفنا من الكتابات التحليلية، أو الكتابات التي تحمل رؤى سياسية اجتماعية فكرية، ربما كان أهم ما ينقصنا في هذه الثورة وهذا الواقع هو الفهم. أولاً وأخيراً، إذ أن أخطر ما ضللنا على مدى «ثورة» كاملة (لم تكتمل) هي سلطة المجاز وخطابه الذي برر ما لا يمكن للعقل أن يتقبله. لعلي لا أستطيع مقاومة رغبتي في القول أني لم أعد أعول على كثير من الصحافيين، ولا على دور المثقف، ولم أعد أعول على شيء أياً كان، لا أحد يمتلك قضية في هذا الوطن، يطالبك الناس بأن تكتب عن السياسة، وينتقدون منشوراتك التي تكفر فيها بواقعك وبكل شيء رمادي فيما يشبه الهروب الرومانسي، بينما أحد أهم الأسباب التي جعلتك تفعل ذلك هو أنك كتبت وكتبت، ووجدت أخيراً أنهم (هم بالذات) لا يقرأون، الصحفيون لا يقرأون، فقط يكتبون ويخوضون نقاشات عقيمة ويختلفون ويقيمون الدنيا ويقعدونها على أمور تافهة، ويتجاهلون القضايا الكبرى... بصراحة ما يؤلمني أكثر من أي شيء آخر هو أن مقالاً واحداً يصلح للنشر أكثر من مرة، بل إن ما قيل يمكنه أن يقال باستمرار، ذلك أن لا شيء يتغير... للأسف!!