عليك كصحفي أجنبي تريد العمل في اليمن أن تتكفل بمعيشة مرافق من وزارة الإعلام لن يفارقك الا إذا أردت الدخول إلى الحمام. اعتاد الصحفيون ومراسلو القنوات الفضائية الوافدون إلى اليمن منذ سنوات أن يبدأوا بزيارة وزارة الإعلام واستخراج تصريح للتصوير في أماكن تُحدد بشكل مفصل، وأحيان كثيرة الشخصيات التي سيتم التصوير معها ومقابلتها.
وعلى الصحفي أو المراسل أن ينتظر فترة أقلها اسبوع حتى يصل رد الوزارة اما بالموافقة أو بالرفض، وفي كلا الحالتين يكون الصحفي في وضع صعب، فإن كان الرد بالرفض فسيخسر الصحفي الغرض الذي جاء من أجله، وإن كان الرد بالموافقة فذلك يعني أنه سيوافق على مرافق من الوزارة يعيش معه كالظل، وهذه يعتبرها الصحفي المحترم إهانة له ولمهنيته.
كثيراً ما اشتكى الصحفيون من التعامل الأمني لوزارة الإعلام طيلة السنوات الماضية، وكثيرا هي المطالبات بتغيير هذا النهج، غير أن الوزارة تزداد تصلبا يوما بعد آخر وتزيد من عدد سماسرة الأمن.
رفُض الكثير من الصحفيين ومنعت التصاريح لهم، وسحبت من البعض الآخر بحجة «اخلال الصحفي بتعهده»، وهذه تعني رفضه في مرات من تدخلات المرافق، حيث يقوم المرافق بمتابعة الصحفي والترصد له ووضع الاقتراحات ورفع التقارير الأمنية اليومية عن الشخصيات التي قابلها والأماكن التي زارها.
هذا الوضع لم يتغير بعد الثورة، ولم يتقدم خطوة واحدة، فما زالت وزارة الإعلام تمارس ذات الهواية منذ أن تأسست كمؤسسة رقابية أمنية على وسائل الإعلام.
وضع وزارة الإعلام لم يتغير بعد الثورة فما زالت تمارس الهواية ذاتها منذ أن تأسست كمؤسسة رقابية أمنية على وسائل الإعلام رافقت أحد الصحفيين العرب الذي جاء إلى اليمن وكله شوق برؤية مشاهد التغيير بعد ثورة الشباب الشعبية السلمية، فطلب مني أن أستخرج له تصريحا من وزارة الإعلام فأجبته بكل ثقة: كان هذا في الماضي، أما الآن فبإمكانك أن تمارس مهنتك بكل حرية.. غير أن زميلا لي أكد لي أن التصريح ما زال ضرورة.
ذهبنا معا وكلنا أمل بأن المسألة لا تعدوا كونها روتين، غير أننا فوجئنا بأنها ما زالت تلك القلعة الأمنية كما كانت في الماضي. طلب منا الانتظار حتى توقيع وكيل الوزارة الحماطي الذي كان غائباً، واضطر صديقي الصحفي أن يتحمل تكاليف اقامة اضافية حتى يستخرج التصريح، وبعد أن طلب منا أوراق ورسائل رسمية وتفاصيل، أعطونا التصريح برفقة مرافق من وزارة الإعلام. قيل لنا أنه علينا أن ندفع 50 دولاراً يوميا للمرافق كأجر لمرافقته، وكذا تحمل نفقاته من أكل وشرب وسكن.
جن جنون صديقي الصحفي، وقال إن ميزانيته لا تسمح مطلقا بإضافة أحد في فريق العمل، وأن المنتج لا يمكنه أن يتفهم إنفاق هذه المبالغ على بند مرافق، فحاولنا التفاوض مع الوزارة واقناع وكيل وزارة الإعلام الحماطي غير أنه رفض بشدة، واتهمنا بأننا لا نريد الخير لليمن. اتصلت بالزميل عبدالباسط القاعدي مدير مكتب الوزير وطلبت منه التوسط عند الوزير لغرض استثنائنا من المرافق حيث أنه من الممكن أن يلغى التصوير في اليمن بسبب عدم قدرة المنتج على تحمل تكاليف إضافية، غير ان القاعدي فشل في مهمته أيضا.
كنت اتفهم وضع الزميل عبدالباسط وهو يتحرج من ضيفنا، ويرى أسئلة كثيرة تراود ضيفنا عن كيف لبلد بعد ثورة حرية وكرامة أن يعامل الصحفيون بهذه الطريقة الأمنية التقليدية التي لا تعمل بها أي دولة سوى الدول الديكتاتورية المتخلفة.
حاولنا إقناع مدير الإعلام الخارجي بشتى الوسائل، فأنا حريص على أن نرى عملا فنيا محترفا عن اليمن من انتاج هذا الصديق المحترف، وهو حريص على أن يعطي اليمن حقه في وسائل الإعلام العالمية أيضا، غير أن الوزارة حريصة فقط كما يبدوا على إطعام موظفيها المتفرغين لمراقبة او مرافقة الصحفيين.
أعدنا ترتيب الطاقم وحذفنا أحد الفنيين لتُوفر أجوره وتعطى لمرافق الوزارة، وتحركنا على مضض وكلنا في استياء شديد من هذا الضيف الثقيل الذي سيكون الرقيب علينا طوال رحلتنا، وتبرير وزارة الإعلام هو أن المرافق سيسهل لنا الدخول والخروج الى المحافظات وكذا التعامل مع الأمن في كل النقاط وأماكن التصوير.
كيف لبلد بعد ثورة حرية وكرامة أن يعامل الصحفيون بهذه الطريقة الأمنية التقليدية التي تتعامل بها الدول الديكتاتورية المتخلفة في اول اختبار لمهمة ضيف الطاقم الثقيل، احتجزتنا أحدى النقاط العسكرية، واحتجزت المعدات، طلبنا من المرافق أن يتحرك غير ان اتصالاته وتنسيقه استمر لأكثر ثلاثة ساعات وهو يتصل، فقمت أنا بالاتصال بمن أعرف واستطعت تجاوز النقطة في غضون دقائق، وهنا تساءل صديقنا الصحفي: ما فائدة وجود هذا المرافق؟
لا أتذكر أنه أفاد الفريق بشيء، غير مقترحاته التي يتدخل فيها في أمر المخرج والمعد والمصور وحتى السائق. حينما قرر الفريق النزول إلى عدن، كان على البعض أن يستقل الباص او البيوجوت للوصول الى عدن نظرا لنقص الميزانية، والبعض الآخر سيذهب بالطيران خصوصا الفنيين منهم، غير أن مرافق الوزارة طلب أن يذهب عبر الطيران، وكأنه أهم من في الفريق.
لا شيء يستفزك غير ان يكون الضيف الثقيل الذي تشعر أنه جاء ليراقبك ولم يقم بأي مهمة من مهامه، يتعامل وكأنه المدير والمسؤول عن الجميع، فمن اشتراطاته بفندق فخم ومواصلات الذهاب والإياب وغيرها، إلى إرساله سماسرة الأمن السياسي لنا كي نعطيهم رشوة حتى «نسكتهم».
رفضت في البداية التعامل مع هولاء السماسرة فلدينا تصريح رسمي من الوزارة، غير أني اكتشفت أنني واحد من مئات الصحفيين الذين زاروا عدن يُرغموا على إعطاء مبلغ مالي لضابط معروف في الأمن السياسي في عدن، مقابل تسهيلات، وإن لم يفعلوا فإن العراقيل ستكون متتالية، وعادة ما يفضل الصحفيون انجاز مهمتهم بأي ثمن.
يصر مرافق الإعلام أن يأخذ مبلغه اليومي حتى ولو لم يكن مرافقا للفريق في يوم من أيام التصوير، حتى تلك الأيام التي يتم التنقل فيها والتي لا أجور فيها لطاقم العمل فإنه يجب عليك أن تستثني مرافق الإعلام لتعطيه أجوره. لا يوجد وصف يمكن أن تصفه سوى أن مرسل ليكون الشيخ عليك!
ليست المسألة المالية هي المشكلة عند كثير من الصحفيين بقدر الشعور السيء الذي ينتابك وأن تعمل وهناك من يسجل كل خطواتك، ويرفع بها تقارير يومية الى الأمن، فضلا عن أن هذا يحدث في بلد بعد ثورة حرية وكرامة سقط فيها آلاف الشهداء لغرض إسكات هذه التصرفات الأمنية المعيبة.
كانت المشاكل لا تهدأ مع هذا المرافق، وكان من الصعب أن تصبر وهو يلقي عليك تعليماته على شكل مقترحات، لكن سعيك لإنجاز العمل يجعلك تصبر على مرارة الرجل.
حاولت أكثر من مرة أن أتواصل مع وزير الإعلام لعله يتذكر دماء شهداء الثورة وأنين جرحاها، وينقذ الموقف المخزي، غير أن ذلك لم يفد بشيء، فموظفي الوزارة لا يحترمون الوزير وبعضهم لا يأتمر بإمرته، وهكذا يصرحون لمن يفاوضهم، فهو يبدو أضعف من أن يوقف او يعاقب احد على الأقل في نظر موظفيه.
بعد الحاح مني على احد مسؤولي الوزارة، قالها لي بكل صراحة أنه يعمل كمدير معين من قبل الأمن القومي وان إرسال المرافق أمر ليس بيده ولا بيد الوزير، وحين رددت عليه بأن المسألة قد تغيرت بعد الثورة، أجاب بقوله: عادها ألعن.
على الصحفي الأجنبي الذي يعمل في اليمن تحمل تكاليف «المرافق» الذي يراقبه ويدفع له يومياً 50 دولاراً وتحمل نفقات الأكل والشرب والسكن فورا سألت قيادات في نقابة الصحفيين -الذين كانوا يتابعون معنا كثير من لحظات الخلاف مع الوزارة- كيف يمكن السكوت على مثل هذه التصرفات؟ غير أن النقابة أيضا يبدوا أنها يئست من تغييره.
سألت نفسي: كيف يمكن لصحفي يزور اليمن أن ينقل صورة طيبة عن البلد وهو يعامل بهذه الطريقة المعيبة؟
في الدول المحترمة تعمل الحكومات على تسهيل كافة الاجراءات وازالة العراقيل للصحفي وتوفر الأجواء الملائمة لطبيعة عمله، وبعضها يصل بها الحد إلى ان تعطيه استثناءات خاصة، لإدراكهم بأهمية الاهتمام بهذا الرسول الذي سينقل صورة البلد للآخرين عبر وسيلته الإعلامية.
وزير الإعلام يبدو خارج نطاق التغطية، ولم يحصل اي تغيير داخل وزارة الإعلام حتى الآن، ولم يقدم الوزير أي دليل ملموس على جديته في تغيير وتطوير الإعلام، حتى تلك التي حصلت في الفضائية اليمنية فإنها لا تعدو كونها تغييرات صورية، وإن أجبرت الضرورة على تغيير الخط التحريري بشكل بسيط، إلا أن الفساد ما زال منتعشا في الفضائية اليمنية، والعمولات والرشاوى والمحسوبيات واهدار الثروات ما زالت على أشدها.
لا أدري إن كان يدرك الوزير أنه بإمكان الفضائية اليمنية الأولى -بميزانيتها الضخمة- ان تحدث قفزة نوعية للإعلام اليمني، وأن تطور من جودة الإنتاج والدراما الذي ما زال في أدنى مستوياته كما وكيفا؟
بعيدا عن هذا العبث بأموال الشعب اليمني الذي يحدث في الفضائية والقنوات الرسمية، فإنه من باب الأولى ان يتم الاهتمام بوزارة الإعلام نفسها وتغيير سياستها، وتعاد هيكلتها كي تتوائم مع المتغيرات التي حدثت في البلاد.
إنه من المعيب حتى أن لا تجد في وزارة الإعلام غرفة استقبال محترمة لائقة، ولا قاعة او صالة للمؤتمرات الصحفية مجهزة بكل التجهيزات التي تحتاجها القنوات والصحفيين، مع وجود فراغ كبير جدا في مبنى الوزارة، يمكن استغلاله بأشكال متعددة كقاعات وصالات عرض ومقهى للإعلاميين وملتقى ثقافي وصالة اجتماعات او مكتبه وغيرها، أيها السادة: نحن نتحدث عن ألف باء إعلام، منعدم في الوزارة.
كم يحز في النفس أن نرى حلم الشباب الذين ضحوا بدمائهم يتبدد أمامك وعلى يد من كنت تأمل فيهم خيرا، فأين الصعوبة في أن يتخذ وزير الإعلام قرارا بمنع هذه الممارسات غير الأخلاقية التي تمارس ضد الصحفيين والمراسلين.
هل من المعقول ان اردت تصوير باب اليمن او صنعاء القديمة او صهاريج عدن أن تنتظر إذنا من وزارة الإعلام يأتيك به مرافق يحتاج الى 50 دولار يومياً كأجر له؟ وهل من المنطقي أن تستمر هذه السياسات غير الأخلاقية بعد ثورة الحرية والكرامة؟
ما الخطر الذي يشكله الصحفي حتى تفرغ له هذه الكتائب الأمنية، أليس من الأحرى أن تتفرغ الأجهزة الأمنية لضبط الأمن في المحافظات وترسيخ الاستقرار بدلا من ملاحقة الصحفيين ورقابتهم؟ اهترأت كل الأجهزة الأمنية في البلاد وضعفت وبعضها انتهت إلا أجهزة الرقابة على الصحفيين ما زالت فاعلة.
ان على نقابة الصحفيين أن يرتفع صوتها وترفض مثل هذه الممارسات وتضغط على الوزارة على وقفها، وعلى وزير الإعلام أن ينتبه لحالة الفوضى التي تعيشها الوزارة وحالة العبث اللامعقولة في التعامل مع الصحفيين الأجانب والموفدين.
ان الصحفي الزائر الذي يعامل بهذه الطريقة التي ستصور له اليمن كقلعة أمنية، لن يكون بمقدوره الدفاع عن بلد أهانته، بل سينتصر لمهنته ويعكس الواقع المرير الذي لازمه طوال رحلته، الذي قد لا يعكس بالضرورة الحالة التي تعيشها البلاد، فقد حُرم بفعل المرافق من تلمس الحياة الفعلية لليمنيين.. فهل ياترى تدرك الوزارة خطورة ممارساتها؟