ما يجري في بلادنا العربية من مآسٍ ومحن منذ استقلالها وتحديدا في العقود الأخيرة، يرى المتابع وكأن الزمن قد توقف في منتصف القرن المنصرم أي خمسينات القرن الماضي، بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، ومنذ تلك العلامة الفارقة بدأ الأعداء يتصالحون (دول المحور والحلفاء) في تعاون ثنائي وجماعي من أجل الجميع أي القارة الأوربية، ويومها ولدت فكرة الاتحاد الأوربي بفكرة متواضعة سميت مجموعة الحديد والصلب أرسى دعائمها السيد شومان وزير خارجية فرنسا آنذاك الذي غدا اسمه يطلق على أشهر ميادين عاصمة أوروبا بروكسل، ويطل عليه مبنى الاتحاد الأوروبي المهيب والذي يحتضن رؤساء بلدان الاتحاد الأوروبي سبعة وعشرين دولة ما بين ثلاث الى أربع اجتماعات سنوياً، فيلتقون بسلالة دون أن يزعجوا المارة كما يحصل في عواصمنا العربية لمجرد وصول رئيس أو اجتماع اصغر حجما من بلدان الاتحاد الأوروبي التي تضم 27 دولة ! ومن خلال كتاباتي المتواضعة في الشأن الأوروبي وعملي عن قرب من مؤسساته لاحظت كغيري سلاسة تكوين وصلابة التجربة الأوروبية والتي أتت بعد تأسيس الجامعة العربية، ولم تكن بهذا الصيغة شكلاً ومضموناً في سنواتها الأولى على النحو التي هى عليه عند تسميته بالسوق الأوروبية المشتركة ومن ثم مؤخراً عرف بالاتحاد الأوروبي، إلا أن تشريعات هذه المؤسسة قد تطورت وتفاعلت مع المستجدات بينما ظلت الجامعية العربية حبيسة الخلافات العربية والتوقع داخل تشريعاتها الكلاسيكية فمن ضمن التحولات التنظيمية في مؤسسة الاتحاد الأوروبي اتفاقية كوبنهاجن التي قيدت شروط العضوية للانضمام لها من معايير ديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخرى اقتصادية فضلا عن التجانس السياسي والاعتبارات الجغرافية ونحو ذلك. كذلك شهدت أدبيات الاتحاد الأوروبي محطات وتحولات عديدة آخرها اتفاقية لشبونة الشهيرة قبل بضع سنوات، واعتبرت وثبة كبرى أخرى واكبت تطور هذا الكيان الكبير الذي يوصف بأنه عملاق اقصادي ولكنه قزم سياسي بالنظر لدوره المحدود في ظل توازن القوى في عهد الحرب الباردة ولاحقاً في ظل أحادية القطبية.
ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وتزامن ذلك ببدء استقلال بعض الأقطار العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة الجمهورية فجأة، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ يضمون المعنى وجوهره، فلم يكن لأصحاب التغيير الثوري في البلدان العربية مشروعاً واضحاً ورؤية بعيدة المدى لما ستؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية واجتماعية لا مجال هنا لسردها.
وبعد أفول بعض الأنظمة العربية الكلاسيكية التي نهجت الملكية عقب الاستقلال تحولت النخب الاجتماعية فيها إلى مغامرات ربما قبل أوانها، وتحولت في عشية وضحاها إلى جمهوريات أما ديكتاتورية او بواجهات ديمقراطية تحت قيادة ما عرف بالحزب القائد التي تتمحور حوله كل تفاصيل الحياة من أصغر الأمور لأعظمها!
غير مدركه بأن العبرة ليست بشكل الحكم ولكن بعقلية النخب الحاكمة فتحولت العسكرتارية بداية سلسلة من المآسي والمحن لبعض من دول المنطقة.
الإشكال الجوهري في التفكير الجمعي العربي أن الإنسان العربي غدا يفكر بعقلية حاكمه، ولا يتبين للبعض مدى حجم الفساد والظلم إلا بعد رحيله! فقد ينظرون لحياتهم وفق رؤية النخب الحاكمة التي يحلو لها الترويج لمثل تلك الثقافات ولم تتجرأ على إطلاق العنان لحرية الفكر بدراسة كل الظواهر وفق رؤية شخصية ومن ثم وطنية في قراءة تاريخهم.
وفق هذا المفهوم وفي نظرة لدول الجوار العربي فلا أجد تفسيراً لتطور تركيا وإيران النسبي مقارنة بأغلب بلدان الوطن البلدان العربية. حيث أجمعت تقريبا على رؤية سياسية موحدة، ذلك ان القاعدة الاجتماعية والدينية هى نفسها مع البلدان العربية وأن اختلفت نسبيا في المستوى الثقافي إلا أنها اقتصادياً تكاد تكون متقاربة مع اغلب البلدان العربية كما أن تلك البلدان هي وريثة حضارات وبعضها حكمت البلدان العربية لقرون، رغم إنها في أواخر عهودها كانت تحتضر سياسياً وفي مستعمراتها، حيث كانت تسمى بالرجل المريض ولكنها مقارنة بالبلدان العربية كانت أيضا متطورة اقتصادياً وثقافياً.
ولعل من نافلة القول سرد عثرات الجامعة طيلة فترة عملها لأكثر من ستة عقود ولم تحرك ساكنا إزاء اغلب قضاياه للأسف اكتفت بتنديد خجول من وقت لآخر، وإلا ماذا يعني تفاقم كل ما يجري حولنا من صراعات!
لقد كان النظام الإقليمي العربي غداة الحرب العراقية الإيرانية مقارنة بالسنوات التالية فرصة لتحقيق الحدود الدنيا من التنسيق والتعاون العربي حيث كان هناك نوع من التجانس عندما كان العراق في الخندق الواحد المعادي لإيران، وسعت بغداد وقتها عندما كانت عاصمة الرشيد متألقة وفي فاق مع باقي الأنظمة العربية، وحينها تم إقرار إعلان مجلس التعاون العربي والاتحاد المغاربي واللذين تلاشيا بعد غزو الكويت، بينما ظل مجلس التعاون الخليجي متعثرا نسبياً مقارنة بطموحات أبنائه والذي غدا محل انتقاد بين مواطنيه حيث لم يحقق أمالهم في الوحدة النقدية وإلغاء الجوازات ونحو ذلك، رغم تجانس تلك الأنظمة اجتماعيا وجغرافيا واقتصاديا وتنسيقها في أمور سياسية مختلفة. بعد بضع سنوات من إعلان مجلس التعاون الخليجي والذي رغم صموده إلا انه لم يكن بمستوى التوقعات والطموحات رغم تجانس شعوب بلدان المجلس اقتصاديا واجتماعيا وجغرافيا ولم يفضِ إلى تنسيق شبه كامل إن لم نقل وحدة اندماجية.
انعكست تلك النماذج على نفسية المواطن العربي والذي للأسف تطبعت في جيلنا الحالي تحديداً على طبائع تخالف فطرته فكان يتغنى بالوحدة العربية والدولة المدنية التي يسودها العدل والمواطنة المتساوية المتزامن مع توجهات اقتصادية طموحة، ونحو ذلك من قيم الدولة المنشودة والتقدم والحال غير ذلك على الأقل من قبل حكامه فهم بين ثقافة العسكرتارية أو الملكية المطلقة غير الدستورية في أغلبها إلا ما ندر، ناهيك عن تراكم ثقافات جعلت من المسؤول العربي يتمحور أخلاصة الأساسي في حزبه او طائفته ولم يصل إلى مستوى الوطن فما بالك فيما بعد القطرية، فالطائفة المقيته غدت محور الصراعات في كثير من البلدان العربية ولاسيما بلدان الهلال الخصيب التي يطوقها الهلالان الشيعي والسني، وينعكس ذلك في التفكير الجمعي للأمة بأكملها بحيث جعلت مخرجات هذا التفكير لا يميل في أحسن الأحوال ويتمحور ألا في الدولة القطرية وقد يكون مستقبلا في اجزاء المجزاء وبصيغ مختلفة!