استطاع شاب طموح، جاء من أسرة فقيرة في خان يونس بغزة، جعل الفرح يتدفق إلى قلوب الفلسطينيين بعد سنوات طويلة لم يظفر فيها أبناء غزة والضفة بلحظة فرح حقيقية ما لم تكن مخلوطة بالدم والبارود. لم يحرر محمد عساف بلداً ولم يتغلب على العدو في ساحة حرب، لم يحمل رشاشاً بيده أو يزرع عبوة متفجرة، لقد عمل شيئاً مختلفاً، لكنه يضج بالبهجة والحياة، ولذلك أحبه الناس أكثر من حبهم لبعض الدعاة والمجاهدين الكبار، إلى الحد الذي جعل من أسير فلسطيني في سجون الاحتلال يضرب عن الطعام إن لم توفر له إدارة السجن شاشة تلفزيون مساء الجمعة والسبت ليشاهد ابن بلده يغني، ويطرب الناس أجمعين.
لقد تحمست لما يفعله محمد عساف ورفاقه في برنامج «آراب آيدول»، وكتبت قبل أيام إن أفضل الجهاد في فلسطين هو التصويت لمحمد عساف أو فرح أو ثالثهم المصري أحمد جمال، وكنت حتى قبل سنوات قليلة على استعداد لمهاجمة مثل هذا النوع من البرامج، التي «توهن عزم الأمة»، ولا تحمس الناس للجهاد والقتال والغضب لأشياء لم أعد أتذكرها، غير أني لن أنسى تلك المرحلة التي أعقبت دراستي الثانوية وسمعت فيها الداعية السعودي علي القرني في شريط ديني بعنوان «حسرات».
كان القرني بليغاً، ولطالما تأثرت بالكلام البليغ والإنشاء الجميل، وهو كان فصيحاً طوال مدة الشريط، وهو يتحدث عن الحسرة التي يجنيها من «يزينون للناس الضلال ويدعونهم للفساد»، ولقد أقلعت بعد موعظة الشيخ عن سماع خالد عبد الرحمن، وعبد الكريم عبد القادر وانصرفت إلى سماع أبناء عائلة القرني وأحمد القطان وإبراهيم الدويش.
وذات ليلة أثناء مرورنا بشارع تونس التفت إلى صديقي حسن الشرماني وقلت له «لم يعد في قلبي مثقال ذرة من غناء»، بدا عليه الارتياح وتوقع لي مستقبلاً مزدهراً في الدعوة إلى الله.
لكنني مثل أي مؤمن ضعيف عدت إلى سماع الأغاني، وبدأت أفقد حماسي لترديد «خندقي قبري وقبري خندقي»، ثم رحت أتساءل: «ألا توجد طريقة أخرى للانتصار في هذه الحياة سوى القبر والخندق!».. ومع مرور الوقت اطلعت على ما كتبه الشيخ محمد الغزالي ومن بعده الشيخ القرضاوي، وهما تناولا بشكل مستفيض كل الأقوال التي قيلت في الغناء، وخلصوا إلى القول إلى أن كل ما ورد في الغناء «إما صريح التحريم غير صحيح الإسناد، أو صحيح الإسناد غير صريح التحريم».
ويؤكد الشيخ محمد الغزالي أن الفنون بشكل عام «سلوك تعبدي، لا ينفك عن الفضيلة ولا يغادرها». غير أن أجمل ما قرأته له في شأن الغناء: «من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل – مع بلادة طبعه – يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر – لقوة نشاطه في سماعه – المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره و يولهه، فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها».
وكان يمكن الإشارة فقط إلى ما كتبه الصديق محمد عمراني قبل يومين في صفحته على الفيس بوك، فهو جدير بالقراءة والتأمل، ولذلك أكتب مؤكداً ما قاله الصديق عن الفن في الإسلام الذي لا يزال عند البعض مجرد «رجس من عمل الشيطان، وحين نسمح به فإننا نوظفه فقط في التعبئة والحشد ليس للإنتاج والصناعة وإنما للقتال والموت».
نكتب عن الفرح والغناء، لكن بحذر، ذلك لأن علاقتنا بأسباب الفرح متردية في أكثر الأوقات، وفي بيئة قبلية ومحافظة مثل اليمن سوف ينظر إلى الغناء أو من يدعو له بوصفه مدعاة للتفسخ والانحلال فقط. في الوقت الذي ربما يتم النظر إلى الرجال المتمرسين في القتل والظلم وسرقة المال العام على أنهم «رجال» و»حمران عيون»، شاحطين ويستحقون الإعجاب بوصفهم «رجال من صدق».
وفي مثل هذه البيئة التي قد تقتل بسبب آراء من هذا النوع، سوف يتجاهل بعض علماء الدين القتلة وحمران العيون وينصرفون إلى التشهير بالمغنين، والمضي في شحن الآخرين للتأهب للشهادة، والموت في سبيل الله، دون أن يصعد أحدهم على المنبر ويذكرهم بأن الله محبة، وأن الله جمال، وأن هذا الدين يحث الناس على المحبة والتسامح وتعمير الأرض وإدخال السرور إلى بيوت الناس ومدنهم.
أرجو أن يأتي اليوم الذي نجد فيها الكثير من الناس الذين يشبهون محمد عساف، وهم يدخلون الفرح والبهجة إلى قلوب الناس وأفئدتهم، سواء بالغناء أو بغيره، وظني أنه لا يمكن لأي أمة أو شعب أن يأخذ بأسباب القوة أو الانتصار وهو عابس على الدوام أو يفكر بالموت والشهادة فقط.