اللقاء المشترك فكرة حضارية جسدت بحق الحكمة اليمانية. ففي مواجهة تغول السلطة في بلادنا كما في سائر بلاد العرب العاربة والمستعربة خرج اليمانيون بهذه الفكرة الرائدة. حيث أمكن للقوى السياسية الفاعلة التي ظل الاستبداد يلعب على وتر خلافاتها ليطيل أمد بقائه ويوسع دائرة هيمنته على مختلف شئون الحياة. ففي ظل الصراع بين هذه القوى التي كان يُعوّل عليها في نهضة الأوطان والشعوب صار الاستبداد هو شوكة الميزان، ويصح القول بأن ذلك تم نتيجة ذاك. وفي أتون ذلك الصراع واللعب على أوتاره، كان الاستبداد يحصل على نصيب الأسد من السلطة والثروة، بينما تقنع القوى السياسية بالفتات مقابل التضحية بمشروعاتها السياسية وبرامجها. وكانت الشعوب والأوطان هي التي تدفع الثمن لكل ذلك تخلفا وتبعية. ولكن الأفكار الرائعة كفكرة اللقاء المشترك قد لا تعني شيئاً أو قد تبقى في أحسن الأحوال مجرد فكرة رائعة، إذا لم تجد طريقها إلى الواقع لاختبارها أو قطف ثمارها. وليس معنى هذا أن اللقاء المشترك لم يحقق شيئاً. فهو منذ تأسيسه في الثامن من فبراير 2003 صار رقماً صعباً في معادلة الرئيس صالح الذي أدمن لعبة "الكروت". وكانت الانتخابات الرئاسية 2006 ذروة أداء المشترك وذروة إنجازاته حتى الآن. كما تمثل رؤية الإنقاذ ومشروع الحوار الوطني اللذان يتبناهما اللقاء المشترك ويدعمهما انجازا آخر. ومع أنه ليس من اللائق أن نقول أن مجرد البقاء على قيد الحياة السياسية واستمرار التفاهم والتنسيق بين أحزابه هو في حد ذاته إنجاز مهم، إلا أن لعبة الدسائس والحوارات الجانبية وسياسة الترضيات التي اتبعها الاستبداد ومازال يحاول اتباعها لتفتيت المشترك، كل ذلك يجعل من صمود المشتركيين على لقائهم أمرا يُحمدون عليه، ويُحسب في صالحهم. ولكن مرة أخرى.. وإزاء التحديات الكبرى المتعاظمة التي تواجهها بلادنا فإن المطلوب من المشترك بل والممكن هما أكثر بكثير مما تم القيام به حتى الآن. فأول تلك التحديات والمخاطر يتمثل في بقاء نظام الاستبداد والفساد جاثماً على صدر بلادنا وذلك ليس أهون هذه التحديات أو أقلها شأنا فالاستبداد أساس الداء ورأس البلاء. ، وثاني التحديات يتمثل في المدى الخطير الذي وصلت إليه الحرب السادسة في صعدة من حيث اتساع دائرتها وشراسة معاركها والتدخلات الإقليمية. وثالث التحديات يتمثل في التوجه المتصاعد داخل الحراك الجنوبي والذي يدفع باتجاه نقطة اللاعودة ليس من حيث العودة إلى التشطير بل وخلق مشكلات وصراعات قد ينجم عنها حالة من التشظي تعم البلاد كلها. ولا شك أن انتشار ثقافة العنف والكراهية في الآونة الأخيرة ينذر بأوخم العواقب. ورابع التحديات يتمثل في التوجه نحو تصوير اليمن كبؤرة للإرهاب من خلال تصعيد نشاط "القاعدة". وهذا التوجه، وإن كان يخدم أطرافاً تبدو أهدافها متباينة، لكنها قد اجتمعت على توظيف الأمر كلٌ لمصلحته على حساب اليمن أرضا وإنسانا. كل هذه التحديات والمخاطر الراهنة والقائمة على قدم وساق لا تحتمل التأجيل لحظة واحدة وتتطلب من اللقاء المشترك رؤية جديدة عاجلة. وفيما يلي خمس ملاحظات على عمل المشترك ومسيرته واقتراحات محددة لإصلاح المسار: أولا: ضرورة تصحيح مفهوم النضال السلمي، فهو لا يعني الانتظار والصبر الجميل لما يمكن أن تسفر عنه الأحداث والمستجدات المتلاحقة، أو مجرد طرح البيانات وإعلان المواقف. كما أن النضال السلمي لا يعني الدفع باتجاه التغيير والإصلاح بالآلية التي تقوم على النصح أو النقد. فهذه كلها وإن كانت تمثل بعض أدوات النضال السلمي وأدواته وشروطه إلا أنها غير كافية وغير مجدية في حد ذاتها، على الأقل في مثل الأوضاع التي تمر بها بلادنا. حيث أن تلك الأوضاع التي سبقت الإشارة إليها، تفرض على اللقاء المشترك ككل وعلى الأحزاب المنضوية تحت لوائه تفعيل الجهود والاستعداد للتضحية بالمصالح الضيقة وتصعيد تلك الجهود والتضحيات في محاولة دؤوبة للخروج من النفق المظلم أو للابتعاد عن حافة الهاوية التي يقود نظام الاستبداد والفساد بلادنا إليها. ثانيا: التوقف عن ممارسة الحوار العبثي مع السلطة بمختلف مستوياتها بدءا من رأسها ومرورا بتجسيداتها المختلفة وصولا إلى مستشاريها. فمثل هذه الحوارات ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها مضيعة للوقت والجهد، خاصة أن كل ما سبق من الاتفاقات قد تم نقضها أو الالتفاف عليها وإفراغها من مضمونها. إن الحوار لا يكون إلا بين أكفاء، أما حين يستقوي طرف بإمكانيات الدولة ويسخرها لمصلحته فإن الحوار معه يعني استجداءه أو الخضوع لابتزازه واشتراطاته. والبديل الحقيقي في هذه الحالة هو السعي الحثيث لعقد مؤتمر وطني تجلس فيه كل الأطراف على قدم المساواة وتُطرح فيه كل القضايا للبحث والنقاش في سبيل تأسيس جديد للجمهورية وحماية وحدة وأمن اليمن. ثالثا: عدم إلقاء اللوم على الشعب أو بحسب تعبير البعض "الشارع" في عدم وجود أفق للتغير والخروج من الدوامة. وكذلك عدم انتظار تحرك الجماهير أو الاعتقاد بأنه يمكن تحريكها بالطلب والأمر. إن الجماهير إذا تحركت من تلقاء نفسها أو تحت تأثير الانفعال والغضب أو التحريض والإثارة، فإنه لن يمكن السيطرة عليها بعد ذلك، كما أن نتائج ذلك التحرك ستصب غالبا في غير صالح التغيير السلمي نحو الأفضل. والحقيقة أن النخبة هي من يستحق اللوم على انسداد أفق التغيير وليس الشعب أو الجماهير. ولو وجد الشعب من يضرب له المثل والقدوة في الحركة والتضحية فسيخرج، وسيفرض إرادته ويحمي مصالحه. إن القضايا النظرية المتعلقة بالجانب السياسي رغم أهميتها وخطورتها لا تشغل بال المواطنين كما تشغلهم القضايا المعيشية. فغلاء المعيشة والبطالة المتفشية الناجمة عن الفساد المالي والإداري هي قضايا تهم الناس أكثر من قضية التداول السلمي للسلطة أو حتى توريثها. كما أن قضية ضياع حقوق المواطنين وانتهاك حرماتهم وغياب الأمن والعدل هي أعظم عند الله وعند الناس من قضايا الانتخابات والحوارات بين السلطة والمعارضة. فقضية الشهيد الحامدي أو المواطن حمدان دارسي أو المواطنة أنيسة الشعيبي والتهجير الأول والثاني لمواطني الجعاشن وصولا إلى اختطاف الكاتب والسياسي محمد المقالح، كل واحدة من هذه القضايا ينبغي تحويلها إلى قضية رأي عام والاحتشاد حولها ومن أجلها حتى يزول الظلم ويتحقق العدل. رابعا: مع تقدير أن اللقاء المشترك تجمع لأحزاب لها توجهاتها وبرامجها الخاصة، ولكل منها هياكله الإدارية والقيادية، إلا أنه من المفترض بهذه الأحزاب وقد آمنت باللقاء كفكرة وضرورة أن تزيد من نسبة تماهيها – حتى لا نقول اندماجها – في كيان اللقاء المشترك. ولا يكفي في هذا الخصوص صدور بيانات مشتركة أو إعلانات للمواقف والرؤى، كما لا يكفي أيضا عملية تدوير المناصب القيادية على مستوى الجمهورية وفي المحافظات. والأمر الأخير – أي تدوير المناصب – قد تحول من وجهة نظر كاتب هذه السطور إلى عملية إعاقة. فهي وإن كانت تتم بحسن نية وبدافع ديموقراطي صارت أشبه ما تكون بلعبة الكراسي الموسيقية في ظروف لا مجال فيها للعب أو التدوير أو الدوران خاصة وأن الأمر يتم في فترة زمنية قصيرة. ونتيجة لتدوير المناصب القيادية يخسر اللقاء المشترك تراكم الخبرة لدى تلك القيادات، كما يخسر إمكانية تقديم تلك القيادات للجماهير. وبعد أن تبلورت في مرحلة سابقة قيادات مشتركية من أمثال محمد قحطان ومحمد الصبري ومحمد عبدالملك المتوكل وياسين سعيد نعمان، صارت الوجوه اللاحقة – مع تقديري لها - تمر سريعا ولا يعلق بالذاكرة منها أحد. وفي اعتقاد كاتب هذه السطور أنه ينبغي تجاوز آلية التدوير العقيمة واعتماد آلية جديدة تفرز ما يمكن تسميته بقيادة طواريء يُستفاد في تكوينها من أكثر القيادات الحزبية خبرة وقدرة على التأثير الجماهيري والإعلامي. خامسا: لاشك أنه لا يمكن تجاهل التدخلات والمصالح الإقليمية والدولية في بلادنا. وكل بلاد العالم لا تخلو من مؤثرات خارجية في أوضاعها الداخلية، مع اختلاف الدرجة من مجرد تأثير متبادل إلى علاقة تابع ومتبوع. ولا شك أيضا أن نظام الاستبداد والفساد وظف ويوظف العلاقات الخارجية لخدمة ديمومة الكرسي من خلال التأكيد الدائم للقوى الإقليمية والدولية بأنه خير من يمثل ويحمي مصالحها، وأن رحيله أو غيابه عن الساحة اليمنية سيهدد مصالحهم أو يؤدي على أقل تقدير لحالة من عدم الاستقرار لا يمكن التنبؤ بنتائجها وعواقبها. وفي ظل الأزمة الطاحنة التي تمر بها بلادنا فإن هذا النظام لم يتورّع عن السعي لجلب تدخلات إقليمية ودولية وعسكرية وسياسية أو الاستجابة لتلك التدخلات للهروب من تحمل المسئولية واستحقاقات التغيير. وانعقاد "مؤتمر لندن" وما يترتب عليه وما يسفر عنه يجب أن لا يجعل اللقاء المشترك يقف موقف المترقب وأن لا يجمد مشروعه ونضاله السلمي أو يضعف وتيرته. بل من الواجب أن يقدم نفسه كبديلٍ مشروع يحقق أمن واستقرار وتقدم وازدهار اليمن. إن القوى الخارجية تبحث عن مصالحها، وهي لن تتورع عن المساس بمصالح الشعوب الأخرى، بل وعدم الاعتراف بها ومصادرتها، وما لم يُقدم أبناء تلك الشعوب ونخبها السياسية مشروعا متجسدا على أرض الواقع ليفرضوا احترام سيادة ومصالح بلادهم فإن هذه البلاد ستكون نهبا للذئاب والفوضى. هذه خمس ملاحظات يتقدم بها كاتب هذه السطور إلى قيادات المشترك وكوادره وأنصاره، وهي لا تعني التشكيك في قيادات المشترك أو أطرافه، وإنما هي دعوة لتفعيل اللقاء وإعطائه وتيرة وزخما جديدين. كما أن هذه الملاحظات تجيء في وقت تهب فيه رياح عاتية في أرجاء الوطن قد تأتي بما لا تشتهيه سفن التغيير السلمي الحضاري، إذا ظل اللقاء المشترك يعمل على الوتيرة الحالية نفسها.