قبل وفاته بحوالي شهرين كنت في صنعاء لأجل معاملة تخصني وبينما أنا راكب معه في سيارته بالقرب من الجامعة القديمة قال لي تمنيت أن أساعدك في معاملتك لكنني إخواني يقيمونني هكذا وربما أضرك أكثر مما أنفعك. كان ذلك بعد استقباله لي في مؤسسته (الناس) للصحافة بكل حفاوة وترحاب معرفا بي زملاؤه العاملين في الصحيفة مما أعاد الى نفسي تجديدا وارفا لماضي زمالة دراسية وانبعاث أخوة من جديد بعد سنوات من الفرقة.. رغم المفارقة في استقلاليتي وانتسابه الى تجمع الإصلاح إلا انه زرع في نفسي ميولا اكسبني إجلالا للكثير منهم. لقد مثل رحيل الأستاذ حميد وقعا شديدا مؤثرا في نفوس أصدقائه ومحبيه الذين أثر فيهم وسكن مشاعرهم طيلة رحلة حياته المفعمة بالحب للناس حتى مع مخالفيه في الرأي. والمستقرئ لرسائل العزاء في وفاة الأستاذ حميد من قبل الشخصيات الهامة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني يدرك أهمية الرجل ومكانته الاجتماعية والصحافية التي كان يحظى بها على الصعيد السياسي والتنظيمي وما رسالة العزاء من قبل المرشد الأعلى للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف إلا دليل على ما كان يحظى به المرحوم من مكانة واجلال. وحظوة إخوانية.
عرفته زميل دراسة في الإعدادية لكنها لم تكن تجمعني به زمالة عادية إنما أخوة وألفة واعجاب ببعضنا كان نشيطا متفردا علي زملائه بكثير من الصفات النادرة التي والقدرات ما تجتمع في شخص إلا وكان نابغة في مجتمعة وعلامة فارقه يشار اليها أهل عصره من خلال بصماته المشعة في القلوب والعقول. فبالرغم من حداثة سنه آنذاك إلا ان نشاطاته سبقت عمره إذ بدأت بوادر تأهله تظهر من خلال منبر الإذاعة المدرسية ونشاطاته الصحافية الحائطية وبعض المقالات الأولية التي بدأ يرسلها الى الصحف كصحيفة الثورة ومن ثم صحيفة الصحوة ويطلعنا عند نشرها.
لقد وصل الأستاذ المرحوم الى ما وصل اليه بجدارة وعبر مراحل متدرجة طارقا أبواب المجد متخذا من وسائل الوصول الشريفة طريقا الى طموحاته وغاياته حتى صار رحمه الله نجما ساطعا في سماء الصحافة اليمنية وكان لصحيفته (الناس) رواجا واسعا وتقبلا مطردا فقراؤها مداومون على استطلاع جديدها مقارنة بالصحف الأخرى. ولقد تكللت مسيرته الصحافية والكتابية بإصداره لكتابه القيم والشهير والموسوم ب(مصرع الابتسامة) المتضمن كيفية سقوط مشروع الدولة الإسلامية في اليمن التي كان يراد لها أن تكون نتاجا لثورة 1948م والذي أود الولوج هنا في الحديث قليلاً عن كتابه ذاك لارتباط وتشابه احداث ثورة 48م بأحداث ثورات الربيع العربي في وقتنا الحاضر من حيث دور الإخوان المسلمين وضلوعهم في الأحداث الثورية.
لقد فند الأستاذ المرحوم في كتابه الإرهاصات والإعدادات التي سبقت ثورة 1948م ومن ثم أحداث والثورة وما كان للإخوان المسلمين من دور رئيسي ومحوري في مساندة الثورة منذ مراحلها الأولى في منتصف الأربعينيات تمثل ذلك الدعم مجالات متعددة علي الصعيد المادي والسياسي والاعلامي والصحافي ومآ أحرزه الفضيل الورتلاني من جمع لشتات قوى المعارضة اليمنية وحصر القواسم المشتركة فيما بينها وتوحيد جهودها وجمع كلمتها علي ما تضمنه الميثاق الوطني المقدس وما تلى ذلك من خسران النجاح ومصرعا للفرحات والابتسامات التي كانت أمل كل يمني في اخراج وطنه من العزلة ومواكبة ركب الحضارة في بقية البلدان والذي لأجله سمى كتابه فقيدنا بمصرع الابتسامة..
وهو بهذا الكتاب ينعي ثورة 1948م التي كان مالها الفشل واقتياد رجالاتها وقادتها إلى المقاصل وساحات الإعدام في حجة. ويستعرض في كتابة مراحل دعم الثورة من قبل الإخوان المسلمين في مصر والنتائج الخاسرة والصورة المؤلمة لوضع الأحرار واعتبار الإخوان المسلمون أن قضية اليمن كلفتهم الكثير وفتحت عليهم جبهات متعددة في الداخل المصري من القوى المعادية والأحزاب المصرية للإخوان والتي أوغلت من خلال صحافتها في توجيه اللوم على الاخوان المسلمين والتبعات في مقتل إمام اليمن. تلك الأحزاب القومية واليسارية التي كانت تقف في الشارع المصري ندا سياسيا للإخوان ووجدتها فرصة للحد من تزايد شعبية الإخوان والتي شكلت تلك الأحزاب جبهة واحدة في مواجهتهم. بل وجعلت حركتهم تحت الرقابة الملكية والاستعمارية.
وها هو التاريخ يعيد نفسه وبصورة أكبر ومصرع للابتسامة المصرية الأم وان كانت متأخرة لكنها الأم من الوجهة التنظيمية الإخوانية في عالمنا العربي وليت فقيدنا الراحل أدرك مضت هذه الابتسامة وسقوطها. ليته أدرك رياح التغيير في دول الربيع العربي ليضفي على كتابه ما حصل من ابتسامات سرعان ما امتزجت بروائح البارود والكيمياء وركامات من الأشلاء وانهارا من الدماء والدموع في سبيل الانعتاق والتحرر من أنظمة مستبدة طال عليها الأمد فقست قلوبها في مواجهة شعوبها فتحولت تلك الابتسامات الى ابتسامة باهتة أو نصف ابتسامة! مشوبة بالخراب والتوجس.
ولكم كان عزاء فقيدنا كبير لو كان بيننا في مصرع الابتسامة الأم ابتسامة البناء المؤسس تلك التي بدت عريضة في قلب كل عربي مسلم لاسيما في قلب كل من يرى في الإخوان المخلص للأمة من المهانة الواقعة فيه ردحا من الزمن وكانت ثورة ال 25 من يناير 2011 بوابتها الرئيسية وما أعقبها من فوز كاسح للإخوان في الوصول الى سدة حكم أرض الكنانة لكن لو يدري فقيدنا الراحل أن هذه الابتسامة بقدر ما كانت عريضة مدوية ما لبثت أن سقطت وتحولت الى مآس وأحزان بفعل العسكر والعمالة التي لا تريد لشعوبها إلا أن تبقى في مؤخرة الركب بعد أن كانت تأتي اليها البعثات للدراسة من اليابان وغيرها أبان عهد محمد علي باشا! خيانات للأمة بداية من ابن العلقمي ونهاية بسيسي مصر وأن اختلفت الوسائل والطرق.
لكن اخوان مصر وشعبه العظيم مازال يكابد الدموع وينفض غبار الحسرة عاملا على استرداد ثورته وحريته التي لو اتيح لها البقاء لكانت عاملة في سبيل النهوض بمصر كباقي الشعوب الإسلامية التي عملت وتعمل على استرداد مكانتها الحضارية في هذا العصر كتركيا وماليزيا وغيرها. لكن فقيدنا المرحوم يدرك تماما الاسم ميسور ابتسامته التي كتب عنها ليست الأولى ولا الأخيرة وأنه مهما تسقط الابتسامات فإن المسيرة الإخوانية مستمرة وإن الابتسامة الكبيرة موعودة..
وأخيرا أدون هنا ماقلته في سميي وصديقي المرحوم فقيد الصحافة اليمنية عند قراءتي لمقالته - إن غيبني الموت -:
ياصديقي غابت الشمس ضحى واكفهر الافق في سهل ووادي
عندما غيبت.. حققت الرؤى وقضاء حل في غير معاد
لم اكن مستوعبا ماذا جرى لم اعد افرق.. غيي ورشادي
فغدا كل جميل في الدني دونك ياصاح .. لايروي فؤادي
كلها الألوان لا حسن بها إنما توحي سوادا في سواد
منذ غادرت فضاءاتي انا أرقب النجم وفي التيه أنادي عل طيف منك ينسيني الأسى ويعد كوني كما كان اعتيادي
إنها الذكرى تؤرق مهجتي ثم تخبرني.. لقد حان كسادي
لم أعد أشتم إلا ورقا كنزت فيها أناملك مرادي
والصحافات غدت من بعدكم ورقا صفراء عافتها بلادي
ياسميي لم يعد لي رغبة دونك في العيش. جئني لاقتيادي!